تاريخ النشر2014 31 December ساعة 22:35
رقم : 178102

السّــــر فـي التغييــــر..

تنا
سر الكون والخلق الذي وضعه الله في كينونة كل شيىء يكمن في المعرفة، بإعتبارها أداة ناجعة للفهم المؤدي إلى حصول قناعة صحيحة تساعد على إتخاذ الموقف الصحيح الذي هو بداية الطريق في مسار التغيير والتطور..
السّــــر فـي التغييــــر..

بقلم : أحمد الشرقاوي
لست من الذين يمارسون هواية التمني في رأس كل سنة ميلادية، فيطلقون العنان لأمانيهم وأحلامهم الوردية على وقع دقات الأجراس في منتصف الليل، لأن المطالب لا تنال بالتمني بل تؤخذ الدنيا غلابا على رأي أحمد شوقي..

ولعلي من الذين يؤمنون أن السبب الرئيس لتخلف المسلمين (إلا من رحم الله)، يكمن في جهلهم بقوانين التغيير من جهة، وخوفهم من التغيير من جهة ثانية، هذا برغم إيمانهم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..

وحيث أن كل شيىء في الحياة يخضع لقوانين الطبيعة المودعة كمعادلات رياضية في الكون، والتي هي من سنن الله الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، بدليل أن الحاضر هو حصاد الماضي، والمستقبل يتوقف على ما نزرعه في الحاضر، إلا أن التطبيق قد يكون قريبا من قوانين الطبيعة أو بعيدا عنها بصور متفاوتة حسب فهمنا أو سوء فهمنا لهذه المعادلات المنطقية ولطريقة عملها.. لأن التطبيق وحده كفيل بمساعدتنا على فهم عمل هذه القوانين بطريقة عقلية بدل اللجوء إلى التفسيرات الغيبية التي يتحفنا بها السحرة والكهنة وتجار الدين، على إعتبار أن النظرية هي القاعدة والتاريخ هو التطبيق العملي لها..

من هنا وجب التفريق بين الإسلام والمسلمين، لأنه إذا كان الإسلام هو مجموعة سنن ربانية تشكل القاعدة، فتاريخ المسلمين الذي هو التطبيق العملي لها يؤكد أن ما نحن عليه بعيد كل البعد عن الإسلام الذي بشر به القرآن.. فأين المعضلة؟..

المعضلة تكمن في أننا نرفض ولو لمرة الوقوف وقفة شجاعة مع الذات، للقيام بعملية مراجعة دقيقة وعميقة، ندرس فيها الإشكالية من كل أوجهها لنعرف أين أخطأنا ولماذا؟.. وعلى أساس النتائج نقوم بتصحيح الفهم للدين والدنيا معا، لأن العقدة تكمن في عدم تصالح المسلم مع واقعه، وخوفه من المغامرة المعرفية باعتبارها قفزة نحو المجهول، ولإعتقاده الخاطأ أن ما يؤمن به هو الحقيقة المطلقة وأن الواقع يجب أن يتغير ليخضع لها وليس العكس.. بدليل أن من يرفعون شعار "الإسلام هو الحل" لا يعرفون كيف يطبقون هذه النظرية في واقع المسلمين من دون السقوط في الهاوية، ولنا في تجربة السلفية الوهابية والإخوان المسلمين خير مثال على ما نقول.

ومنبع هذا الإعتقاد هو سوء فهم لمعادلة الدين والدنيا والعلاقة بينهما، الأمر الذي من شأنه مساعدتنا على تقويم الرؤية وتعديل المسار والمسير وفق تقديرات عقلانية تخضع لقوانين التغيير إنطلاقا من الإجابة على أسئلة منهجية تنطلق من الإمكان (هل التغيير ممكن؟)، والكيف (كيف يحدث التغيير؟) والهدف (لماذا التغيير؟) دون خوف من ولوج مساحات الممنوع التفكير فيه أو الحديث عنه لأنه من المسكوت عنه في ثقافتنا التقليدية، إنطلاقا من مسلمة بسيطة تقول أن الدين وسيلة وليس غاية هدفه إسغاد الإنسان في الدنيا وخلاصه في الآخرة..

وبالتالي، فالسؤال الذي يفرض نفسه علينا بالمناسبة هو: – هل فعلا يعيش المسلمون اليوم سعداء في الدنيا قبل الحديث عن الخلاص في الآخرة الذي هو من علم الغيب؟.. وإذا كان الجواب هو لا.. فأين المشكلة؟.. في الدين أم في سوء فهمنا للدين؟.. الجواب قطعا هو في سوء فهمنا للدين، لكن كيف نعالج هذا الأمر من دون الإصطدام مع السلطات ومع مؤسسة الفقهاء ومع المجتمع المتخلف أيضا؟..

نقول هذا لأن جوهر المشكلة يكمن في تصورنا لله، وإلى علاقة الإنسان به تعالى، وكيف تعمل القدرة العلية فينا، ومساحة الغيب التي تتحكم في رؤيتنا للدنيا والآخرة، ومدى فهمنا للقوانين التي تحكم تصرفاتنا في الحياة العملية، وإعتقادنا أن الله سيتدخل لتعديل الأمور لصالحنا في حين أن الله لا يجري التغيير إلا بنا وفق ما نبدي من إستعداد للقبول به والتضحية من أجله.. وهذا يتطلب شجاعة الأنبياء والرسل في زمن إنقطعت فيه رسائل السماء..

فمثلا، المعضلة لدى المسلمين خاصة، تكمن في أنهم يشاهدون التغيير يحدث في واقعهم نحو الأسوأ، ويشعرون بوطئه، ويدركون أنه لا يصب في صالحهم، لكن تعوزهم القدرة على التأثير فيه لتغيير مجرياته، وذلك لسبب بسيط يكمن في أنهم لا يعرفون كيف يمكن أن يتم هذا التغيير وما هي قوانينه وآلياته، ويكتفون بالدعاء معتقدين أن السماء ستتدخل لتغيير هذا الواقع لصالحهم..

ومرد الإشكال
ثقافي قبل كل شيىء، لأنه يعود بالأساس لسوء فهم الإنسان لدينه ودنياه معا، ما ينعكس سلبا على عدم قدرته على تحديد دوره أولا، ومن ثم معرفة وظيفته ثانيا، ومدى إستعداده لأداء هذه الوظيفة التي تصب في خدمة الدور تحقيقا لأهدافه التي تجعله في النهاية يشعر بأنه موجود فعلا كإنسان حر له قيمة وكرامة، متصالح مع دينه ودنياه، تماما كما أراده الله أن يعيش تجربته الأرضية..

وبالتالي، فمن لا يشعر بحريته وكرامته لا يستحق الإحترام، ومصيره أن يعيش ذليلا مهانا بلا قيمة، فكم من حي يعيش كالميت، وكم من ميت يعيش حيا في قبره..

والمشكلة هنا لا تكمن في "الآخر" بل في الإنسان نفسه، ولا تعالج بمنطق "الضحية" والإكتفاء بجلد "الآخر" وتحميله مسؤولية ما وصل إليه الحال، بل في مراجعة النفس وجلد الثقافة تحديدا.. لأن كل معرفة لا تخدم التغيير نحو الأحسن تتحول إلى نفاية مضافة، فينتهي مآل العقل من وظيفة النقد والتفكير إلى مكب للنفايات.. وعند هذه المرحلة بالذات، يتحول "الإنسان" إلى مقاوم للتغيير بسبب الخوف من المجهول الذي لا يستطيع فهمه فأحرى التعامل معه، فيستوى عندها الفكر والحذاء، ويتحول المسلم إلى مجرد عبد مقهور في مزرعة الراعي يمارس عليه تجار الدين غسيل الدماغ بتعويذات الجهل التي تعلموها من السحرة ويقدوها للناس في ثياب الحكمة والأخلاق الحميدة.

وبرغم دخول العالم الإسلامي عصر العولمة وثورة المعلومات، وبرغم إستدعاء الله العباد لتبر القرآن بأنفسهم ليبين لهم ما هم فيه من لبس وسوء فهم، لا زال من يتحدثون عن الصحوة الإسلامية من تجار الدين يمارسون على الناس نفس الدجل القديم الذي يقوم على مبدأ إحياء الموروث الميت لتغييب صوت الإله الحي الذي لا يموت، والنتيجة الحتمية لمثل هذه المقاربة السحرية، أنها توقظ إسلام الثرات لينام المسلمون على وعد بالسراب.

ولأن سر الكون والخلق الذي وضعه الله في كينونة كل شيىء يكمن في المعرفة، بإعتبارها أداة ناجعة للفهم المؤدي إلى حصول قناعة صحيحة تساعد على إتخاذ الموقف الصحيح الذي هو بداية الطريق في مسار التغيير والتطور.. فإن المعيار الوحيد لمعرفة حدوث التغيير من عدمه، يكمن في مقارنة ما نؤمن به كنظرية مع السلوك والممارسة، لأن المختبر الحقيقي في كل حال هو الواقع المعاش حيث تقاس الأشياء على محك التجربة، وعلى ضوئها يسعد الإنسان في الدنيا أو يشقى، وعلى أساسها أيضا يحاسب الإنسان في الآخرة، بدليل قوله تعالى: أن (كل نفس بما كسبت رهينة).

وحتى نخرج من الجانب النظري إلى لُــبّ المشكلة سنعطي مثالا عاما وآخر خاص، لأن الإنسان يتعلم من تحربته فيستخلص الدروس من الفهم والمعرفة بالعقل والسمع والبصر والبصيرة، فيحول التجارب إلى أفكار موضوعية تساعده على التغيير إنطلاقا من مواقف جديدة بنظرة أعمق وأوسع للأحداث:

فبالنسبة للمثال العام نقول، هناك حقيقة ثابتة بحكم التجربة تقول، أن الثورة الفرنسية نجحت في إحداث التغيير في المجتمع الفرنسي وأخرجته من عصر الظللمات إلى عصر الأنوار المعرفية والحرية والديمقراطية، فانتقل المجتمع من عصر الإقطاع والظلم والتخلف إلى عصر الحرية والحقوق والنهضة التي أدت إلى الرفاهية.. لكن ما كان للمجتمع الفرنسي أن يحقق هذه القفزة النوعية في تاريخ البشرية لو لم يمهد لها مفكرون وفلاسفة كبار كروسو ومونتيسكيو وفولتير (إلى حد ما)، في ما أصبح يعرف بثقافة الأنوار التي غيرت المفاهيم والقيم وحفزت الناس على تغيير قناعاتهم ومواقفهم وكانت بمثابة المحرك للثورة والتغيير.

ومقارنة بما حدث في عالمنا العربي، فعندما انطلق ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي" مطلع عام ٢٠١١، كانت المجتمعات تعيش أزمة الجهل والجوع، وكان المثقفون يعيشون أزمة إنسداد الفكر أو ما أصبح يعرف بأزمة المثقف لا الثقافة أو كما يحلو للبعض أن يسميها "ثقافة الأزمة" بسبب العجز عن إنتاج الأفكار لتغيير قناعات الناس وتثويرهم.. وكانت الحركات ركبت موجة التغيير تتصارع حول إجترار نفس نماذج الماضي، سواء لدى الإسلاميين أو العلمانيين.. وكانت فتاوى إبن تيمية ومحمد ابن عبد الوهاب هي التي تُكوّن الترسانة الفكرية التي كان يروج لها السلفيون والمتشددون ، فيما كانت القومية ومبادىء العلمانية الماركسية على وجه الخصوص هي الترسانة التي كان يستعين بها اليساريون المتتطرفون في مواجهة الإسلاميين، وفي غياب الرؤية والدور والإستراتيجيات وغموض الأهداف والإصرار من قبل الفريقين على إجترار نفس المشاريع الفكرية التي أثبتت فشلها في الماضي، سقطت الثورات العربية وسرقتها أمريكا والسعودية و"إسرائيل"..

وكنت حينها أردد في كتاباتي بثقة تكاد تلامس اليقين، أن مجتمعات هذه حالها لا يمكنها أن تنتصر على الإقطاع وتحرر الإنسان من الظلم والإستعباد، وأن عصر الشعوب لا يمكن أن يحل في غياب ثقافة المقاومة، وأن من يروجون إلى يقضة الشعوب وصحوتها
إنما يهرفون بما لا يعرفون، لأن الرقص في الشوارع على إيقاع شعارات الخبز والكرامة لا تعني أن الأمة تغيرت وأنها ستخرج من سبات ليلها الطويل نحو فجر جديد مفعم بالأمل الجميل.. ذلك أن ما أخرج الناس في حقيقة الأمر إلى الميادين هو الجوع وليس الحرية أو الكرامة.. وكان اليساريون كما الإسلاميون مقتنعون بأن الشعوب لم ترشد بعد لتحكم نفسها بنفسها، وأنها بحاجة إلى "أميــر" من وجهة نظر تجار الأفكار الأصولية، وإلى "زعيــم" من وجهة نظر تجار الأفكار التقدمية..

ومن غرائب ما حدث، أن باحثا أمريكيا سأل أحد الشباب الثوار عن أحلامه؟ فكان الجواب.. "وظيفة وبيت وزوجة وسيارة".. فقال له: "سألتك عن أحلامك لا عن حقوقك أيها الغبي".. إلى هذا الحد بلغ الجهل ببعض من شبابنا الذين قادوا الثورة.. ثورة الجياع الجهلة..

وكان البعض يروج لمقولة "أن إرادة الشعوب من إرادة الله".. لكن ما حصل في سورية جعل الناس تدرك، أن إرادة القطيع لا يمكن أن تكون من إرادة الله التي لا يجسدها إلا رجال شرفاء.. ولأن ما يحدث من قتل وفساد وخراب لا يمكن أن يكون من إرادة الله سبحانه، بدليل، أن من خرج للشوارع أناس بلا هوية ولا قيادة ولا رؤية ولا بوصلة.. قطيع من المضللين الذين انخرطوا في زمرة المرتزقة والتكفيريين خدمة لأهداف لا علاقة لها بسورية وشعبها، وتبين أن الفكر الوهابي الرجعي والإخواني الماسوني هو الذي إنتصر ولعب دور المحرك الأساس للفوضى المدمرة في سورية والعراق وعلى إمتداد جغرافية العالم العربي خدمة لمصالح أمريكا و"إسرائيل"..

أما المثال الخاص، فيتعلق بتجربة عشتها في حياتي، وإنتهت بخلاصة مفادها.. أنه قبل المقاومة لم أكن شيئا مذكورا، كنت ككل عربي أعيش زمن التيه والحيرة بلا هدف ولا قيمة، كنت واحدا من القطيع الذي يؤثت مزرعة الراعي.. وعبثا حاولت البحث عن كنهي وسر وجودي وعن المفتاح السحري الذي يجعلني أشعر أنني مختلف عن غيري، لكن دون جدوى..

عشت ضائعا في متاهات الهوية المركبة بين الواقع الرديىء والأحلام المستحيلة، وكنت أشعر أني أعيش مقيدا في سجن الوطن ومعتقل المذهب.. كل التعاليم التي ورثها في العقيدة والنظريات التي تعلمتها في مدرسة الفضيلة لم أجد لها على أرض الواقع مصداقا، شتان بين المبادىء والسلوك، وكان علي أن أتقلم مع هذا الواقع المنافق وأن أعيش منافقا مثله بوجهين، وجه مع الله ووجه مع السلطة.. وإذا لم يكن هذا هو الجحيم فكيف يكون الجحيم إذن؟..

منذ الطفولة وأنا أرافق والدي رحمه الله إلى المسجد، وخصوصا يوم الجمعة الذي كان بالنسبة لي يوما خاصا له نكهته الرحمانية.. وكان الإمام عقب كل خطبة يرفع أكفه بالدعاء على الصهاينة، طالبا من الله أن يحرق زرعهم، ويقطع نسلهم، ويهزم جيشهم، ويطهر الأرض من رجسهم، ويرفع عن أهلنا في فلسطين المحتلة ظلمهم وطغيانهم… وكنا كالببغاوات نردد ورائه في خشوع – آميــــــــن –

وفي مرحلة مبكرة من شبابي، شعرت أن مصباحا وهاجا إشتعل بداخلي، وبدأت الأسئلة المحرجة تؤرقني وتستبد بعقلي، وبمراجعة خطية للتاريخ، إكتشفت أن الله لم يستجب لدعاء المسلمين أبدا، بل العكس هو الذي حصل، بحيث إزداد الصهاينة قوة وجبروتا وعربدة، فيما إزداد العرب ضعفا وذلا ومهانة.. وتسائلت ببراءة، أين خسرنا ولماذا؟.. وهل الضعف فينا أم في ما ترسب في عقولنا من ثقافة القبور؟..

ثم فجأة، قررت أن لا أذهب للصلاة في المسجد، مفضلا أن أكتفي بحسنة واحدة بدل ٢٧ حسنة التي كان يوزعها دعاة الوهابية على الشباب لتشجيعهم على صلاة الجماعة.. أقنعت نفسي بالصلاة أربع ركعات في البيت بصدق بيني وبين ربي على أن أصلي ركعتين وراء إمام يتلو كل جمعة خطبة تأتيه من وزارة الأوقاف، تمجد الحاكم وتحرم الخروج عليه حتى لو كان فاسقا وظالما وفاسدا، وتتحدث عن الأمانة في زمن الخيانة، وعن المسؤولية في ظل نظام إقطاعي يضفي على نفسه القداسة كي لا يخضع للمحاسبة، وعن أمور لا علاقة لها بأوضاع الناس ومصيرهم ومستقبل عيالهم، وإذا لم يدعو الإمام للحاكم بأمره، يقطع رزقه وتغيبه المخابرات وراء الشمس، والله يقول، ولا تدعوا في المساجد مع الله أحدا.. وكنت أتساءل بإلحاح..لماذا لم يستجب الله لدعاء المسلمين منذ النكبة وما تلاها من هزائم ونكسات متتالية، والله يقول ادعوني أستجب لكم؟.. ولماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون برغم ما حباهم الله من خيرات ومقدرات لو استثمروها في ما يرضيه لدانت لهم الدنيا؟..

وبالتالي، لا بد وأن في الأمر شيىء لا يرضي السماء، جعل الله يغضب عليهم كما غضب على اليهود من قبلهم، فهزمهم ونصر أعدائهم، وذهب بريحهم، وجعلهم يعيشون عالة على الحضارة في ذل وإهانة عظيمة.. وهذا السر هو ما أود إكتشافه..

وحين إشتد عودي وأكملت دراستي الجامعية، وضاقت بي الدنيا وأحسست أني غريب في وطني.. فهمت أن الإسلام الذي بدأ غريبا قد عاد غريبا مرة أخرى، فقلت لنفسي طوبى للغرباء.. وهاجرت في أرض الله الواسعة أبحث عن حريتي وكرامتي وهويتي التي إكتشفت أنني أحملها في قلبي بين جنبات صدري ترافقني أينما رحلت وارتحلت..

إكتشفت
أن هويتي الحقيقية هي عقيدتي التي لا يحدها مكان ولا يغيرها زمان ولا تتأثر بظروف ولا تخضع لشروط مهما كانت قساوة الأيام، وترفض أن تعيش في سجن الوطن أو معتقل المذهب .

عند هذا المستوى من الفهم قررت البحث عن الله في المهجر.. فبدأت مغامرة المعرفة المتسكعة في كل سيىء.. وهناك أيضا صعقت حين رأيت أن الناس يتعاملون بصدق وجدية ومسؤولية وإحترام، في حين أن الناس في المجتمعات العربية تنكر ما تراه عيناها من تطبيق لشريعة الغاب، ولا تعتبر ما تسمعه في وسائل الإعلام الرسمية كذبا وتضليلا بل سياسة إعلامية رشيدة، وتمارس كل أنواع الخداع والنفاق والرذيلة تحت قيم نبيلة تسمى "أخلاق حميدة".. فتذكرت مقولة لمستشرق بريطاني قضى ردحا من الزمن يبحث عن الفرق بين إسلام القرآن وإسلام الناس على الأرض في مصر والسعودية، فقلت ما قاله معكوسا، ومفاده، أنه إذا كان الناس في الغرب لا يفقهون القرآن، فكيف أصبحوا مسلمين بالسلوك والممارسة؟.. في حين أن العرب إذا كان القرآن هو كتابهم، فبالتأكيد لا يمكن أن يكونوا هم الذين يتحدث عنهم القرآن.. والحديث هنا هو عن الشعوب لا عن الحكومات الغربية المنافقة التي لها إكراهاتها السياسية المعقدة وحساباتها الإنتهازية الخبيثة.

ثم مرت السنين وتعاقبت الأحداث لتؤكد لي أنني لم أكن مخطئا، وأن كل ما أصاب العرب من ضعف وتخلف وشر وبلاء كان بسبب ما صنع العرب بأنفسهم، وأن الله ليس بظلام للعباد، وأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. وأن معضلة العرب لا تكمن في الدين بقدر ما تكمن في سوء فهمهم للدين والدنيا معا.. وأن السر يكمن في ما يعتقدون أنه الإسلام الصحيح، بيد أن الحقيقة أن ما يؤمنون به ويمارسونه في حياتهم هو عبارة عن نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن الدين، وضعها فقهاء السلاطين لتدجين الناس خدمة للإقطاع، وسجنوا القرآن في رفوف المساجد فجعلوه مهجورا، وسدوا باب الإجتهاد، وحولوا الإسلام إلى كهنوت حين إحتكروا إنتاج المعنى بما يخدم أهواء الملوك والحكام.. فتذكرت شكوى الرسول (ص) يوم القيامة حين سيسأله الله عن سبب عدم إعتصام أمته بحبله المتين: (وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا) الفرقان: ٣٠.. ففهمت أن حتى الرسول (صلعم) لن يشفع لمن لم يدخل مدرسة الله ليتلقى منه الوحي مباشرة وفضل تلقي الجهل في مدرسة فقهاء الحكام.

لكن بانتصار المقاومة سنة ٢٠٠٦، أحسست بكرامتي وأدركت أنني فعلا خلقت لأكون إنسانا، وأنني لم أكن مخطئا عندما إخترت طريقا غير الذي كان الموروث يجرني إليه لأعيش في أحضان الماضي وأدفع حياتي ومستقبلي ثمنا لجنة لا يدخلها إلى من قبل بسجن الجماعة ومعتقل المذهب شرط أن يتخلى عن حقوقه وكرامته وعن جنة الدنيا التي أمره الله بإقامتها قبل جنة الآخرة ليعيش الناس بمحبة وسلام ورفاهية، لأن الله يحب المؤمن القوي العارف على المسلم الفقير الضعيف المريض المتخلف الذي لم يمتثل لأمر "إقرأ" فيبدأ مسيرة التغيير من نفسه دون أن ينتظر الآخرين..

حينها زارني سماحة السيد حسن نصر الله ثلاث مرات متقاطعة في المنام، أهداني في الأولى تفاحة، فتذكرت آدم عليه السلام الذي آثر تجربة المحبة والعشق والتوق والشوق إلى الله على نعيم الجنة، ليختبر معنى أن يكون الإنسان إنسانا برغم صعوبة التجربة..

وفي الثانية أهداني كبشا عظيما، فتذكرت صاحب العهد إبراهيم الخليل عليه السلام، فقلت أن دين الحب لا يكون إلا بالتضحية، وبها فقط يكون الخليل خليلا، ومعنى الخليل أن تضع الماء في الكأس، فيبدو لك وكأنه ماء ولا كأس وكأنه كأس ولا ماء.. وهذا هو معنى الحيرة.. وقل ربي زدني فيك حيرة كما كان يقول الرسول الأعظم (صلعم).

وفي الثالثة أجلسني إلى جانبه في مسجد عتيق بعد صلاة المغرب، وطلب مني أن أحدث الحضور بما لا أعرفه.. إمتلكتني الحيرة، ثم تذكرت النبي الأمي محمد (صلعم) وقلت.. أيها الحضور الكريم، ما أنا بفقيه ولا عالم، لكنني أعرف أن الطريق إلى الله لها نهاية تحل ساعة صعود الروح إلى فاطرها، وأن الطريق في الله بلا نهاية، لأن مغامرة التنوير والمعرفة جعلها الله بلا حدود ولا قيود، وأن شراع مركب الإنسان في بحر حياته لا يسير إلا بأنفاسه لا برياح غيره..

ومعنى المعنى، أنها دعوة ليعود الأنسان من حيث أتى، من عصر محمد خاتم الرسالة إلى عصر آدم الإنسان الكامل، في رحلة شوق إلى الأصل حيث منبع الحياة، لكن في إتجاه المستقبل، بالمحبة والتضحية والأخلاق الفاضلة.. وبهذا يصبح الإنسان أفقه من فقيه وأعلم من عالم ويصل إلى مستوى العارف بالحقيقة الإلهية، لأنه سيهجر عصر الجاهلية الذي يدعوه الفقهاء للعودة إليه، وسيكسر كل الأغلال، ويحطم أبواب السجون الطائفية والمعتقلات الإديولوجية ويدخل عصر الحرية الحقيقية التي لا تدرك إلا بالمعرفة.. حينها سيكتشف أن قلبه الصغير الذي وسع عرش الرحمن يستطيع أن يستوعب رسالة السماء من محمد هبوطا إلى آدم صعودا.. فيدخل الجنة من أوسع أبوابها لأنه فهم أن الإسلام الذي بشرت به كل الرسالات السماوية هو دين سلام وجمال ومحبة..
https://taghribnews.com/vdciuvazrt1ayz2.scct.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز