هــل قـــررت "إسرائيـــل" الإنتحـــار؟..
بانتصارها وصمودها في الميدان وإصرارها على نيل كامل حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.. تكون غزة قد أدخلت المنطقة في صراعات قد تفجر القضية الفلسطينية برمتها بسبب عناد “إسرائيل” من جهة، وصراع الأحلاف من جهة ثانية، وهو ما استشعره ‘محمود عباس’ بعد عودته من قطر مؤخرا وقوله لأعضاء حكومته: “يريدون تدمير القضية الفلسطينية”.
بقلم : أحمد الشرقاوي
هذا واقع قائم يدركه الجميع، لكن الجديد أن ‘محمود عباس’ أقر به أخيرا، والأمر هنا لا يتعلق بصحوة ضمير متأخرة.. مخافة أن “يذبحوه من الوريد إلى الوريد” كما قال أثناء العدوان على غزة سنة ٢٠٠٨، بل بخلاصة ما وصل إليه من قناعة عقب جولاته المكوكية الأخيرة في دول المنطقة.. ومؤداها، أن القضية أكبر من ‘غزة’، لأنها تهدف إلى نزع سلاح المقاومة في المنطقة برمتها وفق الإستراتيجية الأمريكية الجديدة مقابل مساعدات إقتصادية ضخمة ومزايات سياسية، حيث خصصت مبادرة "كيري" الجديدة مساعدات بقيمة ٥٠ مليار دولار لإعادة إعمار غزة والنهوض بها إقتصاديا مقابل نزع سلاح المقاومة، رمز العزة والكرامة والإنتصارات المذهلة، ليعيش الشعب الفلسطيني "الرفاهية" التي ستغنيه عن التفكير في "قتال إسرائيل" حتى لو إستمرت في إذلاله مخافة أن تضيع مصالحه وإمتيازاته. وبطبيعة الحال المال سيكون بالإساس خليجي.
‘محمود عباس’ إستدعي أخيرا إلى الرياض، الذي يبدو أن صراعها مع تركيا وقطر وصل حدا من المزايدة السياسية على أرواح الشهداء في غزة والضفة، ما ينذر بأن القادم قد يكون أسوء مما نتصور في فلسطين، وهناك من يتحدث عن إنفجار وشيك بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر التي لم تلتزم بـ”وثيقة الرياض” لإنهاء الأزمة و عودة السفراء، حيث تنتهي مهلة ٦ أشهر التي حددت لها أواخر هذا الشهر، والحديث في السعودية عن تحويل قطر لـ"قطاع غزة ٢" بالحصار برا وبحرا وجوا.
ويبدو أن الوضع تفاقم كثيرا بسبب العدوان الإرهابي الذي تشنه إسرائيل على غزة وإتخاذ قطر لموقف مساند لحماس في غزة بالتحالف مع تركيا على حساب المبادرة المصرية التي تخدم أهداف إسرائيل ومصر ودول الخليج، بل ومعظم الدول العربية التي إن لم تحرض إسرائيل صراحة على سحق المقاومة، فهي تتمنى ذلك بقوة.
‘حماس’ بالنسبة للسعودية كما مصر والإمارات وإسرائيل والدول العربية الدائرة في الفلك الأمريكي عموما، منظمة إرهابية منضوية تحت لواء الإخوان المسلمين، وبالتالي، إنتصارها في غزة سيعطي زخما خطيرا للإسلاميين في العالم العربي وخصوصا في مصر، فيعود المشروع الذي سقط أكثر قوة للساحة العربية، وهذا ما لا يمكن أن تسمح به مملكة الظلام، ما يجعله هدفا يتقاطع مع "أمن" هذا السرطان الخبيث المسمى "إسرائيل" وما أصبح يعرف أيضا بالأمن القومي المصري الجديد في عهد الديكتاتور ‘السيسي’، والذي لم يعد مهددا من إسرائيل الحليفة، بل من ‘حماس’ في قطاع غزة والإخوان المسلمين في الداخل والخارج.
ولعل سبب توجس السعودية من تحركات قطر وتركيا، يعود لشعورها أن هذين البلدين، وبطلب أمريكي وإنحياز واضح لدورهما بحكم علاقاتهما الوثيقة مع الجناح السياسي لحركة ‘حماس’، يقومان بتسويق مبادرة مغايرة للمبادرة المصرية، ما يجعل المساومة على القضية الفلسطينية تتخذ أبعادا خطيرة لجهة إطالة الحرب لا إنهائها بإتفاق دولي يعطي الشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة.
وحيث أن الأمر كذلك، فليس من مصلحة حلف السعودية أن تتوقف الحرب حتى تسحق حماس والجهاد الإسلامي التي تعتبر ذراع إيران في فلسطين، وينزع سلاحهما ويعتقل قاداتهما وينتهيان كحركات مقاومة وسياسية في غزة، ما ينهي مشروع الإسلام السياسي ، ويضع حدا لطموح التوسع والهيمنة التركية في المنطقة.. وإعلام هذا المحور يركز على أن الحرب في غزة هي بين "حماس و إسرائيل"، وقد ذهب ‘السيسي’ في خطابه الأخير حد وصف العدوان على غزة بأنه "إقتتال داخلي بين الأفرقاء".
لكن، وبحكم إنجازات المقاومة الفلسطينية في الميدان، ومستجدات المنافسة الحادة القائمة بين المحورين، يعتقد أن مصر وبأوامر سعودية، بدأت التفكير في تعديل مبادرتها لتكون أكثر جاذبية، من خلال قبول إدخال مساعدات طبية وإنسانية، وفتح المعبر أيام العيد لنقل الجرحى.. وهي محاولة مكشوفة لنزع المبادرة من قطر وإعادتها لمصر.. لكن لا أحد يؤمن بأن مصر ستقبل بحركة ‘حماس’ مسلحة في غزة، وهي التي تعتبرها “إرهابية” وتسعى لإجتثاتها أكثر من “إسرائيل”.
ومن الواضح بالنسبة للمقاومة في غزة بكل فصائلها، أن العزة والكرامة هي في السلاح لا في دولارات الزيت التي لن تجلب للشعب الفلسطيني غير الذل والإهانة والتفريط في الحقوق التاريخية الثابتة والغير قابلة للصرف في سوق المزايدات السياسوية الإنتهازية.
وهنا يحضرني، وأنا أتذكر بعضا من كلمات سماحة السيد، أن تركيزه على الحديث عن غزة بإستفاضة بمناسبة يوم القدس الأخير، كان إشارة ذكية وبليغة للمتآمرين على الشعب الفلسطيني، بأن “غزة ليست وحدها”. وقد جاء هذا الخطاب في ظرفية حساسة تؤشر إلى أن القضية الفلسطينية ذاهبة نحو التصعيد ما دام الهدف هو سحق المقاومة ونزع سلاحها، وبالتالي، كان لزاما، من الناحية الدينية والإخلاقية والقومية والإنسانية بعث نصيحة للكيان الصهيوني مفادها، “خذار من الإنتحار”.
والإنتحار الذي قصده سماحة السيد هو إقدام العدو الصهيوني على حرب برية شاملة في غزة، الأمر الذي لن تسكت عنه المقاومة، وهذا “سؤدي حتما إلى نهاية ‘إسرائيل’ على يد المقاومة” كما أكد سماحته حرفيا.
هذا الموقف الشريف الصادر عن قائد كبير بحجم سماحة السيد الذي كلما ذكر إسمه إلا وإرتعبت فرائص جنرالات وساسة الكيان المجرم، أعطى للمقاومة الفلسطينية دفعا معنويا كبيرا، وغطاءا عسكريا أكبر، ما جعلها تتمسك بسقف حقوقها المغتصبة حتى لو طالت الحرب أمدا طويلا وسالت الدماء أنهارا..
وليقتنع الجميع أن إرادة المقاومة بفضل دعم “المحور” لن تنكسر، ولن يركع المجاهدون إلا لله الواحد الأحد، لأن قيمة الشهادة في سبيل الله لا توازيها ٥٠ مليار دولار أو أكثر من أموال الزيت.. وهذا هو الفرق بين ثقافة المقاومة التي تصنع أمجاد التاريخ، وبين ثقافة الذل والهزيمة والإستسلام التي يروج لها عربان الخليج وأدواتهم في المنطقة، حتى أصبحت القضية الفلسطينية بفضل المال الحرام قضية يتيمة، لا تهم أحدا، ولا يدعمها أحدا سياسيا وعسكريا ومعنويا، والجميع إلا من رحم الله يريد التخلص منها ومن صداعها المزمن بإستئصالها من الوجدان العربي، وهناك من يبعث ببعض المساعدات الإنسانية من أدوية وأغذية رفعا للعتب، وهو متحالف مع الكيان الصهيوني حتى العظم.
السيد ‘رمضان شلح’ في كلمته للشعب الفلسطيني بمناسبة عيد الفطر، أوضح المشهد في كلمتين: “لا للمساومة على دماء الشعب، والمقاومة مستعدة لمواجهة العدوان حتى النصر”.. هذا يعني رفض صريح لمبادرة السعودية التي أمليت على ‘محمود عباس’ في الرياض، ورفض لمبادرة قطر أيضا، بل ولكل مبادرة تهدف إلى نزع سلاح المقاومة.
إلى هنا، يبدو أن كل المبادرات سقطت، وكل المساومات السياسية ارتطمت بالحائط المسدود، وحسنا فعلت القيادة السياسية للمقاومة، حين ربطت قرار الحرب و وقف إطلاق النار بيد المقاتلين في الميدان والشعب المحاصر في غزة، وبالتالي، من يريد أن يفاوض، لن يجد له محاورا في أروقة القصور وصالونات الفنادق..
الآن أمام إسرائيل خياران: القبول بشروط المقاومة والتسليم بالهزيمة المذلة لساساتها وجنرالاتها وجيشها الجبان ومخابراتها الغبية وكل مؤسساتها بل وشعبها المتعطش للدم الفلسطيني الطاهر، وهو خيار يعني الإنتحار، لكن على الطريقة اليابانية، بشق البطن بخنجر حاد من الطرف إلى الطرف. والخيار الثاني يقود إليه حتما رفض الخيار الأول، والذهاب بعيدا في مغامرة عسكرية برية ستخلف مجازر مروعة. هنا لن يظل محور المقاومة متابعا لما يجري في الميدان فحسب، بل سيتدخل ةويفتح الجحيم على “إسرائيل” من كل الجبهات.
وهذا هو “الإنتحار” الذي حذر منه سماحة السيد “إسرائيل”. لكن يبدو أن هذا الكيان المجرم، وأمام صمود وثبات وإنتصارات المقاومة، لا يملك خيارا غير “الإنتحار” والإستمرار في إرتكاب المجازر بلا وازع من أخلاق ولا رادع من قوة، وبالتالي، هذا بالضبط ما قصده سماحة السيد حين قال: “إذا استمر العدو بارتكاب المجازر فهذا سيؤدي الى نهاية اسرائيل على يدي المقاومة”.
نقول هذا، لأن “إسرائيل” تجد نفسها مدعومة اليوم في حربها من قبل الغرب والعرب، وحكومة ‘النتن ياهو’ لا تخفي هذا الأمر، بل وتشعر بسعادة بالغة بهذا الدعم المعنوي والسياسي والمالي. واليوم تحدثت دوائر إسرائيلية وفق ما أوردته صحيفة ‘المنــار’ المقدسية، عن أن حكومة ‘بنيامين نتن ياهو’ كانت لديها كل الموافقات اللازمة قبل شن عدوانها على غزة، وأن هناك جهات حملت اليها الموافقات دون أن تبذل الحكومة الاسرائيلية جهودا تذكر. وأضافت الدوائر، أن قرار خفض اللهب أو رفع مستواه هو قرار جماعي مع جهات داعمة وحليفة، قبل أن يكون بيد اسرائيل، ووصفت الدوائر العدوان على قطاع غزة بأنه نقطة تحول في العلاقة بين اسرائيل والفلسطينيين، وبينها وبين العرب (عرابيش).
هذا المعطى كافي ليجعل “إسرائيل” تقدم على الإنتحار وهي تعتقد أن هناك من سينقدها لأن العالم معها في حربها ضد “الإرهاب”.. أو هكذا تعتقد.