تاريخ النشر2017 21 September ساعة 15:51
رقم : 284888

أهمية المادة في حياتنا

تنا-بيروت
المادة تعبير معقد لحاجات الإنسان ورغباته، ولكي نصنع هذه المواد لنرضي حاجتنا لأشياء كالمأوى والملبس، ورغبتنا للشوكولاته والسينما كان علينا القيام بشيء لافت للنظر، كان علينا أن نتقن التعامل مع بنيتها الداخلية المعقدة.
أهمية المادة في حياتنا
حادثة اعتداء بشفرة حلاقة تعرض لها في إحدى محطات القطارات، جعلت عشرات الأسئلة تقفز إلى مخيلة الشاب مارك ميوداونك، وتجعله لاحقاً يتخصص في دراسة علم المادة، ويتنقل إلى العمل في أكثر مختبرات العالم تقدماً.

ولعل كتابه "المادة في حياتنا"، والصادر حديثاً بترجمته العربية عن دار الساقي، يمثّل جانباً من هوس ميوداونك بالمواد ومحاولة التعرّف على بنيتها وخصائصها ووظائفها. وهذا ربما ساعده على تقديم مضمون بسيط وسهل لما أراد تحقيقه من هذا الكتاب، الذي قال "إنه موجه لأولئك الذين يريدون حل شفرة عالم المادة الذي صنعناه ولمعرفة أصل هذه المواد ومنشئها وطريقة عملها وماذا تقول عنا.

ويضيف: يعد هذا الكتاب دراسة مفصلة للمواد وعلاقتها بالحضارة الإنسانية، بل هو لقطة تمثل الطريقة التي تؤثر فيها المواد على حياتنا.

ويبيّن الكاتب كيف أن أكثر الأنشطة بساطة، كشرب الشاي على السطح، مبني على تعقيد مادي عميق. فأنت لا تحتاج إلى زيارة متحف لتندهش من الطريقة التي أثر فيها التاريخ والتقنيات على الثقافة الإنسانية، لأن هذه التأثيرات موجودة حولك الآن، ولكننا نتجاهلها معظم الأوقات.

يتألف الكتاب من أحد عشر فصلاً، خصصها المؤلف للحديث عن بعض المواد الرئيسية في حياتنا، من المعادن إلى الورق فالزجاج وغيرها، مستخدماً نماذج مختلفة في تناول تلك المواد، فأحياناً ينطلق من حوادث شخصية، وأحياناً أخرى تكون الغلبة لوجهة النظر التاريخية، وثالثة تكون علمية، ثم يعطي مساحة أكبر للحياة الثقافية للمادة لتكون مدخلاً لتناول خصائصها وأهميتها.

تحت عنوان "الحصين"، يبدأ المؤلف بأول فصول الكتاب متحدثاً عن المعادن، مؤكداً أن اكتشاف المعادن كان لحظة مهمة في فترة ما قبل التاريخ، ولكنه اكتشاف لم يحل المشكلة الجوهرية المتمثلة بندرتها.

إذ إن أحد الخيارات المتاحة كان انتظار بعضها ليسقط من السماء، وهذا يتطلب صبراً جماً.

وفي مرحلة ما حقق الإنسان اكتشافاً سينهي العصر الحجري، ويفتح الباب على ما قد يكون مخزوناً غير محدود من المواد الخام. لقد حدث ذلك عندما تم وضع حجر مخضر من نوع معين في نار شديدة الحرارة محاطاً بجمرات متوهجة، ليتحول الحجر إلى قطعة معدنية لامعة.

هذا الحجر المخضر هو المالاكيت، وبالطبع كان المعدن الناتج هو النحاس. وبهذا وجد المكتشفون أنفسهم فجأة محاطين، لا بصخور جامدة ميتة، بل بأشياء غامضة تحتوي على حياة داخلها.

ويشير المؤلف إلى أن صناعة الأدوات النحاسية استحدثت نمواً هائلاً في تكنولوجيا الإنسان، لفعاليتها في ولادة تقنيات ومدن أخرى وولادة أولى الحضارات العظيمة. وأهرامات مصر خير مثال على ما أصبح ممكناً الحصول عليه بوجود أدوات نحاسية وفيرة، فقد استُخرجت كل كتلة حجرية لكل هرم من منجم ونحتت يدوياً على حدة باستخدام أزاميل نحاسية، والتقديرات تشير إلى أن عشرة آلاف طن من خامة النحاس نُقبت في أرجاء مصر القديمة لصنع ثلاثمئة ألف أزميل.

يتنقل ميوداونك في هذا الفصل من معدن إلى آخر في حديثه عن اكتشاف المعادن واستخداماتها، مستعيناً بتجارب مجتمعية متنوعة كصناعة الساموراي في اليابان لأفضل سيف عرفه العالم، وبقي بارزاً لخمسمئة عام حتى قدوم علم الفلزات كعلم في القرن العشرين، وانهيار أطول جسر في العالم "جسر نهر تاي في اسكتلندا" المصنوع من الحديد، وذلك في العام 1879، متسبباً بغرق قطار يحمل خمسة وسبعين راكباً في مياه النهر ووفاتهم، حيث أكدت الحادثة أن الحديد لم يكن كفؤاً للعمل.

فالمطلوب لم يكن القدرة على صنع فولاذ صلب كسيف الساموراي فحسب، وإنما القدرة على الإنتاج الشامل له أيضاً.

كما أن تمكن رجل أعمال في العام 1903 يدعي كينغ كامب جيليت من استخدام الفولاذ الصناعي الرخيص المنتج على طريقة بيسمير لصناعة أمواس حلاقة قابلة للاستهلاك، مثّل تطوراً مهماً في استخدام الفولاذ.

مادة الورق أو ما سمّاها المؤلف بـ"الموثوق" كانت محوراً للفصل الثاني، والذي ضم استعراضاً لنحو خمسة عشر استخداماً للورق بدءاً من ورق الملاحظات، مروراً بورق الصحف والمجلات والتغليف، وصولاً إلى رسائل الحب.

فالورق أصبح جزءاً من حياتنا اليومية، حتى أصبحنا ننسى بسهولة كم كان نادراً وغالي الثمن معظم التاريخ.

في الحديث عن ورق الكتب، يشير المؤلف المهووس بالمادة إلى أن التحول من الثقافة الشفهية التي نقلت المعرفة فيها من خلال القصص والأغاني والتدريبات المهنية إلى ثقافة متعلمة تعتمد على الكلمة المكتوبة تأخر قروناً بسبب نقص المواد المناسبة للكتابة، حيث استعملت ألواح الحجر والطين. ولكنها كانت عرضة للكسر ويصعب نقلها لضخامتها وثقلها. أما الخشب فيعاني من الانفطار وهو حساس لأي نوع من التفسخ، فيما كانت رسوم الجدران جامدة ومحدودة المساحة.

إلّا أن اختراع الورق، الذي يقال إنه واحد من أعظم أربعة اختراعات للصينيين، قد حلّ هذه المشكلات، ومع ذلك لم تصل هذه المادة إلى إمكاناتها الكاملة قبل أن يستبدل الرومان الرق بالمخطوطة أو ما يطلق عليه حالياً اسم الكتاب.

تلك الورقة المصنوعة من مادة أنعم من الحجر والخشب، فازت كحارس للكلمة المكتوبة.

وللدلالة على أهمية الورق كمادة وما أحدثته من تغييرات جوهرية في حياة الإنسان، يجري ميوداونك مقارنة بين خصائص المادة الصحافية المنشورة في صحيفة مطبوعة وبين تلك المنشورة على موقع إلكتروني، فيقول: إن ثمة شيئاً مميّزاً في صورة مطبوعة أو عنوان صحافي يجعل الحادثة التي يصفها أهم أكثر من أي طريقة أخرى لنقل الأخبار.

ربما لأن هناك واقعية لا يمكن نكرانها للصحيفة بحد ذاتها.. إنها شيء مادي حقيقي، تلك الموثوقية في نقل الخبر. إذ يمكن الإشارة إليها، ووضع خط تحتها، وقصّها، وتثبيتها على لوح الملاحظات. ثم يصبح الخبر أبدياً ومجمداً في الزمن، قد تكون الحادثة انتهت منذ زمن بعيد، ولكنها تعيش كأنها حقيقة مثبتة بسبب حضورها المادي، حتى وإن كانت غير صحيحة.

على النقيض من ذلك، فإن أخبار المواقع الإلكترونية تبدو زائلة ومؤقتة، رغم أنها أيضاً تؤرشف. لكن لا يوجد عنصر فيزيائي فريد يمكن الإشارة إليه كدليل على المعلومات التي تحملها. ولهذا السبب هناك تصور بأنه يمكن التلاعب فيها بسهولة أكبر، وبالتالي يمكن تغيير التاريخ، إنما في الوقت ذاته فإن فورية وانسيابية المحتويات تحديداً هي ما يجعل الإعلام الرقمي ممتعاً.
وتحت عنوان "غير القابل للكسر"، يغوص ميوداونك في تعريف القارئ على ما يمكن أن تنتجه ذرات الكربون، فيتحدث عن معادن عدة، مازجاً بين المعلومة التاريخية والمادة العلمية والحوادث الشخصية، مؤكداً في تناوله للألماس أنه على عكس الذهب، فإن الألماس لم يكن جزءاً من النظام المالي العالمي على الإطلاق برغم قيمته المالية.  فهو ليس أموالاً سائلة، وكذلك حرفياً لا يمكن صهره، وبالتالي لا يمكن تسليعه. فأحجار الألماس الكبيرة ليس لها استخدام سوى لتثير الدهشة والإعجاب، والأهم من ذلك لتأكيد المنزلة.

وقبل القرن العشرين كان الأثرياء بحق هم القادرون على تحمّل نفقة الألماس، ولكن الثراء المتنامي عند الطبقات الأوروبية المتوسطة هيأ للمنقبين عن الألماس سوقاً مغرية جديدة. وهناك خاصية أخرى للألماس وهو أنه لا يدوم إلى الأبد، على الأقل على سطح هذا الكوكب.

إن النسيب البنيوي للألماس، الغرافيت هو الشكل الأكثر استقراراً، لذلك فإن كل الألماس، بما في ذلك نجمة إفريقيا العظيمة في برج لندن، يتحول ببطء إلى غرافيت في الواقع. هذه أخبار محبطة بالنسبة لمن يملك ألماساً، برغم أنه يمكن طمأنتهم بأنها ستأخذ بلايين السنين قبل رؤية تشويه ملحوظ في الحجر لديهم.

وأسهمت صناعة الطيران في التوصّل إلى بنى كربونية جديدة، فالطائرات البدائية كانت مصنوعة من الخشب لأنه كان خفيفاً وصلباً. ولكن صنع هيكل الطائرة من الخشب أمر ينطوي على مشكلات، لأنه من الصعب تركيب هيكل خالٍ من العيوب. لذلك مع ازدياد نطاق طموح مهندسي الطيران، فإن صناعة الطيران تحولت إلى استخدام معدن خفيف يدعى الألمنيوم، ومع ذلك فإن المهندسين كان لديهم أمل بوجود مادة أخرى أخف من الألمنيوم بطريقة ما، لذلك قرر مهندسون من مؤسسة الطيران الملكي في فارنبورو في عام 1963 اختراع هذه المادة، فتمت صناعة ألياف الكربون التي استغرقت وقتا طويلاً لتثبت جدارتها في صناعة الطيران.

في الفصل الأخير، والذي حمل عنوان "الاصطناعي"، يؤكد المؤلف أن خوضه في عالم المادة كان محاولة منه لبيان أنه برغم أن المواد من حولنا تبدو كفقاقيع من الأشياء المختلفة الملوّنة، هي في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير. إنها تعبير معقد لحاجات الإنسان ورغباته، ولكي نصنع هذه المواد لنرضي حاجتنا لأشياء كالمأوى والملبس، ورغبتنا للشوكولاته والسينما كان علينا القيام بشيء لافت للنظر، كان علينا أن نتقن التعامل مع بنيتها الداخلية المعقدة.

تسمّى هذه الطريقة لإدراك العالم علم المواد، ويعود عمرها إلى آلاف السنين. فهي ليست أقل أهمية أو إنسانية من الموسيقى والفن والفيلم أو أي علم آخر، ولكنها أقل شهرة.

في هذا الفصل الأخير أراد المؤلف - كما يقول - استكشاف لغة المواد بشمولية أكبر، لأنها تقدم مبدأ جامعاً يشمل كل المواد. وعلى الرغم من أن المادة قد تبدو بنية واحدة، وعلى الرغم من أنها تبدو متجانسة بكاملها، يبقى هذا خدعة. ففي الواقع فإن المواد تتكون من كيانات مختلفة عديدة تتحد لتؤلف الشكل المجمل، وتكشف هذه الكيانات المختلفة نفسها ضمن نطاقات مختلفة.

من الناحية البنيوية تشبه المادة اللعبة الروسية المصنوعة من العديد من البنى المتداخلة الواحدة ضمن الأخرى، وكلها تقريباً لا تُرى بالعين المجردة، وكل واحدة أصغر ومحتواة داخل تلك التي قبلها.

إنه هذا البناء الهرمي الذي يمنح المواد كيانها المعقد، وبالمعنى الحرفي يمنحنا هويتنا أيضاً.
 
https://taghribnews.com/vdch6kni623n66d.4tt2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز