يد إسرائيل الطولى .. رسائل مدوّية وصممٌ عربي مُزمن
تتكشف يومياً تفاصيل إضافية عن طبيعة وملابسات الهجوم على مصنع "اليرموك" للأسلحة قرب العاصمة السودانية الخرطوم. وتشير تصريحات سياسيين وخبراء أن حكومة نتنياهو متورطة في الهجوم رغم النفي الرسمي.
وفي مقابل تزايد الأدلة والمعطيات على تورط إسرائيل فإن اللافت هو رد الفعل العربي "الباردة" على الإستهداف مقابل رد إيران "القوي" بشجب الغارة وارسال قطع بحرية إلى السودان.
تورط إسرائيلي وتجارب سابقة…
أحدث التقارير تشير إلى أن ثماني طائرات إستهدفت المصنع المخصص للأسلحة التقليدية، وأوضحت صور الأقمار الاصطناعية أن صواريخ أطلقت من الجو كانت السبب في الحريق الذي إندلع في المصنع في ٢٤ أكتوبر/ تشرين الأول.
ورغم أن إسرائيل تنفي أي صلة بإستهداف الموقع المذكور، إلا أن تصنيفها للسودان كدولة إرهابية، وما نقلته الصحف العبرية في الأيام الأخيرة عن مصادر أمنية وخبراء تؤكد ضلوعها بالهجوم.
وترجح هذه الفرضية تجارب إسرائيلية سابقة في قصف قافلة من السيارات على طريق بورسودان مطلع ٢٠٠٩ بذريعة أنها تحمل أسلحة في طريقها إلى قطاع غزة عبر مصر، كما إستهدفت مرة أخرى رجلاً قيل إنه المسؤول عن إدارة عمليات تهريب السلاح من السودان إلى حركة حماس. وفي خارج السودان دمرت إسرائيل مفاعل تموز العراقي في العام ١٩٨١، والمفاعل السوري "المزعوم" في دير الزور.
ولعل اللافت في هذه المرة أن إسرائيل تذهب أبعد بإستهداف قلب السودان وعاصمته الخرطوم. ولم تثنها التغيرات الكبيرة بعد أحداث “الربيع العربي” عن غارتها هذه، كما لم تحسب حساباً لأوضاع المنطقة الواقعة على فوهة البركان.
رسائل في كل إتجاه…
ربطت معظم التحليلات الأولية بين الغارة والعلاقة بين حكومة السودان وإيران وتزويد حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في قطاع غزة بالأسلحة.
وذهب محللون إلى ان الغارة تعد “بروفة” لضربة إسرائيلية للمواقع الإيرانية. ولعل ان التحليلين السابقين لا يجانبا الحقيقة. لكن توسيع دائرة البحث والتحليل تكشف عن أن الضربة تبعث برسائل داخلية وإقليمية وقد تصل إلى حدود أبعد حيث ينشغل صناع القرار في واشنطن بالانتخابات الرئاسية.
فداخلياً يحتاج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى الرد على الاختراق الكبير للأجواء الإسرائيلية بعد حادثة طائرة الاستطلاع “أيوب”، ليعيد إلى الأذهان أن إسرائيل تسيطر على الأجواء وأن سلاح الجو الإسرائيلي هو الأقوى، ومازال قادرا على ضرب الأهداف التي يريدها حتى لو كانت على مسافة أبعد من ١٩٠٠ كيلومترا.
ومن المؤكد أن نتانياهو عزز صورته كقادر على ضمان أمن إسرائيل في أي مكان، وعمد التحالف مع أفيغدور ليبرمان بالاشارة إلى أنه مستعد إلى ضرب أماكن أبعد من السد العالي الذي طالما هدد الأخير بضربه إنتقاماً من مصر.
كما تبعث الغارة رسالة إلى الأجنحة العسكرية للتنظيمات الفلسطينية وخصوصاً في حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى أنها عازمة على تجفيف كل المنابع الممكنة لتزويدها بالسلاح، وأن الاستخبارات الإسرائيلية قادرة على رصد تحركات قادتها العسكريين المسؤولين عن إيصال الأسلحة إلى قطاع غزة.
وأغلب الظن أن إسرائيل أوصلت رسالة إلى البلدان التي تقيم علاقات معها في القرن الإفريقي وشرق القارة أنها تساندها في أي خلاف قد ينشب مع مصر والسودان حول تقاسم مياه النيل.
كما أبلغت تل أبيب حليفتها واشنطن أنها تواصل التدريبات من أجل ضرب أهداف إيرانية في حال إختلاف التقديرات حول “الخط الأحمر” للبرنامج النووي الإيراني، وأنها يمكن أن تقدم على مغامرة تحرجها، في حال عدم الالتزام بمنع إيران من الوصول إلى القدرة على صنع أسلحة نووية.
الرد الإيراني والرد العربي
سارعت إيران إلى شجب العدوان على السودان، وأرسلت قطعاً بحرية إلى المنطقة. ورغم نفي الخرطوم أي صلة للمصنع المستهدف بإيران، والتأكيد على أن زيارة القطع البحرية الإيرانية يأتي في إطار مخططات سابقة فالأرجح أن إيران تريد تسجيل حضورها في هذه المنطقة في إطار سعيها إلى إمتلاك أوراق إقليمية في صراعها مع الغرب وإسرائيل حول برنامجها النووي. وأعلن قادة إيرانيون أن بلادهم تريد “الدفاع عن أمن المنطقة في وجه التهديدات الإسرائيلية”.
والملاحظ أن الرد الإيراني جاء قوياً وسريعاً، وفيما شجبت حماس والتنظيمات الفلسطينية الغارة الإسرائيلية، وكذلك فعلت سوريا وحزب الله ، فإن الردود العربية إتسمت بالتحفظ والبرود.
وإذا كان من المفهوم أسباب كل من الأطراف السابقة في شجب إستهداف السودان، فإن من غير المفهوم صمت الجامعة العربية التي لم تبادر لعقد أي إجتماع على مستوى وزراء الخارجية لمناقشة العدوان الجديد وشجبه ببيانات أضعف الإيمان.
كما لا بد من الإشارة إلى موقف كل من مصر والسعودية فالطائرات الحربية الإسرائيلية مرت بالتأكيد فوق البحر الأحمر الفاصل بين البلدين، وتزودت بالوقود فوقه في طريقها إلى مصنع “اليرموك” ومن الطبيعي أن ترصد رادارات هذين البلدين الطائرات الإسرائيلية.
ولا يمكن وصف الصمت العربي إلا بالمشين. ولا يمكن تبريره بالتحالف بين نظامي الحكم في السودان وإيران. فإستهداف أمن السودان هو ضربة مباشرة للأمن القومي المصري. كما أن هذه الطائرات كان يمكن أن تضرب أهدافاً في المنطقة الغربية من السعودية أو الشرقية من مصر.
وعدم الرد العربي على الغارة الاسرائيلية بحسم يشجع أعداء السودان لأنهم يشعرون أنه وحيد من دون سند عربي، بعد أن فقد نحو ثلث أراضيه بإنفصال دولة الجنوب.
وربما يؤدي إلى خطوات غير محمودة، وعكسية بالنسبة للسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي في صراعها مع إيران من أجل عدم تمكينها من إستكمال برنامجها النووي.
وربما يشجع الموقف العربي”البارد” على مزيد من التقارب بين السودان وإيران، ويوسع قدرة طهران على الرد في حال إستهدافها.
الغارة على مصنع اليرموك للأسلحة في الخرطوم دمرت قسماً كبيراً من المصنع، وأضعفت قدرات السودان الدفاعية في وجه محاولات تقسيمه. وشاهد القاصي والداني تصاعد ألسنة الحريق في المصنع، وسمع السكان المحيطون بالمكان أصوات التفجيرات جراء الاستهداف الصاروخي، إلا أن كثيراً من العرب يصمون آذانهم ويديرون وجهوههم عن العداون على السودان وكأن ما يجري لا يعنيهم مطلقاً.
وأخيرا فإن الغارة الإسرائيلية على الخرطوم وإن أثبتت أن لها يداً طولى في المنطقة، فإنها تكشف عن تخبّطٍ إستراتيجي خوفاً من التبعات المستقبلية للربيع العربي، وأكدت أن كثيراً من القادة العرب يقاطعون حتى الدروس المستخلصة من التّرجمات الفارسية القديمة، أو ربما لم يسمعوا بعد بحكمة “أكلنا يوم أكل الثور الأبيض”، بينما إسرائيل لا تألوا جهداً من أجل منع تقدم العرب، فيما تعمل إيران بجدّ على شغل الفراغ الذي يتسبب به عجز العرب وعدم تضامنهم.
وكملاحظة إحترازية فإن المطلوب من حكومة السودان أن تدرس أيضاً ضعف التعاطف الشعبي الداخلي معها عكس ما جرى بعد إستهداف معمل الشفاء للأدوية في العام ١٩٩٨، لتنفتح أكثر على شعبها الذي عاني من فقدان قسم كبير من وطنه، ويرزح تحت ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة، والانغلاق السياسي.
بقلم سامر إلياس