ماذا يعني نظام دولي هو اليوم قيد التشكل؟
في البداية لا بد أن نربط الماضي بالحاضر، فرغم أن تعبير (نظام عالمي سياسي) تعبير محدث في اللغة السياسية، إلا أن فكرة العالمية أو الدولية كانت تظهر من حين إلى آخر، وذلك منذ القرن السابع عشر، وكلما ظهر في جو العلاقات الدولية مناخ داع للسلام.
كان أول مشروع لنظام دولي طُرح على بساط البحث هو المشروع الذي قدمه الوزير الفرنسي (سلي) على الملك هنري الرابع عام ١٦٠٣م، لإنشاء جمهورية مسيحية تضم جميع شعوب أوروبا وتعمل على حل المشكلات القائمة بقوة وحزم، صوناً للقوميات السياسية الناشئة ولوضع حدٍ للمآسي القائمة بين البروتستانت والكاثوليك.غير أن مقتل هنري الرابع طوى هذا المشروع.
كان الأهم في تلك المرحلة، ما جاء بعد حرب الثلاثين عاماً حيث وُقِّعت معاهدة سلام ويستفاليا لعام ١٦٤٨ إذ كان هناك حجم هائل من الدمار. فقد تم تدمير حوالى ٤٠% من أرواح وممتلكات سكان مدن وقرى ألمانيا. ووصل الدمار في بعض المناطق إلى أكثر من ٦٦ %. تلك الحرب كانت دينية تحت شعار الإصلاح. كان الحقد بين كلا الجانبين مهولا... استمرت المفاوضات بين الأطراف أربع سنين بين عام ١٦٤٤ و ١٦٤٨، وتم بعدها اعتبار الجميع من البروتستانت والكاثوليك، الحكومات الجمهورية والملكية متساوية في المفاوضات. أي أُرسي مبدأ التسامح وبدايات العلمانية، ولكن الأهم كان مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة.
لقد تضمنت معاهدة ويستفاليا أربعة مبادئ أساسية:
١- مبدأ السيادة المطلقة للدولة الوطنية وما يصاحبها من حق أساسي لتقرير المصير السياسي.
٢- مبدأ المساواة القانونية بين الدول الوطنية. فأصغر دولة مساوية لأكبر دولة مهما بلغ ضعفها أو قوتها، غناها أو فقرها.
٣- مبدأ إلزامية المعاهدات بين الدول عالمياً، حيث طرحت معاهدة ويستفاليا لأول مرة فكرة «القانون الدولي المُلزم» لكل الدول.
٤- مبدأ عدم التدخل من طرف دولة ما في الشؤون الداخلية لدولة أخرى.
نعم هي مبادئ عامة قد لا تحدد سيادة مطلقة، إذ لم يحدث أن كانت هنالك سيادة مطلقة، لكن التمسك بها يمنع التوجه نحو إلغاء السيادة.
وتطورت فكرة النظام العالمي مع الوقت، ولكن دائما على أساس قواعد السيادة التي أقرتها ويستفاليا، وكان من ثمارها الحلف المقدس الذي اقترحه قيصر روسيا عام ١٨١٥، ومشروع التضامن الأوروبي الذي اقترحه مترنيخ النمساوي في القرن التاسع عشر للقضاء على «الثورة» التي تساوي باللغة العقلانية السياسية له: الفوضى. وأخذت الدول تعقد الاجتماعات لحل المشكلات بعيداً من الحروب وبلغة التحكيم والدبلوماسية. وسرعان ما نتج من هذه الأفكار العالمية نشوء اتحادات دولية ذات قيم معنوية وذات استقلالية نسبية، فنشأ نظام التمثيل الدبلوماسي وتعميمه وجعله مطلقاً في الحماية.
وتأسست عصبة الأمم، بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنها لم تكن أكثر من تكريس لواقع القوى المنتصرة في هذه الحرب، رغم إعلان ميثاقها عن تأييد السلام العالمي، لكن الإعلان أصرّ على تأكيد تجسيده للواقع القائم للقوى بعد هذه الحرب، وذلك بأن جاء في ميثاقها أن من اختصاص هذه العصبة الإشراف على الشعوب المتأخرة والمستعمرة سياسياً واقتصادياً وإدارياً وأن تتولى بنفسها تقرير مصير هذه الشعوب. وهذا ما أدى إلى شرْعنة الانتدابات. وعصبة الأمم بهذا الموقف قد أصرّت على أن تكون تجسيداً للواقع الاستعماري. وقد تأكد ضعف هذه «العالمية» المفتعلة عندما عجزت هذه العصبة عن اتخاذ مواقف حازمة ازاء الحوادث الدولية الخطيرة كاعتداء الصين على اليابان، وإيطاليا على الحبشة، وألبانيا وألمانيا على النمسا وتشيكوسلوفاكيا...الخ. كما أن الولايات المتحدة التي كانت العصبة فكرة رئيسها (ولسن) لم تشترك بها. وحدث أن انفصلت ألمانيا عن العصبة عام ١٩٣٣ دون أيّ رادع. وبهذا كانت مؤسسة دولية غير ذات قيمة.
جاءت هيئة الأمم المتحدة انعكاساً لميثاق الأطلنطي بين بريطانيا وأميركا في ٤/آب أغسطس/١٩٤١ الذي نادى بالاتجاه نحو إنشاء هيئة عالمية، و قُرِّر في المؤتمر الثلاثي الذي عقد في موسكو (أواخر تشرين ١٩٤٣) إنشاء هيئة دولية، وقُدَّم بالفعل مشروع إنشاء الهيئة العالمية، وعرض على بساط البحث في مؤتمر (دمبرتون أوكس) الذي عقد في واشنطن. وتأكدت مبادئ ميثاق الأطلنطي في مؤتمر يالطا، الذي عقد في شبه جزيرة القرم (٤-١٢شباط (فبراير) ١٩٤٥) و عُزَّز في مؤتمر «سان فرانسيسكو» في المدة ما بين ٢٥ نيسان (ابريل) و٢٦ حزيران ١٩٤٩ و تمت الموافقة عليه بالإجماع في ٢٦ حزيران (يونيو) ١٩٤٥.
وهنا ظهرت «العالمية» في هيئة دولية هي الأمم المتحدة، وادعت حفظ الأمن والسلام الدولي. كما أنها ألزمت الدول غير الأعضاء بضرورة حفظ الأمن الدولي. أي أنها جاءت انعكاساً لواقع الحرب والحلفاء المنتصرين، وألزمت العالم بما أرادته. هذا التشكيل كان نظرياً (عالمياً)، إلا أنه كان بالفعل تعبيراً عن قيادة من الدول (العظمى) لعالمية إرادتها، وتشكيلاً عاماً دون إرادة شعوب الدول الأخرى. و قد تأكد الواقع الجيوسياسي عندما تشكّل مجلس الأمن من الخمسة (الكبار) المنتصرين و من أعضاء يُراعى في انتخابهم التوزيع الجغرافي للأعضاء غير (الدائمين)، فحُرمت أفريقيا وآسيا من التمثيل بقدر كاف، بينما ظفرت أوروبا وأميركا بالنصيب الأكبر.
و قد تأكد هزال هذه «العالمية» أثناء الحرب الباردة وانقسام (الكبار) إلى كتلتين متصارعتين، فيما كان (غير الدائمين - الصغار) محكومين داخلياً وإقليميا بنتائج هذه الصراعات. وكان ذلك واضحاً أيضاً في تصرفات هيئة الأمم المتحدة إزاء طلبات الانضمام إلى عضوية الجمعية العامة وقضايا مثل فلسطين وكوريا وتأميم بترول إيران ومشكلة قناة السويس والاحتلالات «الإسرائيلية» عام ١٩٦٧ واحتلال لبنان عام ١٩٨٢....
وإذا كانت هيئة الأمم المتحدة قد قامت (شكلياً واسمياً) على أسس حفظ السلام والأمن وتنمية العلاقات الدولية وتحقيق التعاون الدولي واحترام حقوق الإنسان...إلا أن نظام (الفيتو) قد حرم الأمم الأخرى من أن تكون طرفاً فاعلاً وعلى قدم المساواة مع الآخرين. وهكذا نشأت (العالمية) على أساس من ميزان القوى العالمية لا على أساس من تحقيق العدالة بالمعنى القيمي والفلسفي.
وهذا الأمر تأكد من ممارسات النظام العالمي السابق حيث أقام مجلساً للأمن يستند إلى قدرة الفرض في قراراته إلى الدول الحليفة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. أي أن هذا المجلس لم يكن أكثر من تجسيد لواقع قائم. وهذا الواقع ناجم بالتالي عن إرادة القوى المنتصرة، لا إرادة القوى النازعة إلى السلام.
سقط الاتحاد السوفياتي وكان لا بد من تغيير النظام الدولي
هنا نشأ في الولايات المتحدة الأميركية تيار فكري هو تيار المحافظين الجدد، رسم أسسه ليو شتراوس وبنى قواعده على العمل السياسي الباطني الذي يقسم الحياة السياسية إلى فلاسفة وسادة ورعاع ؛ حيث يمتلك الفلاسفة الحقيقة ويعطون جزءاً منها للسياسيين (السادة) فيما على باقي البشر وهم الأكثرية (الرعاع) أن يكونوا أدوات لما يقرره الفلاسفة. وعليه تطورت أفكارهم إلى ضرورة إنهاء مبدأ ويستفاليا من حيث السيادة ومنع التدخل في الشؤون الداخلية للأمم واستبداله بمبدأ «التدخل الإنساني» كأدة جديدة ذات عنوان ناعم ولافت للعامة والرعاع لسيطرة يُقرها الفلاسفة ويعمل على تنفيذها السادة السياسيون، وكذلك إنهاء مفهوم المقاومة باعتباره من نتائج الحرب العالمية الثانية التي يجب أن تنتهي كمُشكَّل للتنظيم الدولي واستبدالها بمبدأ التفاوض.
منذ عام ١٩٩٩ تناغمت بريطانيا التي تلاحق ما يحدث في أميركا وتحاول التكيف معه، وبدأت فيها نغمة تردد صداها في الولايات المتحدة وبعض العالم الغربي وغيره تتحدث عن نهاية معاهدة ويستفاليا، وإقامة مبدأ جديد هو «التدخل الإنساني».
جاء ذلك في محاضرة لطوني بلير في الولايات المتحدة، تناغمت معها مجموعات المحافظين الجدد وبعض الاستراتيجيين كهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، وخافيير سولانا عندما كان أمينا عاماً لحلف الناتو أيام شن الحرب على يوغوسلافيا في نهاية التسعينات وغيرهما من دعاة التدويل (وعولمة) سيادات الشعوب، وهو ما يذكرّ بالتدخلات الأوروبية في الحقبة الاستعمارية التي بدأت في لبنان بإنزالات عسكرية للقوى الخمس في القرن التاسع عشر١٨٦١ ومروراً بالاستعمار الاستيطاني إلى الانتدابات.
ولعل الحرب العالمية الثانية قد أعادت ويستفاليا إلى وضعها الطبيعي، ذلك أن من دواعي تلك الحرب نظرية أدولف هتلر المناهضة للسيادة وفق ويستفاليا في كتابه «كفاحي» لأنها منعت ألمانيا من أن تصبح دولة امبراطورية.
ويجب أن ننتبه إلى أن المجال الاقتصادي قد شهد تمدد مؤسسات عالمية كبرى تريد أن تلغي ويستفاليا بطريقتها، وأبرز الأمثلة على ذلك هما مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، حيث تتدخل هذه المؤسسات في عقر دار الدول، خاصة الدول الفقيرة، وتنتهك سيادتها بدون سلاح وتتدخل في أدق تفاصيل رسم السياسة الاقتصادية والميزانية لتلك البلدان.
وقد تورطت دول في العالم العربي تدخلت فيها هذه المؤسسات بدرجات متفاوتة في رسم السياسة الاقتصادية تحت شعارات تنتهك السيادة والاستقلال كـ «الإصلاحات الاقتصادية» و«خصخصة الشركات الحكومية» و«تحرير الاقتصاد » وبيع ممتلكات البلد من المواد الخام الطبيعية للشركات العالمية. حتى مياه الشرب بدأت تخضع في بعض الدول لسيطرة شركات أجنبية عالمية تطالب بثمن لقاء تزويد هذا الشعب أو ذاك بمياه الشرب الآتية من عيونه وأنهاره وآباره.
في بعض الدول حركت تلك القوى المناهضة للسيادة مجموعة من البشر تحت شعارات السيادة لكي تنتهي بها إلى ما بعد معاهدة ويستفاليا أي إلى اللاسيادة. كانت تلك مفارقة من نوع خطير، وقع فيها أو تورط، رهط من النخب والناس العاديين.
في بدايات هذا المناخ تردد الأميركيون في حسم مسألة ما أسماه مفكروها الاستراتيجيون نهاية للحرب العالمية الثالثة ممثلة بسقوط الاتحاد السوفياتي، ما استدعى عقداً من الانتظار كان فيها الأميركيون يتصرفون باعتبارهم الدولة العظمى الوحيدة مع إعطاء الظهر للدول العظمى الأخرى، باعتبار أن منظومة الدول العظمى السائدة آنذاك والأمم المتحدة ليستا إلا نتاجاً للحرب العالمية الثانية. وعلى اعتبار أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت نتائجها ، فإنه يستوجب أن يتم تغيير المنظومة الدولية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثالثة، بما فيها المنظومة الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة، فتوقفت الولايات المتحدة عن دفع اعتماداتها تجاه هذه المنظمة الدولية وبدأت بإهمالها وانسحبت من معاهدة كيوتو ورفضت الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وأهانت اليونسكو مراراً.
وسرعان ما اهتزت المفاهيم الدولية التي تأتت عن الحرب العالمية الثانية مع أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وبعد أن ارتسمت الحرب ضد الارهاب باعتبارها الحرب العالمية الرابعة وفقاً للاستراتيجية الأميركية الجديدة التي ظهرت إلى العلن في ٢٠ أيلول/سبتمبر /٢٠٠٢ وهو ما عنى حسماً لاستراتيجية الولايات المتحدة للقرن المقبل ومنها:
١- مفهوم المقاومة الذي تأتى عن المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، حيث تم استبداله بمبدأ حل النزاعات المسلحة بالطرق السلمية بغض النظر عن الحقوق، واعتماد مفهوم الإرهاب غير المُعرّف في الشرعة الدولية بديلا منه بحيث صار كل نزاع بين دولة ومجموعة مسلحة مهما كان مبرره هو إرهاب.
٢- الخروج على قوانين الحرب التي كانت ترفض الاغتيالات ذات الطابع السياسي، وأحيت الولايات المتحدة قانون الاغتيالات الذي أوقفته بعد حرب فييتنام عام ١٩٧٣، وتم استدعاء «مبدأ القتل المستهدف» الذي اعتمده «الإسرائيليون» خلال عقد ونيف.
٣- تجاوز مبدأ سيادة الدول المقر في القانون الدولي باسم مبدأ التدخل الإنساني.
٤- رسم الأميركيون مفهوما جديدا أسموه الـــــدول المارقـــــة، وهذه هي أوصافها وفقا للاستراتيجية الأميركية الجديدة:
أولا: حكامها يضطهدون شعوبهم ويسرقون ثرواتهم.
ثانيا: لا يحترمون القوانين الدولية ويهددون جيرانهم.
ثالثا: يؤيدون الإرهاب.
رابعاً: يكرهون أميركا و مبادئها. (وهنا بات الأميركيون يدخلون في حسابات الوجدان الإنساني ويحاسبون عليه!!!).
وقد انتهت الاستراتيجية الأميركية الجديدة إلى ضرورة اعتماد مبدأ التفاوض والقبول بالأمر الواقع للدول والجماعات التي أخذت منها حقوقها.
دخل الأميركيون منذ عام ٢٠٠٢ معركة تأجلت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي لبلورة نظام دولي على أساس الاستراتيجية السابقة الذكر وخاضوا حروباً متعددة كان أبرزها احتلال العراق. ورسم فلاسفة المحافظين الجدد أمثال برنارد لويس وتابعهُ فؤاد عجمي الهدف الرئيس في منطقة الشرق الأوسط بضرب الأنظمة التي دعوها بالطاغية وإنهاء الفكرة القومية العربية، حسبما يقرّ فؤاد عجمي، وهي الفكرة التي شكَّلت مع الدولة (الطاغية) مِلاذاً جامعاً للشظايا الطائفية والعشائرية الدينية ... التي تشكل الشرق الأوسط، بحيث يأتي إنهاء الدول فيها وتحويلها مرة أخرى إلى شظايا، المدخل إلى ما أسموه العماه الخلاقCreative Chaos الذي لا يمكن تنظيمه أبداً والذي سيأتي على التماسك المجتمعي ويحوّل هذه المجتمعات إلى مرجعياتها ما قبل القومية وما قبل العصرية، لتعود مرة ثانية إلى شظايا مقتتلة في عماه خلاّق لا يسمح بقيام دول إلا على أساس طائفي وعشائري ... وما قبل قومي، ما يجعل هذه الرهوط الاجتماعية (شبه السياسية) مرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية، وهنا ينبري أحد (سادة) المحافظين الجدد وهو ريتشارد بيرل ليحدد الهدف السياسي لتلك الحرب ممثلاً بالبدء بالعراق ثم لبنان فسورية فالسعودية والجائزة الكبرى مصر حسب تعبيره.
مرت عملية التبلور الصعبة لنظام عالمي بعدة مراحل
في المرحلة الأولى ١٩٩١-٢٠٠٢ مرحلة من التردد واللاتعيّن (Undetermined) حاولت الولايات المتحدة الأميركية أن تقود العالم بنظام القطبية الواحد، فامتنعت الدول الأربع صاحبة الفيتو عن استخدامه في مجلس الأمن وانفردت بالنظام الدولي. وهذا ما كان لا يمكن له أن يكون (نظاماً) بل مرحلة انتقالية، حيث و بعد حوالى خمسين عاماً وحربين عالميتين وصراعات كثيرة أصغر، نشأ نظام ثنائي القطبية، ثم مع نهاية الحرب الباردة أخلت القطبية الثنائية الطريق للقطبية الأحادية؛ وهي نظام دولي تهيمن عليه قوة واحدة وهو ما ليس ممكناً أن يكون بنظام.
كانت تلك «لحظة أحادية القطبية» عرفها العالم منذ سقوط جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي، وهي لحظة! ففي ذلك الوقت، كانت الهيمنة الأميركية حقيقة واقعة، لكنها استمرت فقط لخمسة عشر أو عشرين عاماً. وبمقياس التاريخ كانت هذه مجرد لحظة، وكان يجب على النظرية الواقعية التقليدية أن تتنبأ بنهاية أحادية القطبية وبفجر تعددية القطبية.
في المرحلة الثانية ٢٠٠٣-٢٠٠٦ كانت الولايات المتحدة تريد ترسيخ نظرية العماه الخلاق وبالتالي سيطرتها العالمية وتفردها عبر حربين: الأولى في العراق بيدها مباشرة، والثانية في لبنان بأدواتها وعبر «إسرائيل»، إلا أن هزيمة «إسرائيل» عام ٢٠٠٦ سرعان ما أوقفت المشروع، ولو إلى حين. وهنا بالذات استخدمت روسيا والصين الفيتو لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي للقول: «إننا هنا... وها قد عدنا»، وإن بخجل.
المرحلة الثالثة ٢٠٠٦-٢٠١١ بعد أن تبين أن نظام القطب الواحد غير ممكن الاستمرار به، نشأ نظام اللاقطبية. هنا توزعت القوى العالمية بحيث أن انطلاق عدم القطبية يطرح عدداً من الأسئلة المهمة، ففي الوقت الذي يختلف فيه عدم القطبية إلا أنه يتسم بوجود مراكز كثيرة جداً ذات قوة واضحة. وكان السؤال أي نظام عالمي سيكون مع حالة اللاقطبية إذ إن النظام المتعدد القطبية يمكن أن يكون تعاونياً، بل يحتمل حتى التناغم بين القوى حيث يعمل فيه عدد قليل من القوى الرئيسة وفق قواعد مستقرة ويعاقب من يخترق تلك القواعد. كما إنه يمكن أن يكون أكثر تنافسية ويدور حول توازن في القوة، ويكون أكثر اتجاهاً للصراع عندما يختل هذا التوازن. وهذا ما قد حدث؛ أي تحول إلى نظام تنافسي مرُّ.
كانت القوى الرئيسة: الصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا والولايات المتحدة، تضم أكثر من نصف سكان العالم وتستحوذ على ٧٥ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و٨٠ في المائة من الإنفاق العسكري. ومع ذلك، فهناك مراكز قوى أكثر بكثير والقليل من هذه الأقطاب ليس دولاً قومية.
كان ثمة نوع من الفوضى في هذا النوع من النظم اللاقطبية حيث إن الدول القومية فقدت احتكارها للقوة. فالدول تواجه التحدي الآتي: من الأعلى من قبل المنظمات الإقليمية والعالمية، ومن أسفل من قبل المليشيات ومن الأجانب أي من قبل المنظمات غير الحكومية والشركات. والسلطة اليوم موجودة بين أيد عديدة وفي أماكن عديدة.
ورأت دراسات انه بالإضافة إلى القوى الرئيسة الست في العالم هناك قوى إقليمية كثيرة جداً، البرازيل ولحد ما الأرجنتين وشيلي والمكسيك وفنزويلا في أميركا اللاتينية، ونيجيريا وجنوب أفريقيا في أفريقيا، ومصر وإيران و»إسرائيل» والسعودية في الشرق الأوسط، وباكستان في جنوب شرق آسيا، وأستراليا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية في شرق آسيا وغرب المحيط الهادي. منظمات كثيرة ستكون في قائمة مراكز القوة بما في ذلك منظمات دولية مثل (صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة والبنك الدولي) ومنظمات إقليمية مثل (الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ورابطة دول جنوب شرق آسيا والاتحاد الأوروبي ومنظمة الدول الأميركية ورابطة جنوب شرق آسيا للتعاون الإقليمي). وتلك المنظمات الوظيفية مثل (وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة الصحة العالمية). هناك ولايات داخل الدول القومية مثل كاليفورنيا وأوتار براديش في الهند ومدن مثل نيويورك وساو باولو وشنغهاي.
ثم هناك الشركات العالمية الكبرى بما فيها تلك التي تهيمن على مجالات الطاقة والمال والتصنيع. وهناك كيانات أخرى باتت تلعب دوراً، ويجب ألا تغفل، وهي وسائل الإعلام العالمية (الجزيرة وBBC وCNN) وميليشيات (حماس وحزب الله وجيش المهدي وطالبان) وأحزاب سياسية وحركات ومؤسسات دينية ومنظمات إرهابية (القاعدة) واحتكارات المخدرات ومنظمات غير حكومية من النوع الأكثر نعومة (مؤسسة بيل وميليندا غيتس، وأطباء بلا حدود، والسلام الأخضرGreen Peace). عالم ذو قوة موزعة. وتعد الولايات المتحدة وستظل أكبر تجمع منفرد للقوة. فهي تنفق أكثر من ٥٠٠ مليار دولار سنوياً على قواتها المسلحة، وأكثر من ٧٠٠ مليار دولار إذا أخذنا عملياتها في أفغانستان والعراق في الحسبان. وباقتصادها ذي الناتج المحلي الإجمالي الذي يصل إلى ١٤ تريليون دولار الذي هو أكبر اقتصاد في العالم.
إن واقع القوة الأميركية يجب ألا يخفي الهبوط النسبي في موقعها في العالم وما يصاحب هذا النفوذ النسبي في القوة من هبوط واضح في النفوذ والاستقلال، فنصيب الولايات المتحدة من واردات العالم هبط بالفعل إلى ١٥ في المائة. وعلى الرغم من أن الناتج المحلي للولايات المتحدة يصل إلى أكثر من ٢٥ في المائة من إجمالي العالم.
لقد تصاعدت حسب ريتشارد هاس أرصدة الثروة الرئيسة في دول مثل الصين والكويت وروسيا والسعودية والإمارات، وهذا الأمر هو مؤشر آخر، وهو في الغالب ناتج من صادرات النفط والغاز التي تصل اليوم إلى حوالى ثلاثة تريليونات دولار، وهي تنمو بمعدل تقريبي يصل إلى تريليون دولار سنوياً. وعليه، فإن أسعار الطاقة المرتفعة المدفوعة في معظمها بتفجر الطلب الصيني والهندي سوف تبقى كذلك لبعض الوقت، وهو ما يعني أن حجم وأهمية هذه الأرصدة سيستمران في النمو.
كما ضعف الدولار في مقابل اليورو والجنيه الانكليزي. ومن المتوقع أن تهبط قيمته أيضاً في مواجهة العملات الآسيوية ومعظم الأوراق المالية في العالم اليوم بعملات أخرى خلاف الدولار، والانتقال إلى تسعير البترول باليورو أو سلة عملات أخرى وارد وهو الخطوة التي من شأنها أن تجعل الاقتصاد الأميركي أكثر تعرضاً للتضخم إلى جانب أزمات العملة.
تُدعم عدم القطبية بطريقتين أساسيتين: أولاهما أن الكثير من التدفقات عبر الحدود تأخذ طريقها بعيداً من سيطرة الحكومات ومن دون معرفتها. وكنتيجة لذلك، فإن العولمة تحد من نفوذ القوى الرئيسة. وثانيتهما أن تلك التدفقات نفسها غالباً ما تدعم من قدرات أطراف يصعب حصرها، مثل مصدري الطاقة (الذين يشهدون زيادة هائلة في الثروة تعزى إلى التحويلات من قبل المستوردين) وما يسمى في عرف الولايات المتحدة الإرهابيين (الذين يستخدمون الإنترنت) كي يوظفوا ويوجهوا النظام المصرفي العالمي من أجل نقل الموارد.
لقد أصبح من الظاهر، بشكل متزايد في نظام اللاقطبية، أن كون دولة ما أقوى دولة في العالم لم يعد يعني امتلاك احتكار قريب للقوة، فقد أصبح أسهل من ذي قبل بالنسبة للأفراد والجماعات أن يراكموا ويوظفوا قوة مؤثرة.
إن عدم القطبية يولد مزيداً من عدم القطبية، لكن حتى لو كان عدم القطبية حتمياً فإن ملامحه ليست كذلك. ولنوجز ما قاله المنظر في العلاقات الدولية هيدلي بول Hedley Bull من أن السياسة الدولية في أي لحظة هي مزيج من الفوضى والنظام، والمسألة هي التوازن والتوجه، ويمكن، بل يجب إبرام صفقة كبرى لتشكيل عالم عدم القطبية. فالنظام لن ينشأ من تلقاء نفسه. وعلى العكس من ذلك، فإن ترك عالم عدم القطبية لنهجه الخاص سيجعله يصبح أكثر تعقيداً مع مرور الزمن. فتفشي الفوضى سيفرض على النظم التي تتكون من عدد كبير من الأطراف أن تتجه إلى مزيد من العشوائية والفوضى في غياب التدخل الخارجي، وهذا ما قد حدث.
مرحلة ما بعد ٢٠١١: في هذه المرحلة بات الصراع أكثر انكشافاً وبات واضحاً أن الاستمرار بواقع اللاقطبية غير ممكن . وظهر أن هنالك اتجاهين لبلورة نظام عالمي: الأول أميركي غربي يريد نظاماً على طريقة الاستراتيجية الأميركية الجديدة، متدخلاً في حراك الشعوب ومستثمراً (لحظتها) التي تشكّلت عبر أثر الفراشة والبجعة السوداء و أثر الانتشار وحالات الدومينو ... من أجل تنفيذ سياسة إلغاء السيادة وإنهاء ويستفاليا واستبدالهما بمبدأ التدخل الإنساني كواجهة وعنوان لمرحلة تعميم الهوية الأميركية. والثاني روسي صيني مع منظمة شينغهاي ومجموعة البريكس يريد المحافظة على مبدأ ويستفاليا، لا من أجل العودة بالتاريخ إلى الوراء، إنما من أجل تثبيت «قواعد اللعبة» وتأسيس نظام عالمي سيتأرجح بين نظام متعدد الأقطاب، ونظام بمحورين كل منهما يدور حوله عدد من الأقطاب؛ وهو ما ليس مألوفاً في المنظومة الدولية من قبلُ.
وبات واضحاً أن السيطرة على الموارد وعلى رأسها الطاقة النظيفة هو الممر الأمثل نحو تشكيل النظام العالمي المتعثر التبلور منذ عام ١٩٩١. وظهر جليّاً ان السيطرة على الغاز وعلى طرق نقله هو مركز الصراع وهذا ما تجلى في الصراع، الذي دار منذ ٢٠١١-٢٠١٢ بخصوص سورية، إذ بدا أن تقاطب القوى في الصراع يتعدى بالتأكيد الأسباب الداخلية ويتجاوز حتماً مسألة المياه الدافئة أو قاعدة عسكرية لوجستية في ميناء طرطوس السوري.
بدأت معركة الطاقة مبكراً حيث وضعها نائب الرئيس الأميركي السابق لأوباما ديك تشيني (٢٠٠٠-٢٠٠٨) أميركا في مواجهة واضحة مع الصين وروسيا ، واستمرت بها سياسات أوباما الذي انخرط في جيوبوليتيك النفط كجزء من صراع أميركي عالمي من أجل السيطرة المستقبلية في ما بين القوى العظمى.
لقد خلُص ديك تشيني منذ وقت باكر إلى أن إمدادات الطاقة العالمية لم تكن تنمو بالشكل المطلوب لكي تغطي احتياجات العالم المتزايدة، وأن ضمان التحكم بما تبقى من إمدادات النفط والغاز الطبيعي سيكون مهمة أساسية لأية دولة تسعى إلى الحصول على أو الاحتفاظ بموقع متقدم في السلم العالمي.
وبشكل مماثل، فقد فهم أن ارتقاء الأمة يمكن أن تحبطه عدم القدرة على الوصول إلى إمدادات الطاقة، حيث أن جيوسياسة النفط تكمن في جوهر العلاقات الدولية وتحدد بشكل كبير صعود وهبوط الأمم.
وهكذا وضعت خطة وتتألف من أربعة ملامح أساسية:
١- تشجيع إنتاج النفط والغاز محلياً بأي تكلفة وذلك من أجل تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الموردين الخارجيين من غير الأصدقاء، وبذلك تزداد حرية التصرف لدى واشنطن.
٢- السيطرة على تدفق النفط من الخليج العربي (حتى وإن حصلت الولايات المتحدة على حصة أقل بكثير من مخصصاتها النفطية من المنطقة) وذلك لكي تحافظ على القبضة الاقتصادية على كبار موردي النفط الآخرين.
٣- السيطرة على الممرات البحرية لآسيا وذلك للسيطرة على تدفق النفط والمواد الخام الأخرى إلى خصوم الولايات المتحدة الاقتصاديين الكامنين مثل: الصين واليابان.
٤- تشجيع «تنوع» مصادر الطاقة في أوروبا خاصة عبر ازدياد الاعتماد على إمدادات النفط والغاز الطبيعي القادمة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في حوض بحر قزوين، وذلك لتقليل اعتماد أوروبا الكبير على النفط والغاز الروسيين، إلى جانب النفوذ السياسي الذي يمنحه هذا الاعتماد لموسكو.
وكان الهدف الأول وهو زيادة الاعتماد على الغاز والنفط المحليين في أميركا وهو ما كان موضع تركيز في السياسة القومية للطاقة، وهي استراتيجية الطاقة التي قدمها تشيني للرئيس في أيار ٢٠٠١ بتشاورات كثيفة مع ممثلي عمالقة النفط. واعتبر أن الهدف الأساسي لسياسة الطاقة القومية هو إضافة إمدادات من مصادر متعددة؛ أي النفط المحلي والغاز والفحم الحجري، وأيضاً يقصد به الطاقة المائية والنووية.
ودعت الخطة أيضاً إلى شن حملة منسقة من أجل زيادة اعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة الصديقة من دول نصف الكرة الغربي وخاصة البرازيل وكندا والمكسيك.
أما الهدف الثاني الذي يتمثل في السيطرة على تدفق النفط عبر الخليج الفارسي فكان السبب الرئيس لشن حرب الخليج الأولى وغزو العراق عام ٢٠٠٣ للتحكم بوريد نفط الشرق الأوسط.
وركز بشكل أساسي على ضمان التحكم بالممرات البحرية من مضيق هرمز في مدخل الخليج (حيث يتدفق يومياً ما يعادل ٣٥% من تجارة النفط العالمية) عبر المحيط الهندي وصولاً إلى مضيق ملقا وانتهاء ببحر الصين الجنوبي والشرقي.
وحتى يومنا هذا تبقى هذه الممرات البحرية أساسية من أجل البقاء الاقتصادي للصين واليابان وكوريا الشمالية وتايوان. هذه الممرات التي تسمح بمرور النفط والمواد الخام الأخرى لترفد صناعاتهم وتحمل بضائعهم المُصنّعة إلى أسواقهم العالمية، من خلال المحافظة على تحكم الولايات المتحدة بالقنوات الحيوية وضمان ولاء حلفاء أميركا الآسيويين الأساسيين وتقييد صعود الصين.
وعبر السعي إلى تحقيق هذه الأهداف الجيوسياسية التقليدية كان يدفع نحو تعزيز الوجود البحري للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي وإنشاء شبكة من التحالفات العسكرية التي تربط اليابان وأستراليا والهند، وكلها كانت تهدف إلى احتواء الصين. وتم اعتبار روسيا كمنافس جيوسياسي وسعى إلى الاستفادة من كل فرصة من أجل تقليص قوتها ونفوذها، حيث كان يخشى على وجه الخصوص من اعتماد أوروبا المتنامي على الغاز الطبيعي الروسي الذي يمكن أن يقوض من عزمها على مقاومة التحركات الروسية في أوروبا الشرقية والقوقاز.
لمواجهة هذا التوجه، حاولت واشنطن إقناع الأوروبيين بتحصيل قدر أكبر من الطاقة التي تعود إليهم والتي توجد في حوض بحر قزوين من خلال مدّ أنابيب جديدة إلى تلك المنطقة عبر جورجيا وتركيا. وكانت الفكرة أن يتم تجاوز روسيا عبر إقناع أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان بتصدير غازها عبر هذه القنوات لا عبر تلك الأنابيب التي تملكها غازبروم؛ الشركة الاحتكارية الروسية التي تديرها الدولة. ومن هنا كانت فكرة غاز نابوكو.
عندما يتعلق الأمر بالسعي لتعزيز استقلالية الطاقة نرى أن أوباما قد احتضن التوجه القومي المتطرف في دعوته إلى زيادة الاعتماد على النفط، والغاز الطبيعي المحليين والموجودين في نصف الكرة الغربي مهما كانت أخطار التنقيب في مناطق الخارج الهشة بيئياً أو مهما كانت التقنيات الخطرة التي يتم استخدامها مثل التكسير بالمياه.
وسعت واشنطن أخيراً إلى تسهيل عمليات التنقيب عن الغاز والنفط المتزايدة في البلاد ووعدت بتسريع هذه العمليات في مواقع جديدة بما فيها أراضٍ خارج آلاسكا وخليج المكسيك.
في خطاب حال الأمة في كانون الثاني ٢٠١٢ قال أوباما متباهياً: «على مدى السنوات الثلاث الماضية فتحنا ملايين الدونمات من الأراضي أمام التنقيب عن النفط والغاز. وهذه الليلة أصدرت توجيهاتي للإدارة لفتح أكثر من ٧٥% من موارد النفط والغاز الكامنة في الخارج. والآن وفي هذه اللحظة أصبح إنتاج الولايات المتحدة من النفط الأعلى منذ ثماني سنوات. وليس فقط ذلك، ففي السنة الماضية انخفض اعتمادنا على النفط الخارجي ووصل إلى أقل مستوى منذ ستة عشر عاماً.»
وتحدث بحماسة خاصة عن استخلاص الغاز الطبيعي عن طريق التكسير في الترسبات الطينية: «نحن لدينا مؤونة من الغاز الطبيعي التي يمكن أن تبقي أميركا على قيد الحياة لمدة مئة عام»، وعن زيادة اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة الآتية من نصف الكرة الغربي وبذلك يقل اعتمادها على الموردين المعادين وغير الموثوقين في الشرق الأوسط وأفريقيا.
في آذار ٢٠١١ حاولت واشنطن مع البرازيل كمنتج كبير للنفط، أن ترسم علاقة توريد معها بما يمكن أن تساعد الولايات المتحدة في فطام نفسها عن نفط الشرق الأوسط.
وتسعى واشنطن إلى ضمان السيطرة الأميركية على الممرات البحرية الحيوية الممتدة من مضيق هرمز إلى بحر الصين الجنوبي، وبناء شبكة من القواعد والتحالفات التي تحيط بالصين؛ القوة العالمية الصاعدة، على شكل قوس يمتد من اليابان وكوريا الجنوبية في أستراليا وفيتنام والفيليبين في الجنوب الشرقي ومن ثم إلى الهند في الجنوب الغربي، لتنتهي إلى اتفاق مع الحكومة الأسترالية لبناء منشأة عسكرية في داروين على الساحل الشمالي من البلاد بالقرب من بحر الصين الجنوبي، وإنشاء تحالف يضم دول المنطقة من الدول المعادية للصين والتي يحاول الأميركيون أن تشمل الهند لانتزاعها من قبضة البريكس، وتشكيل استراتيجية تهدف إلى تطويق الصين – وهي استراتيجية يراد منها إدخال الهند في النظام الحالي للتحالف الآسيوي مع أميركا بما يخلق ذعراً وانتكاسة لبكين.
وفي النهاية، فإن أميركا قد خطت خطوات في ما يتعلق بالجهود المبذولة من أجل تقليل النفوذ الروسي في أوروبا وآسيا الوسطى عبر تشجيع بناء أنابيب نفط وغاز جديدة تمتد من بحر قزوين عبر جورجيا وتركيا إلى أوروبا، باقتراح بناء خط أنابيب غاز العابر للأناضول (غاز نابوكو)؛ وهو ممر مخصص لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا وصولاً إلى أوروبا مجانباً روسيا، طبيعياً.
كان الترتيب العالمي للغاز يتأرجح بين روسيا و تركمانستان واذربيجيان وجورجيا وإيران وقطر، وباتت الدراسات تتحدث عن ترتيب جديد يقره واقع المخزون الاستراتيجي الجديد حيث أولا روسيا: (في حوض غرب سيبيريا: باحتياطي يُقدّر بـ ٦٤٣ تريليون قدم مكعب) وثانياً الربع الخالي (٤٢٦ تريليون قدم مكعب) + حقل غوار الكبير شمال شرق السعودية (٢٢٧ تريليون قدم مكعب)، و ثالثاً غاز البحر الأبيض المتوسط ٣٤٥ تريليون+٥.٩ مليار برميل من الغازات السائلة +١.٧ مليار برميل من النفط ، وجلّ ذلك في سورية، حيث تتحدث دراسات أخرى عن أن ما يُرى في البحر المتوسط مركزه في سورية وأن اكتشاف حقل «قارة» بما يحقق ٤٠٠ الف متر مكعب يومياً قد حسم أمر واقع ثراء سورية بالطاقة وصولاً إلى اعطائها المرتبة الأولى، و رابعاً حزام حقول الغاز على امتداد الخليج العربي (حزام زاغراوس) من إيران إلى العراق (٢١٢ تريليون قدم مكعب).
إن انتقال الغاز إلى البحر المتوسط يستوجب المرور عبر سورية، كما أن اختيار إيران طريق العراق ثم سورية فالبحر المتوسط لنقل الغاز قد أطاح مشروع الأميركيين (غازنابوكو) وثبت مشروعي السيل الشمالي والجنوبي الروسيين مع ما يضاف لهما من استثمارات في شرق المتوسط كأولوية على حساب الأميركيين والغرب، حيث لا يستثمر الأميركيون إلا في «اسرائيل» وقبرص لاهثين وراء الغاز والنفط اللبنانيين بعد ضياع فرصة الغاز السوري ولا تزال المعركة ... مستمرة.
المصدر: البناء - الدكتور عماد فوزي شُعيبي