QR codeQR code

فقه المقاصد.. مقدّمة نحو بناء حضاريّ مُسلم

29 Jun 2010 ساعة 16:51

سيظلّ من شأن العقل الإسلامي الذي أسَّسَهُ القرآن الكريم، أن يعودَ غائيّاً وتحليليّاً واستقرائيّاً ومقاصديّاً، ويدرك أنَّه لا مكان في مسار الحضارة الإسلاميّة للمُصَادَفة والعشوائيّة


وكالة انباء التقريب :
سيظلّ من شأن العقل الإسلامي الذي أسَّسَهُ القرآن الكريم، أن يعودَ غائيّاً وتحليليّاً واستقرائيّاً ومقاصديّاً، ويدرك أنَّه لا مكان في مسار الحضارة الإسلاميّة للمُصَادَفة والعشوائيّة، ولا مجال لانتفاء الأسباب، وربّما كانَ أدنى من هذا مقترباً إلى تمثّل الحقيقة، وأوفى بأبعادها منهجاً التأكيد على أن المُعجِزة الإسلاميّة مُمثَّلةً بالقرآن الكريم تميّزت عن سائر المُعجِزات السماوية بأنَّها مُعجِزة عقليّة، تُخاطب عقل المُسلم، وتقوده إلى الإيمان، والاجتهاد والتفكير.
كما أنَّ أبرز معالم هذا العقل المقاصديّ هو امتلاك القدرة على التفريق بين المُقدّس والمُطْلَق من زاوية، والبَشَريّ والنسبيّ من زاوية أُخرى، ومن هنا، فإنَّ الاجتهاد لفهم الإسلام ليس سوى محاولة عقليّة وفكريّة لاستلهام النصّ الشرعيّ، وتنزيله على واقع المُسلمين، وهو ما يستلزم الإشارة إلى أهميّة التقويم، والمُراجعة، والاختبار، وهذا يؤكّد قُدسيّة النصوص في الكتاب والسُّنّة لأنَّها تبقى المرجعيّة والمعيار الضابط لكلِّ اجتهاد.
أمَّا شاهدنا هذه المرّة فهو الإمام الشاطبيّ، الذي أصَّل لنظريّة المقاصد في الشريعة الإسلاميّة في كتابه الشهير " الموافقات "، وانتهى من استقراء الشريعة الإسلاميّة إلى تحديد المقاصد لحماية الكُلِّيَّات الخمس، والضرورات الخمس، والتي هيَ: الدِّين، والعقل، والعِرْض، والنّفس، والمال، مع ملاحظة أنَّ هذه الرؤية المتميّزة لا تعدو بحدِّ ذاتها أن تكونَ اجتهاداً، ويبقى البابُ مفتوحاً للمزيد من الاجتهاد والاكتشاف لآفاق أُخرى في فقه المقاصد مع بدايات الألفيّة الثالثة، وذلك في ضوء التطورات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة التي يحياها المُسلم المُعاصر، إلى جانب ضمور أو غياب مجموعة من القيم والمبادئ التي تسعى الشريعة الإسلاميّة إلى تحقيقها، حفظاً لمصالح المُسلمين، في محاولة لإعادة قراءة هذه المقاصد في ظل المفاهيم الجديدة التي باتت تُشكّل نقاط الارتكاز الحضاريّ والثقافيّ، مثل قضايا حقوق الإنسان، والعدالة، والتعدُّديّة، والمُشاركة في صنع القرار، والحريّة، والبيئة.
من أجل ذلك، يجب على العلماء والمُفكّرين والمُثقّفين في المجتمع الإسلاميّ إعادة طرح موضوع الاجتهاد المقاصديّ من جديد، واستدعائه إلى ساحة اهتمام النَّاس البُسطاء، وفتح ملفّه الذي أغلقه المُسلمون عندما قرّروا تكريس ظاهرة العقول المُستقيلة في بنية الفكر والواقع الذي يسعى المُسلم إلى الحياة ضمن إطاره، وفي ظلّ شريعته التي تمَّ تغييبها وراء مسوّغات التمدّن، والعولمة، واللحاق بركب حضارة ليست له، وبالتالي يظلُّ المُسلم بحاجةٍ إلى ثقافةٍ مقاصديّة تمنح عقله القدرة على التخطيط، وتحديد الأهداف، في ضوء الإمكانات والظروف المُحيطة، لأنَّ العقليّة المقاصديّة التي ينبغي للمُسلم الحقيقيّ أنْ يجعلها اللافتة الأولى في مسيرته سوف تُخلّص مجتمعنا من أمراض الارتجال، والاحتكار المعرفيّ، والاستلاب الثقافيّ، والانبهار بالآخر، مما يخلط الأماني بالإمكانات، واليأس بالمُبادَرَة، والتضحية بالمُجازَفَة، والمُسلم يدفع ثمناً باهظاً نتيجةً لكلّ هذه الحروب المُشتَعِلَة في داخله، وفي مُجتمعه.
ويجوزُ لنا، عند هذه النقطة من السياق، أن نقول أن الثقافة المقاصديّة تُحقق نقلة منهجيّة في المجال التربويّ، وتربية العقل على وجه الخُصوص، حيث يُمكن من خلال تعميم هذه الثقافة الانتقال من مرحلة التلقين والتلقّي والتوارث، إلى عمليّة التفكير والفاعليّة والاستدلال والاستقراء والاستنتاج، وتكوين العقل الفاعل والناقد، والشخصيّة المُستقلّة في إطار الشريعة الإسلاميّة التي تملك المفاتيح والمعايير المنهجيّة، وتملك كذلك شروط القبول والرفض، وأدوات البحث والنَّظَر، وبهذا يصبح العطاء التربويّ من أبرز سمات ثقافة المقاصد، وينتقل المُسلم من مقاعد المُتفرّجين في مُجتمعه إلى ميدان العمل والإنتاج، ويمنح عقله دليل التفكير، ويرفد طاقاته بآليات الاجتهاد والمُحاكَمَة والنقد العلميّ.
وعلى ما استجدَّ من أسباب الحديث عن الاجتهاد المقاصديّ ودوره في بناء العقل، وتحقيق غاية الشريعة الإسلاميّة، وتمّكين الإيمان من نفوس المُسلمين، فإنَّه لا بُدَّ من الإشارة إلى المُنْزَلَقات التي قد تُصاحب التوسّع بالرؤية والاجتهاد دون ضوابط منهجيّة، وثوابت شرعيّة، فكلّما فتح المُسلمون باباً باسم الاجتهاد والمَصْلَحة، نجد البعض يُغلِقُونَ ذات الباب باسم ذات المصلحة ومسوّغاتها، بحيث يغدو الاجتهاد من خارج النُّصوص، ويبرز التفسير المُتعسّف نتيجة الجهل، وإلغاء الآخر.
غير أنَّ الحقيقة تقتضي القول أنَّ إساءة استخدام الحقّ لا ينبغي أن تقودنا أبداً إلى مُصادَرة أصل الحقّ، ذلك أنَّ عدم فهم النُّصوص، وربمّا الرغبة بعدم فهمها، إلى جانب عدم تقدير الإمكانات، ووضوح الأهداف بشكل دقيق، أدى إلى حالة من الفوضى الذهنيّة، والتناقض في الرؤى، وبعثَرَة العقول، والجهود، والرصيد الثقافيّ.
وإنَّ من عجائب المُجتمع المُسلم المُعاصر استمرار الحراثة في البحر، والسباحة بدون شواطئ، وتكرار الأخطاء بشكل يوميّ، ونحن نظنُّ أنَّنا نُحسِنُ صُنْعاً، فالمُسلِمون ينقسمون بين مُسلمين قابعين في القرن الهجريّ الأول، وفئة ثانية يتخاذلونَ بأدلّة شرعيّة تقودها أوهامهم، أمّا الذين ينبغي أن يقودوا مسيرة التجديد والبناء، فما يزال الإسلام بانتظارهم في رحلة الألف عام التي بدأت منذ استشهاد أستاذ الاجتهاد الأول عمر بن الخطّاب ولم تتوقّف حتى الآن.
وتأسيساً على هذه الفلسفة المهزومة، والتديّن المنقوص، والثقافة المغشوشة، تنتشر في مُجتمعنا المُسلم شعارات التخلّف بصورة مروعة، مع أنَّ كل الشواهد القُرآنيّة والنبويّة تؤكّد أن التدافع الحضاريّ، والفاعليّة، هي رصيد المُسلمين الوحيد من أجل حجز مكان تحت شمس الحقيقة التي يصرّ البعض على استبعادها دائماً.
ولئنْ كنَّا في ثراءٍ بالغٍ في ظلّ وجود كتابات موسّعة لعُلماء المُسلمين عبر التاريخ حول الاجتهاد المقاصديّ مثل: الإمام أبي حامد الغزاليّ في كتابيه "شفاء الغليل" و"إحياء علوم الدِّين"، والإمام العزّ بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، والإمام الشاطبيّ في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة"، فإنَّ هذا لا يمنعنا من القول بأنَّ ثقافة المقاصد في الشَّريعة الإسلاميّة هي القدرة والإرادة على الربط بين الاستطاعة والحكم الشرعيّ المُناسب للحياة في هذه المرحلة، إلى جانب الهدف الممكن تحقيقه في ضوء هذه الاستطاعة، ويضيف عمر عبيد حسنة في مقدمّة كتاب "الاجتهاد المقاصديّ": بأنَّه حتى لو كان الهدف جزئيّاً فلا بأس شريطة أن يكون بعضاً من كلّ، أي جزءاً من الهدف الكلّي، والرؤيّة الشاملة لهذه الحياة، وبذلك يتحقّق الفقه المطلوب لتنزيل الأحكام الشرعيّة على الواقع المُسلم.
نشر الثقافة المقاصديّة بين المُسلمين مسألة في غاية الأهميّة، أملاً في إعادة تشكيل العقل المُسلم، وتفعيل حراكه الاجتماعيّ والثقافيّ، وتأصيل التفكير الاستراتيجيّ، مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ الاجتهاد المقاصديّ لا يقتصر على الاجتهاد الفقهيّ، لأنَّ الأصل أن يساهم المُسلم في تحديد منطلقاته في شتى جوانب الحياة، ويضع البرامج، ويبتكر الوسائل، ويحدّد المسؤوليّات، لأنَّ بناء العقل القائم على ثقافة المقاصد في الشريعة الإسلاميّة ينعكس عطاؤه على جميع مجالات الحياة للمُسلم المعاصر، فهل يقوم أهل العلم والثقافة بأدوارهم أم ينسحبون من جديد. 

محمّد حليقاوي : كاتب أردنيّ


رقم: 19792

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/19792/فقه-المقاصد-مقد-مة-نحو-بناء-حضاري-م-سلم

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com