تاريخ النشر2016 28 July ساعة 08:44
رقم : 239814

مفهوم الوحدة الاسلامية في مدرسة الامام جعفر الصادق(ع)

تنا
سعيَ الامام الصادق(ع) لفتح الأفق العقلي لدى الفقهاء هو لللتفكير في مصلحة الاسلام لا في مصالح السلطة، لأن بناء الوحدة الاسلامية بحاجة الى عقول مدركة لحقيقة الاسلام وواقع مصالح المسلمين، ولولا هذا الادراك الواقعي لا يمكن تأسيس أي وحدة بينهم.
مفهوم الوحدة الاسلامية في مدرسة الامام جعفر الصادق(ع)
يملأ الأسى والأسف القلوب والمشاعر بما آلَ اليه واقع المسلمين بتفرقهم الى فرق ومذاهب نتيجة إجتهادات الفقهاء، وتكاد تكون هذه الفرق والمذاهب في يومنا هذا أديانا بحد ذاتها تحاكي الاسلام المحمدي الذي نزل به جبرئيل عليه السلام، ومارسه الرسول(ص) فترة حياته الرسالية ممارسة عملية عاشها الصحابة الكرام بصحبته(ص)، ولكن فتنة الحكم والسلطة والثروة بعد إتساع رقعة الدولة الاسلامية وضعت المسلمين في إلابتلاء ما بين السير بركب السلطان وبين الالتزام بالاسلام الصحيح.

و في هذا المو ضوع نحاول إلقاء بعض الضوء على مفهوم الوحدة الاسلامية في مدرسة الامام جعفر الصادق في نقاط محددة وبصورة موجزة هي:

 عصر الامام الصادق ونشأة المذاهب الاسلامية

إن وصول الأفكار التشكيكية إلى المسلمين (بعد ترجمة الكتب اليونانية التي بدأت في عهد الإمام جعفر الصادق) كان له أبلغ الأثر في دفع رواد الفكر الإسلامي لمواجهة الكثير من الإشكاليات التي طرحت نفسها على الساحة. ولقد ساعدت الاوضاع السياسية الإمام الصادق، كما عبر عنه أسد حيدر “بين شيخوخة الدولة الأموية وطفولة الدولة العباسية”، إذ اتسع المجال للصادق(ع) لنشر العلم بمختلف فروعه وتوسيع الأفق الفكري لفقهاء المسلمين في علمي الكلام والحديث.
فالإمام الصادق في الفترة ما بين 702 – 765م، عاصر ثمانية من ملوك بني أمية واثنين من ملوك بني العباس. وبسبب تلك الظروف اشتهر الإمام الصادق في ذلك العصر وانتشر ذكره وتوسعت مدرسته الفكرية التي كان يدرس فيها أربعة آلاف عالم، اشتهر عنها حرية القول وحرية النقض والإبرام في شأن الحقائق الدينية والعلوم الطبيعية.

ومن خلال هذه التجربة الفريدة والعلم الوفير والهداية الربانية الخاصة تمكن الامام جعفر الصادق(ع) من نشر العلوم الاسلامية من ناحية، ومن ناحية أخرى تمكن من مداراة الخلفاء الذين تسلطوا على مقدرات الامة باسم الاسلام.

وتأسيسا لما سبق ذكره إحتضنت فترة الامام الصادق ومن قبله فترة أبيه الباقر عليهما االسلام كثيراً من الحوارات والمناقشات الفقهية والكلامية بنسبة ملحوظة من الانفتاح الفكري والثقافي، ووضع الامام الصادق(ع) الأساس التجريبي للكثير من العلوم الرياضية والطبيعة، ووسع من أفق التفكير في علوم الكلام والفقه على الأساس النظري، حتى تأسست مذاهب على أفكار بعض من تتلمذ على يديه فترة من الزمن كالامام أبي حنيفة النعمان.

فتلاميذ الامام الصادق لم يكونوا من مذهب معين بحد ذاته بل أغلب علماء الاسلام تتلمذوا على يديه، ويفتخرون بهذه التلمذة كما ينقل متواتراً عن الامام ابي حنيفة قوله: لولا السنتان لهلك النعمان، لما كانت لهاتين السنتين الدراسيتين من أثر بالغ في حياته العلمية وإكتمال وعيه لشريعة السماء. وهذا إن دلَّ على شيئ فإنما يدل على الروح الوحدوية التي كانت تعيش بين جنبات الامام جعفر الصادق(ع) وتربيته لطلابه على أساس العلم والتقوى والحياة من أجل الاسلام ومصالح المسلمين.

مفهوم الاجتهاد عند الامام الصادق ودوره في بناء الوحدة الاسلامية

سعى الامام الصادق(ع) الى فتح آفاق الاجتهاد لدى تلامذته في المفاهيم الاسلامية، محاولا تصحيح الطرق الإجتهادية التي كانت متداولة لدى البعض من الفقهاء ليجعل من ذلك قاعدة أساسية في إستنباط الأحكام الشرعية من أدلة وحدوية ترتكز على الكتاب والسنة الصحيحة يلتزم بها الفقهاء في حياتهم العلمية. وكأن الامام الصادق(ع) كان يدرك أنَّ فتح باب صحيح للاجتهاد يعطي حركة تطورية للعلم من شأنه أن يساعد في تقريب وجهات النظر المختلفة، وذلك من خلال إعادة أي حوار في أي مسألة الى قاعدته الأصلية التي هي الكتاب والسنة، وأسس الصادق(ع) طرق التعلُّم واساليبه العلمية ليبقى التلميذ متواصلاً مع العلم طول حياته، لذلك نقرأ ما ورد عنه(ع) قوله: “اطلبوا العلم، فإنه السبب بينكم وبين الله”، وقوله(ع): “اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا”، هذا التأكيد على الجانب التجريبي والبحث العلمي المستمر، مكّنَ تلامذة الإمام الصادق من استيعاب الفكر اليوناني دون الإخلال بمرتكزات الفكر الإسلامي. فواجه فإن الإمام الصادق المشاكل المطروحة في عصره حول الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، بانفتاح وحرية لا زالت رمزاً لكل من طلب الانعتاق من الاغلال.

يقول أنور الجندي: أن الإمام الصادق علم تلامذته الأخذ بالدليل الاستقرائي لتحصيل المعرفة الإنسانية والكونية، معتبرا القرآن مصدراً إلهياً للمعرفة الدينية الموجهة للمعرفة الإنسانية وليست البديلة عنه. فجابر بن حيان هو القائل في حق الإمام الصادق: “وحق سيدي، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي صلوات الله عليه لما وصلتُ إلى حرف من ذلك إلى الأبد”. ويقول جابر مسترشداً بتعاليم الإمام الصادق: “اتعب أولاً تعباً واحداً، واعلم. ثم أكمل، فإنك لا تصلُ أولاً ثم تصلُ إلى ما تريد”. ويقول أيضا: “من كان دُرَّباً مجرباً، كان عالماً حقاً، ومن لم يكن دُرَّباً لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع، لأن الصانع الدُرَّب يحذق، وغير الدُّرَّبْ يَعْطِلْ”. ويقول جابر “عملته بيدي وبعقلي، وبحثته حتى صح، وامتحنته حتى كذب”.

وإن سعيَ الامام الصادق(ع) لفتح الأفق العقلي لدى الفقهاء هو لللتفكير في مصلحة الاسلام لا في مصالح السلطة، لأن بناء الوحدة الاسلامية بحاجة الى عقول مدركة لحقيقة الاسلام وواقع مصالح المسلمين، ولولا هذا الادراك الواقعي لا يمكن تأسيس أي وحدة بينهم.

لذلك يؤسس الصادق(ع) نظرية عقلية بقوله “الحسن الجوهر هو العدل، لأنه علة كل حسن، والجور هو القبح لأنه علة كل قبح”. وبهذا يتضح العمق الفكري والسياسي للصادق عندما يربط الظلم والجور بكل نتيجة قبيحة ويربط العدل بكل نتيجة حسنة من خلال تشجيعه الفقهاء على الاجتهاد الصحيح المبتني على القواعد الشرعية الأصيلة.

وبعد غيبة الامام الثاني عشر بقي باب الاجتهاد مفتوحا لدى فقهاء مدرسة الامام الصادق الى يومنا هذا، ولأجل ذلك نرى أكثر من نظرية ورأي فقهي في مجالات الحياة المتنوعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عندهم، وهذا معناه ان مدرسة الامام الصادق التزمت مواكبة تطور الفكر البشري، لأن المسلم مأمور بأن لايبقى منغلقاً على نفسه بل عليه أخذ العلم أينما وجده، كما ورد (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها) حيث لا عصبية في الاسلام، ولا سيما في التعلم بمختلف فنون صناعة العلم ولا عيب في ذلك، بل العيب أن يجد الانسان علماً ولا يتعلمه.
دور الحوار في مدرسة الامام الصادق وأثره في بناء الوحدة الاسلامية

إن إيمان وإلتزام الامام الصادق بالحوار كان كبيرا لإيصال المفهوم الاسلامي الصحيح للآخرين أياً كانوا، ولذلك كان عليه السلام يتحدث بطول نفس مع الزنادقة الذين لم يؤمنوا بالإسلام، ولا يغضب عندما يسأله أحد الزنادقة “كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟”، ويجيبه الإمام “رأته القلوب بنور الإيمان وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصر العلماء على ما رأوه من عظمته دون رؤيته” (الامام الصادق، أنور الجندي/1977).

واليوم ما أحوجنا الى مفكرين مصلحين وفقهاء بعيدين عن بلاط الحكام والسلاطين يقرأون ما ورثه الامام جعفر الصادق(ع) للبشرية من علوم ليعيدوا للفكر الاسلامي رونقه الحقيقي عن طريق حوار بناء بينهم قد يعين المسلمين وليتوحدوا ويبنوا مجدهم من جديد.

أن الفكر الحواري في مدرسة الامام الصادق لم يتوقف معه(ع) بل سار الأئمة الباقون على نهجه في ترسيخ العلم في حياة المسلمين بالحوار والمناقشة العلمية الجادة بينهم وبين غيرهم حتى من أتباع الديانات الأخرى.

لا يمكن أن تتحقق الوحدة بين المسلمين مع تعند كل جهة دون الاعتراف باسلام الآخر ما دام يشهد بالشهادتين ويلتزم بأحكام الاسلام، وهذا ما كان يراه الامام جعفر الصادق(ع) وكان يؤمن به ويعلم تلاميذه على أن كل من إتصف بتلك الصفات له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ولا يجوز سبه ولعنه كما ورد عن جده الامام علي عليه السلام (لا تكونوا سبابين ولا شتامين، وإني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبهم إياكم: اللهم إحقن دمائنا ودمائهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).

ويؤدب الإمام عليه السلام أتباعه وشيعته، بالدعاء حتى لخصومهم وأعدائهم بأن يهديهم الى طريق الحق والصواب، لأن المؤمن الحقيقي هو من يكظم غيضه ولا يشفيه بالانتقام من عدوه، كما كان يقول رسول الله (ص): (اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون)، فأين نحن من أدب وأخلاق رسول الله والامام جعفر الصادق(ع) إمام المذاهب الاسلامية جميعاً.

وورد في كتاب حلية الاولياء عن عمرو بن المقدام بن معد يكرب انه قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.

وبهذه الأخلاق الفاضلة المؤمنة بالحوار كأساس لبناء الصرح الاسلامي تمكن الامام جعفر الصادق(ع) من تربية آلاف العلماء وما بقي إرثاً للمسلمين من خلفه كله من آثار ذلك الايمان بالحوار والتسامح الذي إتصف بهما وعلَّمها لتلاميذه وأصحابه، وأوصى المسلمين بالالتزام بمبدأ الحوار البناء لا الحوار الهدام لوحدة المسلمين بزرع التفرقة بينهم.

وبعد غيبة الامام المهدي(عليه السلام) إلتزم فقهاء مدرسة الامام الصادق بهذا النوع من الحوار فكراً وسلوكاً في حياتهم العلمية والعملية ولا سيما في إستنباط الأحكام الشرعية وتقرير المفاهيم الاسلامية، ولم يترددوا في الأخذ بالروايات الصحيحة من كتب الآخرين دون المذاهب الأخرى، وهذا ما يدلُّ على سعة الأفق العلمي وإحترام الرأي الآخر وعدم حصر أبواب العلم والمعرفة بمصدر واحد، ومما يؤسف أن الكثير من فقهاء المسلمين في العالم اليوم غير مطلعين على ما تركه الامام الصادق عليه السلام من إرث علمي كبير، وقد تتحول الحالة لدى البعض الآخر بحالة شبه عصبية تمنعه من الاطلاع على مثل هذا الارث الاسلامي العظيم.

فنشأة المذاهب وتأسيس الاجتهاد وبناء أسس للحوار والمناقشة العلمية بعيداً عن اي نوع من أنواع العصبية، بل على اساس إحترام الرأي الآخر، ومن دون تكفير الاخر وإصدار فتاوى بسفك الدماء، أدَّت الى حدوث تطور ملحوظ في تبيين المفاهيم الاسلامية، ولكن مما يؤسف عليه فإن غلق باب الاجتهاد لدى المدارس الاسلامية من ناحية، وسير بعض مدعي الفقاهة والعلم بركب السلاطين، وتابعية المدارس العلمية بالسلطة، واستعمال دوائر ومؤسسات إعلامية شعار الاسلام للمصالح الذاتية، كلها عوامل تؤثر سلباً على وحدة الساحة الاسلامية وتزيد من تفكك المسلمين والصراعات فيما بينهم.

وعلى عقلاء الأمة من فقهائها ومفكريها الملتزمين واجب السير قدماً نحو تأصيل الفكر الاسلامي الصحيح، والسعي بجد وإخلاص الى بناء وحدة بشكل ملحوظ بين أتباع المذاهب الاسلامية تقوم على اساس الاحترام المتبادل لحفظ مصالح المسلمين العامة بعيداً عن كل أشكال الصراع السياسي او المذهبي لدرء كل الفتن التي تعصم بدولها وشعوبها التي بدأت تتمزق من جديد.

 عباس الامامي / لندن

 
https://taghribnews.com/vdcgqy9xtak9w74.,rra.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز