مستشار الأمن القومي الإسرائلي السابق: المنطقة مضطربة إلى حدٍّ لم يَعُد فيه الصّراع مجرّد إحتمالٍ بل واقعٌ ينتظر الشرارة..
الصراع المقبل بالنسبة لـ"إسرائيل" "وجودي"،لذلك لا بد من حركة تصحيحية سريعة في مجال صناعة القرار وإلا كانت النهاية..
لا سيما أن مفعول الردع الذي إستُخدم ضد حزب الله تراجع وبات لدى الحزب ترسانة لا تقل عن 50 ألف صاروخ
قد يكون تزامن صدور تقرير نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق شارلز فريليتش، الذي يقيّم فيه الأداء الإسرائيلي على إمتداد سنوات الصراع مع لبنان، مع إختراق طائرة "أيوب" العمق الإسرائيلي من قبيل المصادفة.
لكن نجاح "حزب الله" في ضرب أسطورة الدفاع الإسرائيلي، يأتي ليصب في صلب ما توصل إليه فريليتش في تقريره الممتد على أربعين صفحة «إسرائيل في وضع حرج. المنطقة مضطربة والصراع آتٍ، فهي مسألة وقت لا أكثر. أخطأت إسرائيل كثيراً في العقود الماضية ولم تعد قادرة على إحتمال أي خطأ وجودي آخر».
"الخطأ" الإسرائيلي مرتبط أساساً بآلية صنع القرار في تل أبيب، حسب فريليتش الذي شغل مناصب مهمة إلى جانب دوره الاستشاري في «الأمن القومي الإسرائيلي»، ومنها محلل رفيع في وزارة الدفاع وموفد البعثة الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ثلاث محطات توقف فريليتش عندها، بإعتبارها الأبرز، ليؤكد فشل قادة إسرائيل في إنجاز أهدافهم التي وضعوها لعملياتهم مقابل خسائر باهظة تكبدوها:
إجتياح العام ١٩٨٢
إنسحاب العام ٢٠٠٠
حرب العام ٢٠٠٦.
أما أسباب الفشل فكثيرة، بعضها إرتبط بتضارب بين الأهداف الرسمية وأهداف القادة الذين أداروا العمليات، وفي الحالتين، كانت الأهداف «طموحة» للغاية، وبعضها إرتبط بعدم وضع إستراتيجية واضحة لمجمل العملية مقابل إتخاذ قرارات آنية حسب سير المعركة.. من دون إغفال عوامل أخرى كتهوّر القادة وتسييس القرارات وهيمنة المؤسسة الدفاعية على الحكومة.
في الواقع، يكتسب تقرير فريليتش أهميته كون كاتبه يعالج مسألة صناعة القرار الإسرائيلي من منظار صانعي القرار، الذي كان وما زال يعتبر واحداً منهم، فضلاً عن كونه يعد باحثاً رفيع المستوى في «مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية» في جامعة هارفرد، كما يشارك في إدارة وحدة استشارات خاصة بشؤون الشرق الأوسط ويُدَرِّس العلوم السياسية في جامعة تل أبيب والجامعة العبرية.
وهم الإجبار
يردّ فريليتش على من قد يسارع إلى القول، «وهو محقّ»، إن الفشل مرتبطٌ بعوامل نسبية وذاتية، وبالتالي، يصبح الجزم به غير جائز في المحطات الثلاث محور الدراسة، فنتيجة الحرب لم تكن دائماً سلبيّةً بالكامل من الناحية الإسرائيلية، كما أن بديل الانسحاب للعام ٢٠٠٠ كان ليكون أسوأ.
ولكن فريليتش يؤكد أن تقريره المرتكز على مبدأ المقارنة بين هذه المحطات، يربط الفشل ليس بجودة النتائج التي تحققت بل بقدرة إسرائيل على إنجاز الأهداف التي وضعها قادتها. وهكذا أظهرت إسرائيل مراراً عجزها عن إنجاز أهدافها، وقد ظهر العجز فاضحاً في «تقرير فينوغراد» (في أعقاب حرب تموز ٢٠٠٦) الذي أكد أن «قوات الدفاع الإسرائيلية باتت تخاف المستنقع اللبناني.
يشير فريليتش إلى ثلاثة عوامل، تبدو في الظاهر مستقلة لكنها تتحكم في قرار مجلس الأمن القومي وتتحمل المسؤولية في ما وصلت إليه إسرائيل من نتائج في حروبها:
ـ العامل الأول،هو حكومة غير مؤثرة في آليات صنع القرار، ويقترن ذلك مع ما لديها من أهداف إما غير أخلاقية أو مبالغ في طموحها، إلى جانب معالجة المعلومات التي تردها معالجة خاطئة، أو صياغة القرارات آنياً في ظلّ غياب الهيئة التشريعية التي لا بدّ أن تشارك في صياغة القرارات.
ـ العامل الثاني،ويتمثل بالتسييس المبالغ به لآلية صياغة القرارات، بسبب السياسات الحزبية والتحالفات القائمة، كما بسبب الرأي العام.
ـ العامل الثالث،يتجلى في هيمنة المؤسسة الدفاعية على آليات صنع القرار، على حساب الجهات المسؤولة الأخرى ووجهات النظر الأخرى.
وفي إطار رصد التَّفاعُل الإسرائيلي مع الظروف الإستراتيجية، بما فيها التهديدات والفرص التي يواجهها القادة وخيارات السياسة المتاحة لهم، يشير فريليتش إلى أنه في الحالات الثلاث أوهمت إسرائيل نفسها بضرورة الرد بسبب دوافع استراتيجية مهمة وجازمة. ومع ذلك، لم تأتِ تلك الحالات الثلاث في خانة الإجبار وفق مبدأ «الإجبار والردع» (compellence and deterrence) بل ظلّت المبادرة إلى حد كبير في يد إسرائيل.
المعارك كثيرة.. والخطأ واحد
صحيح أن السياق التاريخي لمحطات الصراع الثلاث كان مختلفاً، ولكن التحدي الذي واجهته إسرائيل، لا سيما في معركة غير متكافئة مع «منظمة التحرير الفلسطينية» أو مع «حزب الله»، تتيح من خلال المنهج المقارن بُعداً كافياً يُبرِّرُ هذا الجمع.
تبدأ الدراسة بعرض الاستعدادات الاستراتيجية لإسرائيل في الحالات الثلاث، وذلك من أجل فهم الدوافع الإسرائيلية للتصرف، قبل الدخول في مقارنة تحليلية لآلية إتخاذ القرار.
في العام ١٩٨٢، تم إتخاذ القرار بالاجتياح لمواجهة عدوين، فيما كان الأساس الإستراتيجي المنطقي للقرار مختلفاً في الحالتين.
كانت سوريا لفترة طويلة تعتبر العدو اللدود لإسرائيل، فيما كان لبنان قد إمتنع لفترة طويلة أيضاً عن القيام بالعمليات العسكرية ضد إسرائيل. ولكن هذا الدور المسالم للبنان، كان يهدده دور سوريا المتنامي على أراضيه، يضاف إليه دور «منظمة التحرير الفلسطينية»، الهدف الاستراتيجي الأساسي لإسرائيل.
وفي نيسان ١٩٨٢، نشرت سوريا صواريخ «سام» في لبنان، ما شكل تحدياً لحرية الجو الاسرائيلي في مناوراته وكذلك تهديداً لمصالحه الأمنية وقوات ردعه في الشمال (الفلسطيني). وكان الرضوخ لنشر هذه الصواريخ يعني القبول بالهيمنة السورية على لبنان وزيادة نفوذ المنظمة كذلك.
كانت دوافع إسرائيل في البداية، الرد على التهديد مباشرة، ولكن مع مرور سنة على الاجتياح، أخذت إسرائيل زمام المبادرة لتشكيل بيئة الصراع وتحقيق أهداف تتجاوز العوامل المباشرة التي كانت خلف التدخل في حزيران ١٩٨٢.
باراك.. وبداية تغيير مسار الصراع
أما عند الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان في العام ٢٠٠٠، فيتذكر فريليش أن الحرب صممت في العام ١٩٨٢ لكي تكون قصيرة. وبعد إنتهاء الاجتياح، بدأ الانهيار التام للاستراتيجية الإسرائيلية والدخول في ملحمة من ثمانية عشر عاماً. وبرغم أنه مع حلول العام ٢٠٠٠ أصبحت الخسائر لا تحتمل، لكن لم تكن تل أبيب أمام حالة من «الإجبار» إذ كان لديها خيارات أخرى ممكنة. غير أن وزير الدفاع آنذاك إيهود باراك كان يخطط لأن يكون الانسحاب من لبنان «بداية تغيير مسار الصراع في الشرق الأوسط».
بعد إنسحاب إسرائيل التام في العام ألفين، لم يكن هناك من مبرر لأي صراع مجدداً. ومع خطف الجنديين الإسرائيليين في العام ٢٠٠٦، وجدت إسرائيل نفسها في مأزق. ليس هناك عدد ضحايا كاف للقيام برد فعل انتقامي ضخم. في المقابل، بدا واضحا لصناع القرار الإسرائيليين أن الهدوء النسبي على الحدود الشمالية لن يستمر طويلاً وان «حزب الله» سيبدأ التصعيد في نهاية المطاف، وسيستفيد من الهدوء لتطوير ترسانته الضخمة من الصواريخ.
وفي سياق أوسع، كان قادة إسرائيل ينظرون إلى «حزب الله» على أنه جزء من المواجهة الأكبر مع إيران، حيث تقدّمه الأخيرة كرادع لتهديد إسرائيل بالعقاب الشديد إذا هاجمت المنشآت النووية. ظنت إسرائيل حينها أنها ملزمة بمواجهة الحزب لأن خطره أصبح وجودياً وفق منطق «الإجبار»، لكنها لم تكن «ملزمة» أن تفعل ذلك في تلك الفترة الزمنية أو بالطريقة التي نفذته بها أو بالحجم الذي اتخذته.
المبالغة في التوقعات
في إجتياح العام ١٩٨٢، كانت الأهداف التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية كثيرة، ومنها إقامة منطقة آمنة على الحدود الشمالية، إنشاء نظام سياسي جديد في لبنان، تدمير «منظمة التحرير» بعد إخراجها من لبنان، وفرض إنسحاب القوات السورية، ما يسمح للبنان بتوقيع إتفاقية سلام مع إسرائيل تمهيداً لإنشاء دولة فلسطينية في الأردن. ولكن بإستثناء إخراج «المنظمة» من لبنان، كانت إسرائيل عاجزة عن تحقيق حتى الأهداف الرسمية الأولية.
وفي إنسحاب العام ٢٠٠٠، كان إيهود باراك يطمح لخلق «حائط غير مرئي» من الشرعية الدولية، والذي يجعل أي هجوم من «حزب الله» غير مبرر، الأمر الذي يُمهِّدُ لتدمير الحزب عبر حرمانه من قضية وجوده وإلزامه بتسليم سلاحه. صحيح أن «حزب الله» وجد نفسه في مأزق لفترة إلا انه لم يوقف نشاطه عند الحدود ولم يسلّم سلاحه وفشلت خطة باراك.
أما في حرب ٢٠٠٦، ففي البداية، ظنّ وزير الدفاع عمير بيرتس أن العملية لن تستغرق أكثر من ١٠ أو ١٤ يوماً، فيما إعتقدت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني أنها ستنتهي في اليوم التالي. وقد يكون «تقرير فينوغراد» خير دليل على عدم تحقق أي من أهداف الحرب، كما على فشل الحكومة في صياغة الأهداف وخيارات واضحة.
وقد وجد التقرير أن الأهداف التي تم تبنيها فهمها الوزراء والمسؤولون الاسرائيليون فهماً مختلفاً، أما الأهم، فهو الأثر الذي تركته الحرب على إمكانيات الجيش الاسرائيلي وقدرته على إتباع إستراتيجية خروج ديبلوماسية.
يُذكر أن الأهداف حسب إيهود اولمرت كانت: تغيير الوضع الاستراتيجي في جنوب لبنان، طرد «حزب الله» عن الحدود وردعه عن الإقدام على أي محاولات أخرى، تعزيز قدرة الردع الإسرائيلية والانطلاق بعملية ديبلوماسية تدفع إلى تدخل المجتمع الدولي وتطبيق القرار١٥٥٩.
"إسرائيل لا ترى أبعد من.. اللحظة"
في الحالات الثلاث، كان القادة الاسرائيليون يظهرون أن الخيارات محدودة: إما الإقدام على القرار أو الانهيار، ومع ذلك كان يتبين لاحقاً، أن هناك إنفصالاً كبيراً بين المعلومات المتدفقة إلى مراكز صناعة القرار والقرارات التي تتخذ.
وفي الحالات الثلاث، كانت القرارات تؤخذ وفق الظروف المستجدة واللحظة، بينما كانت نهاية اللعبة تقرر لاحقاً في سياق العمل، عوض إعتماد استراتيجية كاملة منذ البداية.
وفي هذه الأثناء، كانت إسرائيل تفتقر إلى جهة فعالة ومستقلة وسريعة في إتخاذ القرار. ففي عامي ١٩٨٢ و٢٠٠٦ مثلاً، منعت الحكومة ومنتدياتها الفرعية من الحصول على المعلومات الحساسة، كما ضُلّلت عمداً في الكثير من الحالات، وفي العام ٢٠٠٠ مثلاً، لعبت الحكومة دوراً لا يكاد يُذكَرُ في القرارات.
وفي الحالات الثلاث، كان هناك تأثيرٌ واضحٌ لوزارة الدفاع على مستويات مختلفة من التأثير. وفي العام ٢٠٠٦ لعبت المؤسسة الدفاعية دوراً واضحاً في القرار بدل الجناح السياسي الذي عمد إلى تبرئة نفسه من مسؤولية تحديد أهداف الحرب. وفي مختلف المحطات، كانت قوات الدفاع الإسرائيلية اللاعب الرئيسي في وضع التقديرات الظرفية وعرضها وأهداف المعركة وخيارات السياسة المتاحة للحكومة.
وفي النهاية، يجيب فريليتش عن السؤال الرئيسي حول السبب من إستعادة الإخفاقات السابقة، وذلك بالتأكيد أن المنطقة مضطربة إلى حدّ لم يعد فيه الصراع مجرّد إحتمال بل بات واقعاً ينتظر شرارة الاندلاع.
الصراع المقبل بالنسبة لإسرائيل «وجودي»، ولذلك لا بدّ، حسب فريليتش، من حركة تصحيحية سريعة في مجال صناعة القرار وإلا كانت النهاية.. لا سيما أن مفعول الردع الذي إستخدم ضد «حزب الله» في العام ٢٠٠٦ قد تراجع وبات لدى الأخير ترسانة لا تقل عن ٥٠ ألف صاروخ.
صحيفة السفير - هيفاء زعيتر