تاريخ النشر2017 25 September ساعة 15:11
رقم : 285500

ثورة الحسين عليه السلام صدى لصلح الحسن عليه السلام

تنا-بيروت
جال في نفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثًا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمّد في نفوس غير المتمكّنين من فهم التأريخ فهمًا صحيحًا، وكثيرون من هؤلاء لا يرجعون إلى مصدر علميّ في وزن هؤلاء النفر من أهل البيت وإخضاع حركاتهم في حالة مدّها وجزرها للمبدأ الأسمى الذي طوّعهم لخدمته، وأفنى ذواتهم في ذاته، فكانوا ينقبضون حين يشاء لهم الانقباض، وينبسطون حين يشاء لهم الانبساط كذلك.
ثورة الحسين عليه السلام صدى لصلح الحسن عليه السلام
خطر لي أن أردّ هذه الشبهة عن أبي محمّد الحسن السبط بإقامة هذا الميزان العلميّ الذي يجلو هذه الحقيقة، ويكشف خدرها، غير أنّ واردًا ثقيلًا من المشاغل التي لا تنتهي كان يصرفني عمّا في نفسي من ذلك.

فها أنا أوجز الإشارة إلى هذه الشبهة ودفعها، وعسى أن تعود هذه النواة غرسها أتعهّد أنا بما ينمّيه إن سنحت الفرصة، أوّلًا، فينمّيه قلم من هذه الأقلام الضليعة المغموسة في قلوب الأحرار وعقول العلماء من خدّام الحقائق.

أمّا الشبهة فقديمة كقدم النظر القاصر، فيمن يأخذون من الأشياء بالظاهر، والملمّون بتاريخ الحسن عليه السلام يعرفون أنّ قومًا من صحابته أخذوا عليه قعوده عن حرب معاوية ومناجزته إيّاه القتال حتّى لأوشك أن يذهب يومئذ ضحيّة هذه الفتنة، وحتّى دخل عليه خاصّته بسلام غليظ يقولون فيه (السلام عليك يا مذلّ المسلمين)…!

وقد يكون لهؤلاء عذر بحماستهم التي نعرفها لذوي النجدة من فتيان الإيمان الذين تغلب عليهم عاطفة الحماسة، واستقرار الرويّة وبُعد النظر.

قد يكون ذلك، ولكنّا لا نقصد الآن الاعتذار لهم بل نريد أن نثبّت طرف هذه الشبهة عن الأوّل لنراها تتسلسل منه فتظهر بين حين وآخر، طورًا على لسان أوليائه، وتارةً على لسان أعدائه وهي هنا وهناك لا تظهر إلاّ لتدلّ على جهل هؤلاء وأولئك فنحن حين نزن صلحه عليه السلام وحربه ترجح كفّة الصلح بحيث اعتُبرت المعايير المرعيّة، وكن إن شئت “مادّيًّا” أو كن “روحيًّا” تتجاوز بإيمانك وفهمك مدى المحسوسات المرئيّة.

كن أوّلًا مادّيًّا وناقش حرب الحسن في جيش حكم نفسه بالهزيمة قبل أن يخوض المعركة، وغزاه معاوية الذي ثبت لعليّ من قبل، ولعليّ معنويّة عسكريّة ترجف الأرض من خيفتها، مضافًا إلى معنويّاته الأخرى التي لم يكن الحسن يتمتّع بمثلها في نفوس معاصريه، بحكم انضوائه إلى لواء أبيه.

نعم، لك أن تقول: كان على الحسن أن يستشهد فيموت عزيزًا، ولكن أعِد النظر في تاريخ هذه المدّة لترى الاستشهاد فيها ينمسخ إلى معنًى من معاني “الخروج” فلم تكن يومئذ حقيقةً وطنيّةً ثابتةً ولا روحًا مبدئيّةً مستقرّةً لتكون التضحية تضحيةً مقرّرة القواعد وليس أتفه – في هذه الحال – من الموت لأنّه يعين على صاحبه ويميته مرّة أخرى في معناه.

كانت الحياة الإسلاميّة تنتكس حقًّا وتتحوّل إلى ملك عضوض وكانت المطامع تتجنّد في ركاب الملك هاربةً من حواشي الخلافة ولكنّها كانت ما تزال تحتفظ بوسيلة الإسلام وظاهر مبادئه في “وصوليّة” صاغها معاوية بدهائه، وكان هذا وحده عذرًا للحسن من ناحيتين:

1. كان عذره الصلح لأنّ “الدنيا” كانت تظاهر معاوية فتستلب منه ابن عمّه وقائد عسكره.
2. ثمّ كان عذره في القعود عن الشهادة لأنّ ذلك بعينه ليس ظرف شهادة..، لأنّه كان قادرًا على مسخها.
فأيّ ربح مادّيّ في الموت لو اختاره الحسن كما يريد هؤلاء، غير أنّه بعين معاوية على نفسه حيًّا وميتًا.
إنّني لا أرى شيئًا أدلّ على عظمة الحسن من هذه السياسة المادّيّة التي حدّدت موقفه على هذا النحو في أخطر دور مرّ به الإسلام، فكانت نواةً لقلب الحكم الأمويّ وفضح معاوية كما كانت مادّة ذلك البارود الجبّار الذي انفجر في مصرع الحسين ذلك الانفجار، ولو لم يكن موقف الحسن هذا لأُتيح لمعاوية سلطان لا يعرف الناس منطوياته، ولمّا أتيح للحسين أن يكون الفداء الخالد للمبدأ الخالد.
وبعد أن كنتَ مادّيًّا فكن “روحيًّا” وناقش حسّ الحسن لتجتمع لك الاعتبارات كلّها على رجحان كفّة “الصلح”.

الحسن عليه السلام في هذا الاعتبار ليس من طلّاب “الإمرة” لذات “الإمرة” بل هو ممّن يريدون الخلافة وسيلةً للإصلاح وإقامة العدل والسلام بين الناس، وما أظنّ هذه العقيدة الروحيّة تعدم دليلها المادّيّ فأبوه وجدّه أثبتا في الإسلام أنّهما كذلك، وله قبل الإسلام إرث ينهض دليلًا على أنّه معدن مصلح لا يطلب النفوذ إذا استغنى عن فعل الخير.

ومن هنا، كان سهلًا عليه أن يتنازل عن الخلافة لأنّه في فترة لا تقدر هي على أبناء الخير في ظلّ ذلك الجيل المكبوت المُساق إلى الشهوات يصيب منها فوق كفايته على موائد معاوية.

بل لقد كان الواجب عليه أن يتنازل مع عدم القدرة على تذليل العقبة من إخضاع “الأمويّة” المندفعة. لأنّ تنازله يأتي وفق الخطّة التي رسمتها له مبادئه.

وليس عائبو تنازله أشدّ إحساسًا منه بآلام التنازل وهو المجروح ولكنّها التضحية الضخمة فرضت عليه أن يتحمّل آلام القعود التي كتبتها عليه مُثله ومبادئه الحسنى.

وهي تضحية لا تقلّ قدرًا – إن لم تزد – عن تضحية الحسين عليه السلام.

وكن الآن ما شئت، كن مادّيًّا أو كن روحيًّا، فستنتهي في آخر الأمر إلى نتيجة رائعة وهي أنّ صلح الحسن مصدرٌ من أكبر مصادر ثورة الحسين التحريريّة، وأنّ جوهر التضحية واحد عند الإمامين وإن اختلف مظهرهما.

والحقّ أنّ يوم الطف كان صدى ليوم المدائن. صلى الله على سيّدَي شباب أهل الجنّة ونفع المسلمين بذكرياتها المجدّدة المتجدّدة ووفق العرب والمسلمين إلى الاهتداء بهديهما في مرحلتهم الصعبة هذه .
 
https://taghribnews.com/vdcjyie8yuqeoiz.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز