إن خضوع الفقيه للأمر الواقع في زمن ما، وخاصة انتقال الخلافة إلى ملك أساسه القهر والغلبة، أدى إلى انهيار مؤسّسة الفقه، بل إلى "اختفاء السياسي وراء الثقافي في الفكر الإسلامي، (مما) يعكس مقدار التحول في الفكر الفقهي من مرحلة الممانعة إلى مرحلة المواءمة"؛ لذا نحتاج إلى مساءلة حقيقة انهيار مؤسّسة الفقه، ذلك لأنها ضحّت "بالدّين للإبقاء على الملك .
كتبه: محمد أوالطّاهر
٢.٢. بداهات حول النص المؤسِّس
لعلّ البداهة التي طالت كتابات الأصوليين بخصوص النص المؤسِّس "القرآن"، هي كونهم لم يناقشوا "مسألة حجّية الكتاب باعتباره أصلا من أصول التشريع، بل إنّ ما سعوا إليه تمثل في محاولات تأكيد تلك الحجية، فهي بالنسبة إليهم أمر مفروغ منه ومسلّم به".
لنلاحظ هنا كيف "أن الأصوليين (قد) غيّبوا كل العوامل التاريخية المؤثرة بالضّرورة في تشكيل المصحف"، بل إنهم لم يُميّزوا بين ثلاث مستويات: القرآن الذي يُمثل الرسالة الشّفهية، المصحف الذي يمثل النص المكتوب الذي جُمع بعد وفاة النبي، ثمّ الكتاب الذي تدل دلالته في النص القرآني على مجموع الأوامر والنّواهي.
في نفس السّياق، حدّد أركون المبادئ اللاّهوتية المشتركة بين جميع المسلمين والغير القابلة للنقاش بخصوص مسألة الوحي: الوحي القرآني آخر وحي، الوحي المتجلي في القرآن كامل ويلبّي كل حاجيات المسلمين، جمْع القرآن في نسخة مكتوبة تسمى المصحف هي النسخة الكاملة والموثوقة والصحيحة للوحي، الوحي القرآني يُمثل الشّرع الذي أمر الله المؤمنين باتباعه بحذافره.
انطلاقا من هذه البداهات، تمّ تأسيس ما سُمي بعلوم القرآن؛ وقد كان الشافعي أول من صنّف الآيات القرآنية إلى أقسام كبرى ووضع آليات للتّعامل مع النص القرآني، يُمكن إجمالها في: "العام والخاص، المجمل والمفصل، الناسخ والمنسوخ، المطلق والمقيد"؛ هكذا تم حصر التأويلات وتسييج الأفهام للحد من الإختلافات وفرض فهم واحد ووحيد للنّص القرآني.
يتّضح إذن – على حد قول محمد أركون- أن "مفهوم الوحي في السياق القرآني قبل انتشار "المصحف الرسمي المغلق" كان أكثر اتساعا من حيث الآفاق والرؤية الدينية مما آل إليه بعد انغلاق الفكر الإسلامي داخل التفسير التقليدي الموروث عن الطبري ومن نقل عنه حتى يومنا هذا. فقد أصبح الوحي بعدئذ منحصرا في ما ورد في القرآن الكريم وحده، لأن المفسرين والمتكلمين والفقهاء انفصلوا عن القراءة التاريخية للوحي واكتفوا بالقراءة اللاّهوتية الأرثوذكسية بالمعنى السّني والشّيعي والخارجي."
لا تزال إفرازات هذا الوضع سارية المفعول إلى حدود عصرنا؛ نجد مثلا كيف تم تكفير نصر حامد أبو زيد وتطليقه من زوجته، وذلك لمجرد أنه قدّم قراءة مخالفة لمفهوم النص؛ إذ يرى أن "النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد عن العشرين عاما"؛ هذا على الرغم من كونه يؤكّد أن "الإيمان بالمصدر الإلهي للنص أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها."
لقد كان هدف نصر حامد أبو زيد هو الخروج من السّلطة الفقهية التي احتكرت قراءة النص القرآني، وذلك واضح من خلال قوله: "حين ننادي بالتحرّر من سلطة النّصوص تكون دعوة التحرر موجهة "للهيمنة" وللشمولية التي أضيفت على تلك النصوص في سياق ثقافي حضاري بعينه."
من بين هذه الأفكار المهيمنة والرّاسخة التي صارت جزءا من العقيدة، نجد " فكرة أن القرآن الكريم الذي نزل به الوحي الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله سبحانه وتعالى نص قديم أزلي، (...) وكل من يقول إنه "محدث" وليس "قديما" أو إنه "مخلوق" (...) فقد خالف العقيدة واستحق صفة "الكفر". "
لا غرابة إذن أن تكون مسألة النقاش حول ثنائية المحدث والقديم مسألة خلافية قديمة بين المفكرين المسلمين، حيث رأى المعتزلة أن القرآن مخلوق لأنه كلام الله، والكلام فعل وليس صفة، بينما ذهب فريق آخر إلى أن الكلام الإلهي صفة من صفات الذات الإلهية؛ وبالتالي فتحديد طبيعة القرآن مسألة خلافية بين الأولين أنفسهم.
غير أن السّؤال الذي نطرحه في هذا الصدد، هو كيف ساهمت السلطة السياسية (المأمون في فرض فكرة المعتزلة، وبعده الخليفة القادر في رفض وتحريم نظرية المعتزلة) في إخراج النقاش عن نطاقه الفكري ليتم تسييسه؟ أم أن الحديث عن ثنائية المُحدث والقديم حديث خَفيّ عن السياسة والمجتمع؟ أي إن القول في الله واللاهوت الذي غطى كتابات الأولين ما هو في العمق إلا قولا في الإنسان؟ والأجدر بنا اليوم أن نبحث عن هذا الإنسان المتواري خلف مقولة الله.
لعل من بين إفرازات التصور اللاهوتي للنص المؤسِّس، هو ما نشهده اليوم من تطور القراءات الحرفية التي تقوم "بتجميد النص خارج سياقه التاريخي وتَدَرُّجه الداخلي ومقاصد رسالته الكبرى، وذلك من خلال إغفال حقيقة كون الوحي قد نزل في سياق محدد، وأن نزوله - في فترة تقدر بثلاث وعشرين سنة - يُقر بالتوجه العام للتربية الإلهية".
إن النقاش مع أصحاب المذهب الحرفي- الظاهري دائر حول سلطة النصوص التي أضفاها عليها الفكر الديني وليس حول النصوص في حد ذاتها؛ ولعل الآلية الأكثر فعالية في مناقشة أصحاب هذا التوجه هي آلية التقليد ضد التقليد، حيث نقول مثلا مع نصر حامد أبو زيد: "هل كان عمر بن الخطاب غير مدرك لأهمية النصوص التي تضع "المؤلفة قلوبهم" ضمن من يستحقون الزكاة، أو لأهمية النصوص التي تحكم على السارق بقطع اليد؟ هل حين لم يحكم عمر بمنطوق تلك النصوص كان يخالف الإسلام ويطالب بالتحرر من النصوص؟! الإجابة قطعا بالنفي؛ لأن عمر بن الخطاب كان ببساطة يدرك سياق النصوص، وكان لا يتعامل مع أحكامها بوصفها تمثل سلطة مطلقة".
إن الإشكال كامن في هالة التقديس التي طالت، ليس فقط طبيعة النص القرآني، بل كذلك كتب اللغة والفقه والتفسير، الشيء الذي يشي مرة أخرى بأن "تعامل الفقهاء والأصوليين مع النص القرآني (...) له غاية أساسية تتمثل في تبرير الأحكام الفقهية وإضفاء المشروعية عليها وإن بدا عملهم يتمثل في استنباط الأحكام من النص."
يتعلق الأمر إذن بصراع للتأويلات ( عنوان كتاب لبول ريكور) حول معنى النص القرآني، مما يطرح إشكالا هيرمينوطيقيا كبيرا، وهو إمكانية تأويل نص هو في تاريخيته قد اُوِّل تقديسا، فكيف يمكن تقديسه تأويلا؟ بعبارة أخرى: فعل إزالة ما عَلق بالنص القرآني من دنس التأويلات المتطرفة، ألا يزيل هالة القداسة منه؛ علما بأن تأويل القرآن ارتبط بفعل التقديس، مما يقتضي القيام بخطوة جريئة، هي ما سماه أركونLa Démythification ، أي نزع الأسطرة التي علقت بالقرآن تأويلا رغم كونها أصل في القرآن تكوينا !
لا غرابة إذن أن يُدخِل محمد أركون النقاش حول ظاهرة الوحي في نطاق ما أسماه "المستحيل التفكير فيه" بالنسبة للتراث الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي؛ مما يقتضي القيام بدراسة فينومينولوجية لظاهرة الوحي، أي وصف الأشياء كما هي، وذلك من خلال استعراض ما يقوله التراث الإسلامي عن الوحي والقرآن ثم محاولة تفكيك القول وأشكلته من خلال الكشف عن إهماله للبعد التاريخي والأنثروبولوجي، ومن تَمّ توسيع دلالات المفهوم.
لهذا الغرض، استأنس أركون بمناهج اللسانيات والسيميائيات المعاصرة قصد تحليل الخطاب القرآني، بدل المناهج القديمة في اللغة والبلاغة والبيان، حيث رأى أن التحليل اللغوي والسيميائي سابق منهجيا على التحليل والتأويل اللاهوتيين، ذلك لأن "تحليل الخطاب الديني يتبنى تساؤلات الأنثربولوجيا الدينية والثقافية والإجتماعية للوصول إلى التعرف على المفهومات والتصورات وطرق التأصيل للعائد والمعاني التي تنبني عليها جميع الأديان المعروفة في تاريخ المجتمعات الإنسانية".
استنادا لما سبق، يمكن تجاوز النظرة التاريخية للنص القرآني بل حتى النظرة التعارضية (بين آيات الجبر وآيات الإختيار مثلا)، وذلك من خلال اعتبار النص القرآني نصا تُحدَّد دلالاته تاريخيا، حسب إرادة القوة بتعبير نيتشه، أي فكرة التدافع والإستخلاف القرآني؛ أي إن القراءات التي تبدو متعارضة ما هي إلا إمكان من إمكانات التحقق الإنساني، ما يدل على أننا أمام ما سماه بول ريكور بـ"صراع التأويلات"، أي إن حقيقة النص القرآني مرتبطة بصراع ينتهي بفرض معنى من معانيه المتعددة، ولا يفتأ يتجدّد ليأخذ أشكالا أخرى.
لكي نخرج قليلا من نظرية السلطة كما صاغها ميشيل فوكو وندخل في نظرية الوجود كما قدمها مارتن هايدغر، نقول: إن النص القرآني وعاء لتجليات وجودية، ودور المؤول هو اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما يقوله فعلا، وإجلاء السّتار عن الخفي انطلاقا من المُعلن، وذلك من خلال تجاذب روحي بين النص والمتلقي؛ بداهتنا إذن هي أن النص القرآني هو مرجعة وجودية إجبارية بالنسبة للمسلمين؛ إلا أنه مع ذلك نص روحي له غاية تربوية وإنسانية، وليس نصا فقهيا يستند إلى سلطة فوقية.
٣.٢. سوء فهم إشكالية النص والواقع: الفقه وشطط العقل البشري
لعلّ الشّطط الرئيسي الذي طال الخطاب الفقهي عموما، ليس في اجتهاداته البشرية التي كان البعد الثقافي والسياسيّ حاضرا في صياغتها بقوة، بل في إضفاء طابع القدسية والطهرانية على هذه الأخيرة؛ هذا ما أسقط العقل المسلم في مطب النزعة الجوهرية الدّيكارتية التي حاولت الفلسفة المعاصرة الوقوف عليها من خلال الكشف عن التشكّل التاريخي لمقولة العقل .
إن هذا الشّطط في نظرنا ليس راجعا إلى مقولة المقدّس، بقدر ما هو راجع إلى مقولة العقل المرتبطة بالضّبط والرّبط والتقييد في الثقافة العربية الإسلامية، الشيء الذي جعل الفقه أحيانا يحظى بقيمة أعلى من قيمة النص ذاته. يُمكن بهذا المعنى الخروج من التصورين الإيديولوجيين اللذين يَرى أحدهما في العقل المَخرج من سلطة النص، بينما يرى الآخر في النص أولوية تتجاوز إمكانات العقل؛ ولن يتأتّى ذلك إلا من خلال الوقوف على التشكل التاريخي لكل من النص والعقل، والخروج بذلك من التصور الميتافيزيقي لِكلّ منهما.
لا غرابة أن نقرأ في التاريخ الإسلامي عن فقهاء ضَحّوا لا نقول بالعقل من أجل الإيمان، بل بالإيمان من أجل العقل، بالإنساني من أجل السياسي؛ فكيف لفقيه كبير كالأوزاعي مثلا أن يُجيز ويُبرر إعدام السلطةِ للمتكلم والإعتزالي غيلان الدمشقي بعد مناظرته في مسائل عقدية، الشيء الذي أسهم في قمع حرية الفكر في مسائل من المفروض حلها بالنقاش والمناظرة لا التصفية.
لم يكن الإجتهاد بابا مفتوحا لإعمال العقل، لأن الأصل في الفقه هو العقل بمعناه اللغوي (الضبط، الحد، التقييد)، بل كان توسيعا لرحبة الوجود الإنساني والمشترك الكوني من خلال الخروج من تحديدات الثقافة وإكراهات السّياسة؛ هذا ما جعل من الإجتهاد فرضا من فروض الكفاية، قبل أن يتم التحديد الفقهي لحدود الإجتهاد ومن تَمّ إغلاق باب الإجتهاد في سبيل ثقافة القانون والضّبط والمراقبة.
أدى التقابل الحاصل بين النص والواقع في المنظومة الفقهية إلى اختزال اللامتناهي في فهم بشري متناهي، فأصبحت عملية توليد المعاني مقرونة بضبط آليات تسمح بالقبض على الدلالة الحقيقية للنص، والتي من خلالها يتم المصادرة على مطلوب الواقع ومتطلبات الإنسان الحاضر؛ لهذا السبب كثرت الخلافات الفقهية حول دور السياق في تحديد المعنى، ومن له الأولوية في الإعتبار، الشيء الذي أدى إلى إغفال أن المعنى منتجٌ سياقي وأن لكل سياقٍ معنى مُضمر.
لقد استطاع العقل الفقهي الخروج من إشكالية "النصوص محصورة والوقائع غير محصورة"، وذلك من خلال اعتماد القياس لرد اللانهائي للنهائي، فتم بذلك اختصار الإجتهاد في القياس بدل العكس الذي كان سيسمح للنصوص المؤسِّسة بالإنخراط في الكونية توسيعا لرحبة الوجود الإنساني؛ لذا نجد مثلا كيف إن "علم الأصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الإستنباط، وعلم أصول الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر المختلفة التي تختلف من مسألة إلى أخرى."
لعل هذا التصور هو الذي كان وراء إجهاض إمكانات البحث المقاصدي الذي بدأ في أوله كثورة علمية، إلا أنه اتُّهِم في كونه وسيلة لاستبدال الشريعة بالعقل والنص بالواقع، الشيء الذي أدى إلى تحديد أكثر وتقنين أدق لقواعده لكيلا يتم الخروج من التصور التوافقي بين النص الواقع؛ حيث لم يَعُد الهدف هو جلب المصلحة ودرء المفسدة، بل الاستقامة في التطبيق من خلال تعطيل عملية إعادة تأويل الأدلة الجزئية أو الأحكام الشرعية، وعدم مخالفة النص والخروج من المتعارف عليه في هذا الباب.
يتضح ههنا التصور القبلي لدلالات النص والشّرع، ولا غرابة أن نجد طه عبد الرحمن مثلا يسقط في مطب هذا التصور اللاهوتي، وذلك من خلال تحديده لأوصاف العقل المسدَّد الذي يدعو إلى استلهامه وتطبيقه بدل العقل المجرَّد، أي الفعل الذي ينبغي به صاحبه جلب منفعة أو دفع مضرة قصد إقامة الأعمال التي فرضها الشرع، وقد حدد هذه الأوصاف في ثلاث: الموافقة للشرع، اجتلاب المصلحة، الدخول في الإشتغال؛ ويبقى السؤال مطروحا: أوليس جلب المصلحة ودرء المفسدة هو عين شرع الله ؟
حتى عملية تحديد المقاصد لم تسلم من ضبط ومراقبة، على الرغم من بُعدها الكوني والإنساني؛ فنجد مثلا كيف أن الطاهر بن عاشور الذي يُعتبر من أعلام علم المقاصد، لم يتحرر من منظومة اللاهوت في تقابلها بين النص والواقع. يقول:
"لأن قوة الجزم بِكون الشيء مقصدا شرعيا تتفاوت بمقدار ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها... وإن أعظم ما يهم المُتفقهين (هو) إيجادُ ثلة من المقاصد القطعية ليجعلوها أصلا يصار إليه في الفقه والجدل."
على الرغم من التجديد الذي لحق منظومة الفقه، إلا أنه لا يزال يسبح في التصور اللاهوتي للدين، فعلى الرغم مثلا من "فقه المآلات" الذي يجمع بين ثلاثة أنواع من الفقه التي لا غنى لأي فقيه عنها وهي: فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، إلا أن هدفه المُحدّد قبليا هو الحرص على حصول التلازم الطردي بين أحكام الشريعة ومقاصدها دون الخروج عن "الشرع": هذه العبارة التي ما تزال تحتاج في نظرنا إلى بحث جنيالوجي نيتشوي يبحث عن القوى الكامنة وراء المظهر ويقف عند المعاني المتشظية والأصول التاريخية المتعددة للمعنى.
إن المسافة المتوهمة بين النص والواقع دليل عن فهم معين لدلالة النص، فالنصيون مثلا يعتبرون تطبيق النص هو تطبيق حرفية النص (مثال قطع يد السارق)، إلا أن من دلالات النص التي يتم إغفالها هي تطبيق مقصد النص، أي أن النص ليس هو الظاهر بل بالعكس هو المُؤوّل، وهذا ما فعله عمر ابن الخطاب في تعليقه لحكم السرقة، لأنه طبّق النص أي مقصود النص وليس ظاهر النص.
إن إعادة قراءة سيرة نبي الإسلام، قد يسعفنا في تبرير هذا الطّرح، خاصة إذا قُمنا بدراسة للنّهي النبوي الذي بمقتضاه أوصى النبي صحابته أن يُنزلوا الناس على حكمهم، لأنهم لا يدرون ما حكم الله وهل يُصيبون فيهم حكم الله أم لا؛ لو افترضنا أن الأمة الإسلامية تَبنّت منذ بداية عهدها هذا التصور النبوي لعلاقة العقل بالنقل والنص بالواقع، لكان مسار تاريخها إمكانا آخر خير الإمكان الذي ما زلنا نعيش إفرازاته!.
لا نُنكِر أنه قد تم الآخذ بهذا التصور النبوي في لحظات تاريخية ومن لدن بعض الفقهاء أنفسهم، مما يدل على انعكاس الواقع في سياق النص للقبض على مقصده؛ وخير مثال نطرحه في هذا المقام، مثال قيمة الجسد في الثقافة الأمازيغية: فلأن الجسد يتمتع في الثقافة الأمازيغية بمكانة عالية، ولا يجب بأي حال من الأحوال المساس بكرامته، تمت ترجمة هذا الوضع الثقافي من خلال التأويلات الدينية، إذ نرى مثلا أن الفقهاء السوسيين - فيما يخص مسألة السرقة - "يوافقون في اجتهادهم (...) مذهب أبي حنيفة الذي يجيز تغريم السارق" بدل قطع يده، مما يدل على التكوين الثقافي والتاريخي لهذه المسألة.
لعل ما بَقي حيا في تراثنا ويحتاج منا إلى إحياء واستلهام، هو ما يُسمى بـ "لا مفكر" و "المسكوت عنه" في تراثنا، والذي ما يزال يحبل بإمكانات جديدة تفتح آفاقا رحبة للإسلام، ويُساهم في تجاوز التصورات التاريخانية والوضعانية التي ترى أن الإسلام قد استنفذ إمكانياته خلال لحظته التاريخية الأولى، بيد إن التجليات التاريخية للإسلام ما هي إلا إمكان من إمكاناته التي ما تزال مفتوحة على التاريخ والزمن الوجود الإنساني.
فما هي الإمكانات الجديدة التي يمكن أن يَحبل بها الإسلام، والتي قد تُسعفه في الإنخراط في مشروع الكونية الواسع؟
تذكير : المقال لا يعبر عن رأي الوكالة