تاريخ النشر2014 24 October ساعة 22:37
رقم : 170378
القسم الاول

الخطاب الفقهي الإسلامي: بين لاهوتية التجديد وضرورة التفكيك

تنا
إن الحديث عن الدّين الإسلامي في عصرنا الراهن حديث ذو شجون، يتقاطعه ما هو سياسي بما هو ثقافي وفكري؛ ولا يمكن بأي حال من الأحوال الوقوف على "حقيقة" هذا الدّين دون الرّجوع إلى النّصوص المؤسِّسة له تاريخيا، بدءا من النّص المؤسِّس "القرآن".
محمد او الطاهر
محمد او الطاهر
       
     
كتبه: محمد أو الطّاهر
 
كان التجديد الفقهي مرحلة من مراحل إعادة قراءة التراث الإسلامي، إلا أننا نحتاج اليوم أكثر مما مضى إلى ولوج مرحلة التفكيك الفقهي بلغة دريدا، أي تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر في تشكلها التاريخي، والوقوف على البؤر الأساسية المطمورة فيها والتي لا تزال تَحبل بإمكانات جديدة.
     
مقـدمـــة:
 إن الحديث عن الدّين الإسلامي في عصرنا الراهن حديث ذو شجون، يتقاطعه ما هو سياسي بما هو ثقافي وفكري؛ ولا يمكن بأي حال من الأحوال الوقوف على "حقيقة" هذا الدّين دون الرّجوع إلى النّصوص المؤسِّسة له تاريخيا، بدءا من النّص المؤسِّس "القرآن".
 
بيد أن إشكالية ضبط دلالة النّص المؤسِّس قد لا تستقيم دون الوقوف على مجموع إفرازاته التّاريخية، والّتي كانت إرادة السّلطة محرّكها بامتياز. ويُعتبر الفقه إمكانا من إمكانات هذا النّص المؤسِّس، الذّي حاول تاريخيا الإنفراد بدلالته ومعزاه؛ إذ على الرغم من التعدّد والتنوّع الذي عرفه مجال الفقه الإسلامي، إلا أنه لا يزال مُنخرطا في المنظومة اللاّهوتية القائمة على ثنائية المقدّس والمدنّس.
 
ساهمت هذه الثنائية في بلورة خطاب إقصائي وأحادي داخل منظومة الفقه الإسلامي، من خلال خطاب السّلطة الذي كان مُهيمنا في فترة تشكّله التاريخي؛ ويُعتبر فقه المرأة كاشفا عن ميكانزمات هذا الخطاب السّلطوي في بُعده الذّكوري والبّطريركي الذي ما يزال حاضرا في أبجديات الخطاب الفقهي المعاصر رغم التّجديد الذي لحقه عبر التاريخ.
 
إنّ الحديث عن الأصل في المنظومة اللاهوتية حديث ميتافيزيقي؛ إذ إنّ الأصل بلغة اللاهوت لا يقبل التعدّد، فهو مرادف الوحدة والسكون والإطلاق، بينما الأصل كما علّمتناه الفلسفة المعاصرة، هو الوحدة في تشظّيها وتعدّدها وفي قابليتها للترجمة اللامحدودة، بل في إرجائها الدائم والمستمر، على غرار الجنيالوجيا النتشوية (نيتشه)؛ الشيء الذي يُضفي على الفكر طابع النّسبية والتأويلية، ويساهم في تجاوز التّقابلات الميتافيزيقية التي تسكن الدّين والتّاريخ واللّغة.
 
إن مقولة تجديد الفقه الإسلامي مقولة مُغرضة ومُصادرة على المطلوب، لأنّها لا تقف على بداهاتها اللاّهوتية؛ وهذا ما نجده مثلا في كلام القرضاوي عندما يؤكد إن "التّجديد الحق هو تنمية الفقه الإسلامي من داخله، وبأساليبه هو، مع الإحتفاظ بخصائصه الأصيلة وبطابعه المميز"، حيث إن " التّجديد (في نظره) لا يعني أبدا التّخلص من القديم أو محاولة هدمه، بل الإحتفاظ به، وترميم ما بلي منه، وإدخال التحسين عليه."
 
من هنا ضرورة التّفكيك بدل التّجديد بخصوص الفقه الإسلامي، وذلك من أجل الوقوف على البداهات التي ما يزال الفقه الإسلامي مرتبطا بها تاريخيا، إذ لا يمكن إحداث "جدّة" و"طفرة" في مجال الفقه الإسلامي دون الوقوف على أشكال تشكّله تاريخيا وليس تاريخانيا، حيث إن الإفرازات التاريخية للإسلام بما فيها الفقه الإسلامي ما هي إلا إمكان من إمكانات الإسلام من خلال نصِّه المؤسِّس المتعدد الدلالات، والذي لم يستنفذ إمكاناته عكس ما ذهب إليه أصحاب التصور الوضعاني.
 
إن الإمكانات المتعدّدة للنّص، أي نص، هي ما جاءت لتقف عليه الفلسفة المعاصرة من خلال مقولات: لا مفكر النّص، المسكوت عنه، موت المؤلّف، الزّمن كمترجم؛ ولابد في نظرنا استثمار ما وصلت إليه العلوم الإنسانية عموما والفلسفة على وجه الخصوص، من أجل إعادة قراءة تراثنا الإسلامي بما فيها التّراث الفقهي، من أجل الوقوف على تجليات تشكّله التّاريخي المُرتبط
بإرادة السّلطة وإكراهات السياسة وتأثيرات الثقافة والمجتمع، وكذا من أجل القبض على إمكاناته المسكوت عنها.
 
قد يُسعفنا المنهج التّفكيكي إزاء الخطاب الفقهي، بعيدا عن التّأويلات التّاريخانية والإيديولوجية، من تحرير الدّين من الحمولة الثّقافية واللّغوية والجغرافية التي تم تحديد جوهره فيها؛ وذلك من خلال تجاوز مرحلة "تفقيه الحياة" التي انحصرت فيها وظيفة الدّين في التّشريع الجزئي والتفصيلي للحياة الفردية والجماعية، وصولا إلى مرحلة "ترويح الحياة" من خلال فتح آفاق الدّين الروحية والكونية والإنسانية التي تتعالى على الشّروط السّياسية والإيديولوجية والثّقافية.
 
ليس هدف التّفكيك – على حد تعبير دريدا- هو الكيد للنصوص وتبيان تهافتها، بل إن الهدف هو الوقوف على ما تَحبل به من إمكانات من خلال مساءلتها على ضوء روح العصر؛ من هنا تكون عملية التفكيك حباّ للنّص ووفاء لروحه وتقديرا لمؤلّفه. 
 
إن الدّعوة إلى تفكيك الخطاب الفقهي لا تعني الحكم عليه بالإيجاب أو السّلب، بل اعتباره خطابا بالمعنى الفوكوي (ميشيل فوكو)، أي ممارسة لها أشكالها الخصوصيّة من الترابط والتتابع، فهو ليس موقعا تقتحمه الذّاتية الخالصة أو لغة بريئة يُمكن ضبطها، بل إنه فضاء لمواقع وأنشطة متباينة للذّوات؛ إنه فضاء للفعل والرّغبة والسّلطة والإنتشار والتوزّع، مسرح للإستثمار واستراتيجية تُحدد المكتوب والمرئي والمنطوق. والهدف ليس هو البحث في صدق أو كذب الخطاب، بل الوقوف على شروط تكوّنه وقوانين بناءه وعلاقات توزّعه وكيفية اشتغاله.
 
يدفعنا البحث في كيفية تشكّل المعنى تاريخيّا إلى استجلاء علاقة المعرفة بالسّلطة، ليس في تقابلهما بل في تماهيهما، أي من خلال التبادل الداخلي والتوتر المُتبادل، ليس بين المعرفة والسلطة، بل داخل الموقع الذي لا يجدان منه انفصالا حيث يتماهيان كأنهما نفس الشيء، بل هما نفس الشّيء.
 
إن القول بالخطاب الفقهي بدل الفكر الفقهي له ما يبرره، إذ إنّ تحليل الفكر "هو دوما تحليل يسعى  إلى البحث عن المعنى الحقيقي وراء المعنى المجازي"، أما تحليل الحقل الخطابي فهَمُّه الأساسي "هو التعامل مع العبارة كشيء قائم الذات، لا يُحيل إلى مستوى آخر، والنظر إلى ما في خصوصيتها وتميزها كحدث لا أصول له، وتحديد شروط وجودها، وتعيين حدود تلك الشروط بكيفية دقيقة وواضحة أكثر"؛ لا نسعى إذن من وراء تحليل "حقل الخطاب الفقهي" إلى البحث وراء ما هو ظاهر، بل إظهار لماذا هو صعب على هذا الخطاب أن يكون غير ما كان، ولماذا يتميز باحتلال مكانة لا يَقدر أي خطاب آخر على أن يَشغلَها، ونعني هنا الخطاب الصّوفي والفلسفي أساسا. (ما الأسباب وراء هيمنة الخطاب الفقهي على حساب الخطاب الفلسفي والخطاب الصوفي؟).
 
إن الإشكالية التي سنحاول مُقاربتها في هذا البحث، هي كالآتي: إلى أي حدّ ساهم التّجديد الفقهي تاريخيا في الخروج من مأزق الميتافيزيقا من خلال ثنائية المقدّس والمدنّس؟ وكيف ارتبط الخطاب الفقهي بإرادة السّلطة في بعدها السّياسي والثقافي من خلال فقه المرأة ككاشف عن ميكانيزمات الهيمنة الذّكورية؟ وكيف يمكن أنسنة الخطاب الفقهي، بلغة محمد أركون، من خلال استثمار نتائج العلوم الإنسانية (الأنثروبولوجيا، اللسانيات، التحليل النفسي، الفلسفة...) في إعادة قراءة التّاريخ الفقهي الإسلامي؟ وإلى أي حد تعتبر فلسفة التفكيك، كما قاربها جاك دريدا، ضرورة في مجال إعادة قراءة الخطاب الفقهي من خلال مجاوزة الميتافيزيقا في ثنائياتها اللاهوتية: المقدس/المدنس، الخير/الشر، الحلال/ الحرام...إلخ؟
 
من أجل مقاربة هذه الإشكالية، نقترح تصميما قد يُسعفنا في ضبط بعض أوجه الإجابة على إشكاليتنا التي لا تهدف إلى تأسيس حقيقة ما، بل بالعكس ترنو الخروج من تجليات الحقيقة التي هي في عمقها تنوّع وتعدّد.
 
في مرحلة أولى، سنحاول الوقوف على الأبعاد التّاريخية والسّياسية التي كانت وراء تأسيس الخطاب الفقهي، وتبيان أوجه العلاقة بين السّلطة والثّقافة والسّياسة، خاصة من خلال ما يسمى بـ"فقه المرأة".
 
في مرحلة ثانية، سنَعْمَد إلى تسليط الضوء على الثنائيات الميتافيزيقية
التي تَسكن الخطاب الفقهي من خلال رؤيته للحياة وتصوره للدّين وقراءته للنص المؤسِّس وفهمه لعلاقة الفكر بالواقع.
 
في مرحلة ثالثة وأخيرة، سنقف على آفاق الكونية التي يمكن أن يسمح بها الفقه الإسلامي من خلال ''لا مُفكره''، ويفتحها من خلال تفكيك لغته وإعادة ترجمته، واستنادا إلى سؤال الحاضر وقيم الكونية؛ في أفق تشكيل هوية متعددة وقابلة لاستيعاب كل أشكال الوجود الإنساني الراقي.
     
المبحث الأول:
في تاريخية الفقه الإسلامي: بين خطاب السّلطة وسلطة الخطاب
 
يُمكن القول إن الفقه في الفكر الإسلامي قد حظي بمكانة كبرى، لاسيما إذا أخذنا في الإعتبار غزارة الإنتاج الفقهي ضمن ما يسمى بالعلوم الإسلامية قديما وحديثا، بالإضافة إلى مختلف جوانب الحياة الفردية والجماعية التي تطالها سلطة الفقه.
 
إن هذا المعطى هو ما دفع بمحمد عابد الجابري إلى اعتبار الحضارة الإسلامية حضارة فقه، فـ "سواء نظرنا إلى المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية من ناحية الكمّ أو نظرنا إليها من ناحية الكيف فإننا سنجد الفقه يحتل الدّرجة الأولى بدون منازع".
 
لابد بداية من الوقوف على دلالة الدّين الذي على أساسه تَكوّن الفقه، حيث يمكن تحديده في كونه قوة اجتماعية وعامل أساسي في حركة المجتمع، كما أنه أيضاً موضوع وجودي وميتافيزيقي بامتياز؛ إلا أن جوهر الدّين ينفلت من قبضتنا، كونه يتوارى خلف الخطابات اللاهوتية والأرثوذكسية التي تحتكر قراءته وفهمه؛ فالبحث عن "الإنسان الدّيني" – حد تعبير مرسيا إلياد- من خلال تجاربه المتعدّدة والمتنوّعة، لا يفتأ يصطدم بجدار المؤسّسات إن لم نقل النّصوص الدّينية الرّسمية التي تحول دون تحقيق إمكاناته المُضمرة في الوجود الإنساني.
 
إن الدّلالة الأولى لكلمة "الفقه"، أي الفهم والرّبط بين قيم الدين وواقع الناس، جعلت دور الفقيه دور الوسيط، ولأن الوسيط عادة ما يُحاط بهالة من التّقديس (الأنبياء كوسطاء)، أورث ذلك الفقهاءَ سلطة "كهنوتيّة" جعلتهم يتصرّفون في المقدّس وينصِّبون أنفسهم الناطقين الرسميين باسم السّماء.
 
إن سلطة النصّ الذّهنية حالت دون تمكّن الفقهاء من الخروج من حدّ الكتاب والسنة قصد تطوير فقه مدني ومنهج في الفكر الوضعي (بمعناه الإيجابي)، إضافة إلى سلطة السياسة التي كانت وراء اختزال الدّين في جانبه التّشريعي على حساب الرّؤية الكونية والإنسانية للوجود، مما أدى إلى التضخّم الفقهي والضّرب في كونيّة الدّين، وذلك لأنّ العقل الفقهي لا يزال يُعالج قضايا الإنسان والدولة والمجتمع من خلال النسق المنهجي الذي وضعه فقهاء القرن الثاني الهجري ومن تلاهم.
 
لقد أصبح الفقه مهيمنا على كل مناحي الحياة الفردية والجماعية؛ فهو حاضر في المأكل والمشرب والملبس والجنس والفن والموت والحياة، ولعل ما نشاهده اليوم في القنوات الفضائية من برامج تُفتي في كل صغيرة وكبيرة دليل على استمرار تلك الذّهنية الفقهيّة في ثقافتنا التي أصبحت قائمة على ثنائية الحلال والحرام.
 
ولأن أصول الفقه هي بمثابة المنهج والنظرية العلمية الوحيدة التي يُمكن للمسلم أن يفهم بها دينه وواقعه، بل تُمثّل - على حد تعبير الشيخ مصطفى عبد الرازق- النظام الذي انبثق من الرؤية الكونية الإلهية؛ يصعب مع ذلك إعادة النظر في أسسه لكونه أصبح جزءا من المُقدس، وأي قول جديد في أصول الفقه هو ضرب في قدسية الكلام الإلهي، الشيء الذي يمكن أن يُدخل قائله خانة الزّندقة والردّة والكفر.
 
أُولى مراحل تفكيك الخطاب الفقهي هي نزع هالة التقديس عن الفقه وأصوله، وذلك باعتبارها اجتهادات بشرية يجب فهمها في تشكلها التاريخي قصد تجاوزها وتوسيع آفاقها، فلكي تكون نظرية الفقه نظرية علمية - بلغة كبلر- يجب أن تكون قابلة للخطأ والتجاوز.
 
هذا ما سنحاول مقاربته في هذا المبحث، في محاولة منا للإجابة على بعض أوجه السؤال التالي: من أين استمد الفقه الإسلامي تلك السلطة التي طالت ولا تزال تطال جميع مناحي الحياة ؟ وكيف تم إدماج الفقه كمنهج لضبط عملية الإجتهاد في فهم نصوص القرآن واستنباط الأحكام منه، ضمن آليات السلطة السياسية الخبيثة بطبعها الأنطولوجي؟ 
  
https://taghribnews.com/vdcfexdycw6dema.kiiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز