تاريخ النشر2017 15 October ساعة 10:30
رقم : 288710

الأسلوب الرِّساليّ للإمام زين العابدين(ع)

تنا
لقد رأى الإمام(ع) أنَّ الأمَّة تحتاج في تلك المرحلة (بعد واقعة كربلاء) إلى إعادة تأهيل، لتخرج من جهلها وضعفها وهزيمتها الّتي كانت السَّبب في خذلانها للحسين(ع)، وللإمام الحسن من قبله، وقد تميّز أسلوبه باستخدام الدّعاء لبلوغ هذا الهدف، فتحوَّل الدعاء عنده من كونه تواصلاً روحيّاً ووجدانيّاً بين الإنسان وربِّه، إلى وسيلة تغيير للمفاهيم والسّلوك،
السيد علي فضل الله
السيد علي فضل الله
السيد علي فضل الله
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. صدق الله العظيم.

تعود إلينا في الخامس والعشرين من شهر محرَّم الحرام، ذكرى وفاة واحد من أهل هذا البيت الطّاهر، الذي عندما تحدَّث عنهم رسول الله(ص)، قال: "إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله، وعترتي أهل البيت"، وهو الإمام عليّ بن الحسين(ع) زين العابدين وسيّد السّاجدين.

معاناة زين العابدين(ع)
هذا الإمام الذي عندما يُذكَر، فإنّه تذكر معه أصعب المراحل التي مرَّت على بيت رسول الله(ص)، فقد شهد واقعة كربلاء بكلّ مجرياتها، وقد كان خلالها عليلاً لمرضٍ أصابه، وأمام عينيه، وعلى مرأى منه، استشهد أبوه الحسين(ع) وإخوانه وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه. وهذا أقسى ما قد يواجهه إنسان، فنحن الآن بعد أربعة عشر قرناً ونيِّف، تعتصر قلوبنا ألماً عندما نستمع إلى مجريات كربلاء، فكيف بمن شهدها عن قرب؟!

وبعد الانتهاء من المعركة، عانى الإمام زين العابدين(ع) معاناة السّبي، وقهر الأسر مع عمّاته ونساء كربلاء، لكن كلّ هذه الآلام والمصائب والأحقاد وأغلال الأسر، لم تضعف ولم تهن من عزيمته، فهو بقي صلباً صلابة الإيمان الّذي عاشه في قلبه، والمسؤوليَّة التي تحمَّلها بعد استشهاد أبيه(ع). ولذا رأيناه يقف بكلِّ عنفوان أمام عبيد الله بن زياد مخاطباً إيّاه: "أبالقتل تهدِّدني يابن زياد؟ أما علمت أنَّ القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشَّهادة؟".

وهذا العنفوان هو ما واجه به يزيد المنتشي بما حسبه نصراً: "يابن معاوية، لقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب في يوم بدر وأحد والأحزاب، في يده راية رسول الله(ص)، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار"، وقوله: "ويلك يا يزيد، إنَّك لو تدري ماذا صنعت، وما الّذي ارتكبت، إذاً لهربت في الجبال، وافترشت الرَّماد، فأبشر بالخزي والنّدامة".

وبوصول الإمام(ع) إلى المدينة؛ محطّ رحله، والموقع الذي سيقوم منه بمسؤوليّته، كان عليه أن يقف في وجه أيّ تداعيات سلبيّة حصلت بعد كربلاء، وأن يجهض أهداف السّلطة الأمويّة التي أرادت من خلال فعلتها إخماد روح الثّورة التي أطلقها الحسين(ع) وأيّ صوت يعارضها.

وقد انقسم الناس بعد انتهاء معركة كربلاء إلى ثلاثة اتجاهات: فهناك من الناس من انهزم بفعل ما جرى في كربلاء، وقرّروا الانضواء تحت لواء يزيد، والقبول بمشروعه، انطلاقاً من مقولة أنَّ اليد التي لا تستطيع أن تكسرها قبّلها. وهناك من النّاس من قرَّر الانزواء والابتعاد عن الحياة السياسيَّة والقضايا العامَّة، مؤثراً السّلامة، والقول: ما لنا وللدخول بين السّلاطين. وهناك من تحرّك ليثأر من الأمويّين. وقد سجّلت في ذلك العديد من الثورات التي قضّت مضاجع الحكم الأموي، منها ثورة أهل المدينة، وثورة التوّابين، ثم ثورة المختار الثّقفي في الكوفة، وثورات أخرى.

أيَّ خيار اتَّخذه الإمام(ع)؟!
لقد قام الإمام زين العابدين(ع) بدوره، وهو ـ بالطَّبع ـ لم ينكفئ أو ينعزل، كما أوحى بذلك البعض، أنَّه انكفأ للعبادة والدّعاء والبكاء على ما جرى في كربلاء.

نعم، لم يأخذ خيار الثَّورة المباشرة، وإن أيّد الثّائرين وشدّ من عزيمتهم، وهناك ثورات خرجت من بعده انطلقت من بيته، وقادها أحد أبنائه، وهو زيد.

لقد رأى الإمام(ع) أنَّ الأمَّة تحتاج في تلك المرحلة إلى إعادة تأهيل، لتخرج من جهلها وضعفها وهزيمتها الّتي كانت السَّبب في خذلانها للحسين(ع)، وللإمام الحسن من قبله، وقد تميّز أسلوبه باستخدام الدّعاء لبلوغ هذا الهدف، فتحوَّل الدعاء عنده من كونه تواصلاً روحيّاً ووجدانيّاً بين الإنسان وربِّه، إلى وسيلة تغيير للمفاهيم والسّلوك، فلم يعد الإنسان يكتفي في الدّعاء بالطّلب من ربِّه المغفرة والرّحمة، والدّخول إلى الجنّة والبعد عن النّار، أو بلوغ الحاجات التي يحتاجها، أو كشف الهموم التي يريد من الله أن يفرّجها له فحسب، بل صار الدّعاء أداة تربويّة وتثقيقيّة على المستوى الفكريّ والعقيديّ والرّوحيّ والاجتماعيّ والسياسيّ.

وهذا ما عبّرت عنه أدعيته في "الصّحيفة السجاديّة"، فنراه في دعائه في الاستعاذة من المكاره وسوء الأخلاق، يستعرض بين يدي الله نقاط الضَّعف التي قد تكون في سلوك أيِّ إنسان، ليطلب بعدها من الله العون لعلاجها:

"اللّهمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَـانِ الْحِرْصِ (الجشع)،وَسَوْرَةِ الغَضَبِ، وَغَلَبَةِ الْحَسَدِ، وضَعْفِ الصَّبْرِ، وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ، وَمَلَكَةِ الْحَمِيَّةِ، وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمُخَالَفَةِ الْهُدَى، وَسِنَةِ الْغَفْلَةِ (الفتور عمّا يقرّب إلى الله)، وَإيْثَارِ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ، وَالإصْرَارِ عَلَى الْمَأثَمِ، وَاسْتِصْغَـارِ الْمَعْصِيَـةِ، وَاسْتِكْثَارِ الطَّاعَةِ، وَسُوءِ الْوِلاَيَةِ لِمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا، وَتَرْكِ الشُّكْرِ لِمَنِ اصْطَنَعَ الْعَارِفَةَ (المعروف) عِنْدَنَا، أَوْ أَنْ نَعْضُدَ ظَالِماً (أن نكون عوناً له)، أَوْ نَخْذُلَ مَلْهُوفاً، أَوْ نَرُومَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ نُعْجَبَ، أَوْ نَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْم، وَنَعُـوذُ بِـكَ أَنْ نَنْطَوِيَ عَلَى غِشِّ أَحَد، وَأَنْ نُعْجَبَ بِأَعْمَالِنَا، وَنَمُدَّ فِي آمَالِنَا".

وهذا المنهج هو ما نراه في دعائه لأبويه، بحيث تحوَّل الدّعاء عنده إلى تذكير بالأبعاد التربويّة المتعدّدة التي يجب أن نراعيها في العلاقة بالوالدين: "اللَّهمَّ اجعلني أهابهما هيبة السّلطان العسوف، وأبرّهما برّ الأم الرّؤوف، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن، حتى أوثر على هواي هواهما، وأقدم على رضاي رضاهما، وأستكثر برّهما بي وإن قلّ، وأستقلّ برّي بهما وإن كثر".

وهو لم يكتف بأن يدعو لأولاده، كما قال: "اللّهمّ امدد لي في أعمارهم، وزد لي في آجالهم، وربِّ لي صغيرهم، وقوِّ لي ضعيفهم، وأصحّ لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كلّ ما عُنيت به من أمرهم، وأدرر لي وعلى يديّ أرزاقهم"، بل حوّل الدّعاء لهم لإبراز الدّور الذي يجب الالتفات إليه في التّعامل معهم، فقال: "اللّهمَّ واجعلهم أبْراراً أتْقِياء بُصَراءَ سامِعِينَ مُطِيعِينَ لَكَ، وَلأوْلِيائِكَ مُحِبِّينَ مُناصِحِينَ؛ وَلِجَمِيعِ أعْدائكَ مُعانِدِينَ وَمُبْغِضِينَ".

وفي دعاء آخر، يوسّع دائرة الاعتذار إلى الله، لتشمل عدم القيام بمسؤوليَّة إعانة المظلوم، وشكر المعروف، وقبول عذر المسيء، فهو ينبِّهنا إلى أنَّ مسؤوليّتنا واسعة: "اللّهمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلوُمٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أنَصُرْهُ، وَمِنْ مَعْروفٍ أُسْدِيَ إِلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، وَمِنْ مُسيءٍ اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذي فاقَةٍ سَألَنِي فَلَمْ أوثِرْهُ".

وفي دعائه في "مكارم الأخلاق"، غيّر مفهوم النَّظر إلى الحياة، ليبيّن أنَّ قيمتها بمقدار ما تكون في طاعة الله، وإلّا لا قيمة لها، ولذلك قال: "اللّهمَّ وَعَمِّرْني ما كانَ عُمْري بِذْلَةً في طاعَتِكَ، فَإِذا كانَ عُمْري مَرْتَعاً لِلشَّيْطانِ، فَاقْبِضْني إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".

رسالة الحقوق
ولم يكتف الإمام بالدّعاء كوسيلة للتربية والتوجيه ولإيقاظ الأمَّة، بل رسم في رسالته (رسالة الحقوق) ـ هذه الوثيقة التي شغلت بال الكثير من الحقوقيّين في الغرب، ولم تشغل ـ مع الأسف ـ اهتمام الكثير من المسلمين ـ رسم فيها للإنسان مسؤوليّاته في الحياة، فقد وسَّع دائرة المسؤولية، فالإنسان هو مسؤول تجاه ربّه، وهو مسؤول تجاه جوارحه؛ فللّسان حقّه، وللسّمع حقّه، وللبصر حقّه، وللبطن حقّه، ومسؤول عن كلّ عمل أمر به، وكلّ فعل من أفعاله، بأن يؤدِّيه على أصوله، وهو مسؤول عمن يعيشون معه من الأقربين والأبعدين، وفي أيِّ موقع، وبذلك يرى الإنسان أنَّ مسؤوليّته تطاول كلَّ شيء في الحياة.

ولم يقف الإمام زين العابدين(ع) على هذه التّوجيهات نظريّاً، بل شكّل من نفسه نموذجاً يقتدى، فكان مثالاً في العلم والعبادة والخشوع بين يدي الله، وفي الحلم وكظم الغيظ، وفي الصَّدقة وإعانة الفقراء، حتّى إنّه كان يستبشر عندما يأتيه فقير، ويقول: "مرحباً بمن جاء يحمل زادنا إلى ربّنا". وتذكر سيرته، أنَّه كان يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة، ولم يعرفوه إلّا بعد ارتحاله، عندما انقطع عطاؤه عنهم.

كيف نخلص للإمام؟!
أيّها الأحبَّة: إنَّ إخلاصنا للإمام زين العابدين(ع) في ذكرى وفاته، لا يحصل، كما اعتدنا، بإقامة مجالس عزاء عنه، أو بزيارته، أو ببذل المآدب على اسمه فقط، بل هو بأن نخلص لكلِّ هذا التراث الذي تركه من سيرته ودعائه وكلماته، الّتي إن أخذنا بها، فهي تعيننا على سموِّ العلاقة بالله، وعلى إعمار نفوسنا بالرقيّ الإنساني والخلق، كما بالشَّجاعة وعنفوان القوَّة، وهو ما يساهم في إعادة الرّوح إلينا، وفي بناء الشخصيّة الإسلاميّة المتكاملة، بدلاً من الشخصيّة المنقوصة.

نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول ويتَّبعون أحسنه؛ إنَّه مجيب محقّق الدّعاء.
https://taghribnews.com/vdcfycd0xw6dcea.kiiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز