إنَّ الوحي الإلهيّ _كما ذكرنا في العدد السّابق_ هو ظاهرةٌ خفيّة، تكتنفها الأسرار، لأنّها تقع في ما وراء الحسّ والعقل. ولا يعي حقيقتها إلّا النّبيّ الموحى إليه من قبل الله عزّ وجلّ. لذا، بادر الوثنيّون إلى إنكاره، وقد أخبرنا الله سبحانه عن اعتراضهم وطرحهم أموراً تعجيزيّة على الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، في قوله تعالى من سورة الإسراء: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (الإسراء/٨٩) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (الإسراء/٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (الإسراء/٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (الإسراء/٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (الإسراء/٩٣). فكان الرّدّ الإلهيّ حاسماً بالقول: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (الإسراء/٩٣) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً (الإسراء/٩٤) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً (الإسراء/٩٥). لقد احتجّ عليهم وبيّن لهم السّبب في أنّ الله بعثه واحداً منهم، لكنّهم ازدادوا عتوّاً واستكباراً، لذا كان الأمر بقطع المحاججة وترك المخاصمة، وإحالة الأمر إلى شهادة الله عزّ وجلّ ليقضي ما هو قاضٍ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (الإسراء/٩٦).
رؤية الماديين للوحي:
الوثنيّون في الزّمن الماضي، والمادّيّون في الزّمن الحاضر أنكروا الوحي لكن بأسلوبٍ مختلف. فقد طرح بعض المستشرقين إشكاليّة حول الوحي، مفادها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوّة عقله الذّاتيّة، وبما يتمتّع به من نقاء وصفاء روحي ونفسي، أدرك بطلان ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام. وأنّ فطرته الزّكيّة مضافاً إلى بعض الظّروف الموضوعيّة كالفقر، حالت دون ممارسته بل ومناهضته للظّلم الإجتماعي، وأكل مال اليتيم، والإنغماس في الشّهوات وارتكاب الفواحش بمختلف أشكالها. وأنّه سمع عن الأنبياء السّابقين أنّهم بشّروا بنبيّ من عرب الحجاز، فتوكّد من نفسه أمل ورجاء بأن يكون هو ذلك النّبي. فأخذ يتوسّل إلى الله منقطعاً إلى عبادته في غار حراء أثناء خلواته.
وهناك قَوِيَ إيمانه وسَما وجدانه، فاتّسع محيط تفكيره وتضاعف نور بصيرته، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات والدّلائل البيّنة في السّماوات والأرض على وحدانيّة الخالق المدبّر. وبذا أصبح أهلاً لهداية النّاس. ثمّ تجلّى له الإعتقاد بأنّه نبيّ من الله في الرّؤية المَناميّة، وقوي هذا التّجلّي حتى أخذ يتمثّل له في اليقظة، مُلقّناً إيّاه وحياً ما هو إلّا من نفسه، ومن تلك المعلومات الّتي استجمعها من النّصارى واليهود، وبعد ذلك هداه عقله وتفكيره لتمييز المرفوض منها أو المقبول.
بالتالي، برأيهم: القرآن ليس وحياً إلهيّاً من السّماء وإنّما وحيٌّ نفسيٌّ منه فقط.
إنّ هذه النّظريّة _ بعد الدّرس والتّحليل_ لا تصمد أمام النّقد والمناقشة العلميّة، لأنّه يمكن الرّدّ عليها من محاور ثلاثة:
أولاً: تاريخياً.
هذه النّظريّة مفروضة على البحث بشكل مسبق، لأنّه ليس لها أصل تاريخيّ، كما أنّ طبيعة الظّروف الّتي عاشها النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله تثبت اختلاق قصصهم الكاذبة من الأخبار والحوادث لتدعيم فكرتهم.
مثلاً:
• قضية علمه بأخبار عاد وثمود ادّعوا بأنّها كانت نتيجة مروره بأرض الأحقاف، مع أنّ هذه الأرض لا تقع في طريق مرور القوافل، كما لم يذكر لنا التاريخ أنّه مرّ بها.
• أثناء لقائه بالراهب "بحيرا"، يدّعون بأنّه جرت مناقشات ومحادثات دينيّة وفلسفيّة معقّدة، مع أنّ التّاريخ لم يذكر التقاءه به إلّا عندما لاحظ أنّ الغمام يظلّله، فطلب من القافلة التّوقّف، طالباً إظهار ظهره الشّريف كي يرى العلامة التي كان ينتظرها للقاء نبيّ الأمّة.
• "الرّومي الحدّاد" ولقاؤه به، لم يكن المشركون ليقصّروا في إثبات أنّ القرآن من اختراعه. بل ادّعوا ذلك، ودحضت دعواهم بسبب ضعفها. قال تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (النحل/١٠٣).
إنّ هذه النّظريّة تفرض أن يكون إعلان البعثة نتيجة مرحلة معيّنة من التّكامل العقلي والنفسي، بعد مراحل طويلة من المعاناة والتّفكير والتّأمّل. وهذا يستلزم أن ينطلق مباشرة، من اللّحظة الأولى من إعلان نبوّته، لطرح أفكاره عن الحياة والمجتمع والكون، وأن يقدّم الحلول المثاليّة لمعالجة كافّة الأمور. لكنّ أسلوب الدّعوى وطريقتها كانت عكس ذلك تماماً. فالبداية اضطراب وخوف ودعوة إلى التّوحيد، ثمّ الإنطلاق بشكل تدريجي لمعالجة كافّة القضايا، بحسب الظروف التي تطرأ، وانقطاع الوحي الذي تخلّل البعثة النبوية يدحض هذا الإدّعاء بشكل قاطع.
لقد عاشر القرشيّون النبيّ عن قرب، وعرفوا حياته بكل تفاصيلها ولو كان من يكذّبه صادقاً فيما ادعاه (المستشرقون) لما وصفه الوثنيّون الأوائل، قبل بعثته المباركة، بلقب "الصّادق الأمين".
ثانياً: المحتوى الدّاخلي للظّاهرة القرآنيّة.
إنّ سعة النّظريّة القرآنيّة وآفاقها المتعدّدة، لا تتّفق مع طبيعة المصادر الّتي تذكرها هذه النّظرية. ويتّضح ذلك عند ملاحظة الأمور التّالية:
أولاً: إنّ الموقف العامّ للقرآن الكريم هو تصديق الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة، من حيث ارتباطهما بالمبدأ الأعلى، لكنّه في نفس الوقت جاء مهيمناً ورقيباً وحاكماً على ما فيهما من الضّلال والتّحريف. وهذه الرّقابة دقيقة وشاملة بحيث لم تترك حادثة أو مفهوماً إلّا وضعت لها المقاييس الصّحيحة.
مثلاً:
• القرآن الكريم يخبرنا بأنّ الّذي كفل موسى ومنع فرعون من قتله هو زوجته آسية، بينما التّوراة تدّعي أنّها ابنته.
• مسألة غرق فرعون وجنوده، تدّعي التّوراة أنّه غريق بشكلٍ مبهم. لكنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله سبحانه أنجاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية.
• صانع العجل الّذي عبده بنو إسرائيل يدّعي الّتوراة بأنّه هارون، لكنّ القرآن الكريم يخبرنا بأنّه السّامريّ، وقصّته معروفة في سورة طه المباركة.
وغير ذلك من القصص الّتي تناقض التّوراة، نجد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله أصرّ عليها وقد ذكرها القرآن في أكثر من آية مباركة. فلو كان وحياً نفسياً لكان الأجدر به أن يسكت عنها أو يتجاهلها على الأقل، خوفاً من افتضاح أمره، والعياذ بالله.
ثانياً: لقد كان معروفاً عن النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه لم يكن يقرأ ولا يكتب. فكيف يمكن له أن يأتي بالنّص القرآني طيلة ثلاثة وعشرين عاماً مترابطاً متّسقاً، وهو عبارة عن تشريع يشمل مجالات الحياة المختلفة بكل تفاصيلها، مقدّماً إيّاه إلى البشريّة جمعاء، لا تجد فيه تناقضاً أو خللاً، يكفل سعادة البشر في الدّارين، تحدّى العرب والعجم بل والجنّ أيضاً على الإتيان بمثله. وقد اعترف المؤرّخون، حتّى بعض المستشرقين منهم، بأنّ أعلام التّمدّن رفعها العرب من بين سائر الأمم عندما تمسّكوا بالقرآن كمنهج حياة وتشريع إلهي.
ثالثاً: موقف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الظاهرة القرآنية (الوحي الإلهي):
إن مسألة الإنفصاليّة بين ذاته المتلقيّة والذّات الملقية إليه واضحة وجلية. وقد بيّنها الرّسول وتحدّث عنها في مناسبات متعدّدة. هذا الشّعور بالإنفصاليّة أخذ مظاهر عديدة لا يمكن تجاهلها، منها:
أولاً: كان النّبيّ يبدو في صورة العبد الضّعيف معترفاً بالعجز عن تبديل حرف من حروف القرآن الكريم وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس/١٥) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (يونس/١٦).
يزداد الفرق وضوحاً (بين الذّاتين، الملقية والمتلقّية) في الآيات:
• الّتي تحتوي غفراناً، بغض النّظر عن الذّنب وماهيّته، قال تعالى: عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (التوبة/٤٣)، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (الفتح/٢).
• أو تحتوي إنذاراً أو تهديداً "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ(المائدة/٦٧)، ويبلغ الإنذار درجة القمّة في قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (الحاقة/٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {الحاقة/٤٥} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (الحاقة/٤٦) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة/٤٧).
ثانيا: إنّ النّبيّ الأكرم إهتمّ بتدوين القرآن الكريم، فكان يأمر كتّاب الوحي بأن يتعاملوا مع نصّه المبارك بقدسيّة خاصّة، كما كان يجهد نفسه وفكره بترديده، فطلب منه القرآن الكريم ما يلي: طه (طه/١) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (طه/٢)، الأية ١- وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (طه/١١٤)، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (القيامة/١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (القيامة/١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (القيامة/١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة/١٩).
ثالثاً: إنّ طريقة وتاريخ نزول الآيات الكريمة لها أكبر دلالة على عدم إختياره لها أو لوقتها:
فقد يتتابع ويثقل عليه أوينزل في وقت لا يتوقّعه، مثلاً سورة الكوثر نزلت حينما آوى إلى فراشه كي يرتاح وينام. وآية التوبة نزلت وقد بقي من اللّيل ثلثه وهي: لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة/١١٧).
قد ينقطع الوحي عنه وهو في أشدّ الحالات شوقاً إليه، إذ بعد نزول أوّل الآيات من سورة العلق فترالوحي ثلاث سنوات، والنّبيّ الكريم ينتظر نزوله مرة أخرى حتى نزلت سورة الضحى المباركة. أيضاً عندما رمى المنافقون إحدى زوجاته بحديث الأفك، أثاروا فضيحة تداولها الناس طيلة أربعين يوماً، والنّبيّ يلتزم الصّمت مترقّباً الوحي ونزوله، ثم نزلت آيات سورة النّور المباركة. كذلك الأمر، حينما كان يقلّب طرفه في السّماء قرابة سبعة عشر شهراً متحرّقاً شوقاً إلى تحويل القبلة إلى الكعبة المشرّفة..
لِمَ ينتظر كلّ هذه المدّة لو كان الوحي نفسيّاً؟ ألم يكن من الحريّ به أن يلبس ثياب الرّهبان أو يطلق البخّور.. ليخترع آيات من عنده تبرئ زوجه، وتغيّر القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ويفعل بعدها ما يريد؟ لماذا لم يسعف نفسه بوحي عاجل يحقّق ما يصبو إليه ويتمنّاه؟ ذلك لأنّ الوحي ينزل أو يفتر حين يشاء ربّ محمد ذلك.
وبعد دراسة كلّ المحاور السّابقة، لا يبقى مجال للتردّد في شأن أنّ القرآن الكريم وحيٌ إلهي وليس نفسيا، نزل من رب العالمين على رسولنا الكريم بأسلوبين، سنتناول الحديث عنهما في العدد اللاحق بإذنه تعالى.
والحمد لله رب العالمين.
إعداد: منى الحسيني