إن مفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر، من المفاهيم الجديدة حديثة العهد بالتداول في الأدبيات الإسلامية، ولعلّ مما يدلّ على جدة هذا المفهوم وحداثته
إشاعة ثقافة الحـوار وتعزيز التسامح – ٢ -
4 Jul 2010 ساعة 14:48
إن مفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر، من المفاهيم الجديدة حديثة العهد بالتداول في الأدبيات الإسلامية، ولعلّ مما يدلّ على جدة هذا المفهوم وحداثته
إشاعة ثقافة الحـوار وتعزيز التسامح – ٢ -
مفهوم الحوار ودلالاته :
إن مفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر، من المفاهيم الجديدة حديثة العهد بالتداول في الأدبيات الإسلامية، ولعلّ مما يدلّ على جدة هذا المفهوم وحداثته، أن جميع المواثيق والعهود الدولية التي صدرت في الستين سنة الأخيرة، بعد إنشاء الأمم المتحدة، تخلو من الإشارة إلى لفظ (الحوار)، بينما تعتمد هذه المواثيق والعهود معانيَ إنسانيةً أخرى، مثل التسامح، والتعاون، والتعايش، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي، والدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، والرفع من مستوى الحياة في جوٍّ من الحرية أفسح، تعزيزاً للعمل الجماعي المشترك لما فيه الخيرُ للإنسانية.
إذن، ليس الحوار من ألفاظ القانون الدولي، إذ لا يُوجد له ذكرٌ أصلاً في ميثاق الأمم المتحدة، ولا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولا في إعلان مبادئ التعاون الثقافي والدولي. لكن الحوار، كوسيلة للتفاهم والمحاجّة، له أصل في الفكر الإسلامي، فقد وردت كلمة "يحاور" في سورة الكهف. كما تحاور الرسولr مع مشركي العرب ونصارى نجران ويهود المدينة.
وعلى هذا الأساس، فإن الحوار بهذا المعنى، هو مفهومٌ سياسيٌّ، إيديولوجيٌّ، ثقافيٌّ، أخلاقي، حضاريٌّ، وليس مفهوماً قانونياً. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحوار أصبح اليوم ضرورة من ضرورات العصر، وهو أشدُّ ضرورة وأكثر ما يكون إلحاحاً، إذا تعلق الأمر بالحوار بين المسلمين.
فالحوار بهذا المعنى العميق الدقيق الشامل، وحسب المدلول اللغوي، هو المراجعة في الكلام، وهو التجاوب، بما يقتضي ذلك من رحابة الصدر، وسماحة النفس، ورجاحة العقل، وبما يتطلبه من ثقة ويقين وثبات، وبما يرمز إليه من القدرة على التكيف، والتجاوب، والتفاعل، والتعامل المتحضر الراقي مع الأفكار والآراء جميعاً.
ولهذا كلّه، يتأكد لدينا، أن الحوار أصلٌ من الأصول الثابتة للحضارة الإسلامية، ينبع من رسالة الإسلام وهديه، ومن طبيعة ثقافته وجوهر حضارته.
إن اقتران الحوار بالعقل، يؤكد على معنى سام في سياق تحديد مدلول اللفظ. ذلك أن الحوار العاقل، هو الذي يقوم على أساس راسخ، ويعتمد وسيلةً سلمية، ويهدف إلى غاية نبيلة.
وارتباط الحوار بمعنى الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، يثبت في الضمير الإنساني فضيلةَ الاعتراف بالخطأ، ويركّز على قيمة عظمى من قيم الحياة الإنسانية، وهي القبول بمبدأ المراجعة، بالمفهوم الحضاري الواسع الذي يتجاوز الرجوعَ عن الخطأ، إلى مراجعة الموقف برمته، إذا اقتضت لوازم الحقيقة وشروطُها هذه المراجعة، واستدعى الأمرُ إعادةَ النظر في المسألة المطروحة للحوار على نحو من الأنحاء، وصولاً إلى جلاء الحق.
ولا يكتمل تحديد مفهوم الحوار، إلا بمعرفة شروطه، وهي خمسة :
١. وجود طرفين للحوار.
٢. وجود موضوع محدَّد للتحاور فيه.
٣. وجود هدف للحوار، وهو إظهار الحقيقة، أو تطابق أكبر قدر ممكن من وجهات النظر.
٤. البعد عن التعصب والخصومة، وفرض الرأي.
٥. الاعتماد على العلم والعقل .
أبعاد الحوار ومراميه :
إنَّ الهدف من الحوار الذي يؤدي إلى التقارب والتقريب، هو الذي يرسم أبعاده. وبقدر ما تتنوّع هذه الأهداف وتتعدّد، تمتدُّ أبعاد الحوار وتَتَرامَى. ولما كان الحوار أداةً للتفاهم ووسيلةً للتقارب وأسلوباً لمعالجة المشكلات ولإزالة أسباب الخلاف ودواعي الاختلاف، فإن الهدف منه، هدفٌ إنسانيٌّ، نبيلٌ كلَّ النبل، وإلاَّ لما كان ثمة داعٍ إلى الحوار أصلاً.
ولذلك فإن أبعاد الحوار لا يمكن أن تُحدَّ، مادام الهدف هو الوصول إلى النتائج الإيجابية وتحقيق المآرب الإنسانية ونيل المقاصد الشريفة، وإزالة أسباب الخلاف ودواعي الشحناء والبغضاء.
وفي حالة (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، فإنه يتعيّن علينا أن نحصر أبعاد الحوار فيما يلي :
- البُعد الفقهي والمذهبي في إطار الدين الواحد الجامع لأطراف الأمة، على صعيد التقريب بين المذاهب الإسلامية، من أجل إزالة أسباب الاختلاف الفقهي الذي يؤدي إلى الاختلاف في معالجة القضايا والمشكلات الحياتية التي تعترض المجتمعات الإسلامية الحديثة، كما يؤدي إلى التباعد بين المسلمين وإلى التعصب المذهبي المذموم.
- البُعد السياسي والاقتصادي، في إطار التضامن الإسلامي والعمل الإسلامي المشترك، وصولاً إلى تعزيز التعاون القائم على الاحترام المتبادل، والثقة المتبادلة، والمراعاة المتبادلة لمصالح كل الأطراف.
- البعد الاجتماعي والثقافي، في إطار الرؤية الإسلامية إلى تقوية النسيج الاجتماعي وتعميق الانتماء الثقافي ووضع قواعد ثابتة لما يمكن أن نسميه (بالاعتماد المتبادل) ـ حسب الاصطلاح المعتمد في العلاقات الدولية ـ اجتماعياً وثقافياً.
إن هذه الأبعاد الثلاثة لـ (لحوار الإسلامي-الإسلامي)، هي جماعُ المدلول الحضاري للحوار في دائرة الأمة الإسلامية الموحدة، ذات الرسالة الحضارية الإسلامية الواحدة. وهي أبعادٌ تصبُّ في اتجاه واحد، هو تقوية الكيان الإسلامي الكبير وترسيخ أركانه.
وحدة الأمة الإسلامية وعناصر قوتها :
إن الحوار بهذا المفهوم العميق، وبهذه الأبعاد المترامية، هو الوسيلة الفعالة التي يمكن بها للمسلمين أن يُغيّروا ما بأنفسهم، وأن يتجاوزوا المرحلة الصعبة التي يجتازونها، وأن يتغلّبوا على المشكلات التي تعترض سبلهم، وأن يحموا مصالحهم ويدافعوا عن حقوقهم.
إن الأمة الإسلامية حقيقةٌ من حقائق الإيمان الذي يغمر قلوب المسلمين كافة. فالأمة الإسلامية حقيقةٌ تاريخية، وحقيقةٌ واقعية، وحقيقةٌ مستقبلية، لأن هذ هي مشيئة اللَّه تعالى؛ فاللَّه سبحانه هو الذي جعل المسلمين أمة، وجعل من الأمة الإسلامية المعتصمة بحبل الله خير أمة أخرجت للناس في إظهار حقيقة الدين وإقامة العدل ونشر الفضائل.
لقد ربط اللَّه بين المسلمين برباط لا ينفصم، وهو رباط الأخوة الإيمانية، قال تعالى : ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾، ومعنى هذا أنه لا يتحقق الإيمان بغير الأخوة، ولا معنى للأخوّة إذا لم يشعر الأخ بآلام أخيه وهمومه، فالمسلم في أمته عضوٌ في جسد حي، يأخذ منه ويُعطيه، ويحيا به، ويصح بصحته، ويسلم بسلمه.
يقول تعالى : ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس﴾. والوسط هو الخيار والأجود، كما يقول ابن كثير، فقد كان رسول اللَّه r وسطاً في أهله، أي أشرفهم. ولذلك فإن الأمة الإسلامية المعتصمة بحبل الله والعاملة بهدي الكتاب والسنة، شاهدة على الأمم، يقول تعالى : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾.
وبالتأمل في قوله تعالى : ﴿إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾، يلفت النظر أن فعل (أصلح)، يفيد الإصلاح والصلح والصلاح؛ فأصلح الشيء أزال فساده، وأصلح ما بين شخصين، أزال ما بينهما من عداوة وشقاق، أي أن الآية تدعو إلى إصلاح الفساد الذي دبَّ وسرى بين الفئتين، وهو العداوة والشقاق، وتدعو كذلك إلى إحلال الصلح محل الاقتتال، وبذلك يصلح أمر المسلمين صلاحاً كاملاً. وهذا يكون من شأنه إشاعة ثقافة الحوار بين المسلمين، وإزالة الشوائب التي تفسد الود بينهم وتتسبب في إثارة النعرات وربما العداوات التي تفضي إلى خراب البلاد وضلال العباد.
إن (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، ينبغي أن يكون في مصلحة الأمة الإسلامية، ومن أجل تمتين وحدتها، وتعزيز عناصر قوتها، وإلاَّ فَقَدَ الغاية منه، وانحرف عن القصد المرسوم له، وصار ضرباً من إضاعة الوقت وهدر الجهد.
ولذلك فإن الحوار بين المسلمين يجب أن ينطلق ابتداءً، من الأسس التي تقوم عليها وحدة الأمة الإسلامية، وهي الإيمان باللَّه وبرسوله محمد بن عبد اللَّه عليه الصلاة والسلام، وبكتابه القرآن الكريم، وبصحيح حديث رسول اللَّه r، وبالبعث والحساب، والإيمان بوحدة الأمة الإسلامية استناداً إلى وحدة الأصول العقائدية القائمة على القرآن والسنة الصحيحة، والإيمان بوجوب العمل من أجل رفع كلمة الإسلام بإعلاء شأن دور الدين في المجتمع الإسلامي، وبالحفاظ على كرامة الأمة وشرفها في كل الأحوال.
فإذا قام الحوار على هذه الأسس، توافرت له الشروط الموضوعية التي تجعل منه حواراً جادّاً، نافعاً، ومؤثراً، وهادفاً إلى كل ما فيه الخيرُ للأمة الإسلامية.
إن هناك حاجة ماسّة إلى توسيع نطاق الجهود المبذولة لتوسيع دوائر الحوار الإسلامي-الإسلامي. ونحن نرى أن (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، هو اجتهادٌ من أجل التقريب بين المذاهب الإسلامية والأفكار الثقافية والتوجّهات السياسية في الوقت نفسه.
والتقريب بين المذاهب الفقهية الإسلامية في رأينا، يجب أن يهدف إلى إزالة الشكوك وسوء الظن بين طوائف المسلمين، وأن يعمل على تصحيح المقولات الخاطئة الشائعة عن المذاهب الإسلامية المختلفة، التي عليها قام الخلاف وبها تفرقت الأمة، وأن يُؤَسِّسَ لقيام اجتهاد جماعي يعالج مستجدات الحياة ونوازل العصر من منظور إسلامي موحد يحقق التآخي والتعاون بين علماء الأمة ومجتهديها).
تحديات العصر وأساليب مواجهتها :
يحفل العصر بتحديات عاتية لا سبيل إلى مواجهتها والتغلّب عليها، إلا بوحدة الأمة الإسلامية من خلال حشد طاقاتها وتعبئة إمكاناتها ولمّ شملها ونفخ روح الإيمان والالتزام والتضحية والإقدام فيها. و(الحوار الإسلامي-الإسلامي) أحدُ الأسلحة التي يمكن بها مواجهة تحديات هذا العصر والعصور المقبلة؛ لأن الحوار بين المسلمين يعمّق الثقة فيما بينهم، ويشيع الصفاء والانسجام في صفوفهم.
إن مواجهة التحديات تتطلب قوة الفكر وقوة الإرادة وقوة الوسيلة. وقوةُ المسلمين في وحدتهم وتضامنهم؛ فكلما قويت عناصر وحدة الأمة الإسلامية، وترابطت حلقات التعاون فيما بين شعوبها، أمكن الوصول إلى المستوى المرغوب فيه من التماسك والترابط والتضامن. فـ (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، هو الأداة الأنسب والوسيلة الأقوى لامتلاك شروط التدافع الحضاري للدفاع عن المصالح العليا للأمة الإسلامية وصون حقوقها.
إن الأمة الإسلامية تواجه اليوم التحديات في كل مجال، ومن كل جهة، وعلى جميع المستويات. ويمكن أن نعدَّ من هذه التحديات ستةً :
- تحديات سياسية.
- تحديات ثقافية.
- تحديات علمية وتقانية.
- تحديات اقتصادية.
- تحديات حضارية.
- تحديات فقهية.
وتشكّل هذه التحديات في مجموعها، امتحاناً صعباً أمام العالم الإسلامي، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بالعمل الجماعي والتعاون المشترك في إطار التضامن الإسلامي النابع من وحدة الأمة الإسلامية والتفافها حول عقيدتها وأهدافها ومصالحها وحقوقها كاملة.
ففي الجانب السياسي، يفرض العصر الراهن على الأمم والشعوب، أعباء قاسية لترتيب الأوضاع السياسية وأحكامها، واعتماد الأساليب الحكيمة والعادلة في إدارة الشأن العام. ويشكل تفرّد قوة عظمى واحدة بالهيمنة على سائر الدول التي لا تتوفر على شروط المنافسة، أو لا تملك الوسائل الكافية للدفاع عن حقوقها ومصالحها، تبعات ثقيلة وضغوطاً مرهقة على الأمم والشعوب في العالم، وفي مقدمتها شعوب العالم الإسلامي. ولقد بلغت هيمنة هذه القوة العاتية في هذه المرحلة من التاريخ، المستوى الذي باتت معه حقوق الشعوب ومصالح الحكومات مهددةً في الصميم، على الرغم من أن أحكام القانون الدولي تَتَعَارَضُ، تعارضاً تامّاً، مع السياسات الجائرة التي تمارسها هذه القوة في حق الإنسانية.
وتتمثل التحديات الثقافية التي تواجه الأمة الإسلامية أساساً، في الموجات الصاخبة والمتتابعة من الثقافة الهادمة لكل القيم النبيلة والمبادئ السامية، والتي تهدّد ذاتية الشعوب وخصوصيتها الحضارية وهويتها الثقافية تهديداً مباشراً. وتسعى القوى المهيمنة على مقاليد الأمور على الصعيد الدولي، سعياً حثيثاً إلى فرض هذه الثقافة وفتح المجال أمامها لاكتساح ثقافات الشعوب والأمم جميعاً، ويقع التركيز في هذه الحرب الضروس، على ثقافة الأمة الإسلامية.
وتفرض التحديات العلمية والتقانية على الأمة الإسلامية أن تَتَسَابَق في حلبة المنافسة غير المتكافئة، وأن تُوالي جهودها لتأخذ نصيبها من العلم والتقانة، للنهوض بمجتمعاتها إلى المستوى المطلوب من التقدم العلمي والتقاني. وهي معركةٌ ضاريةٌ تستنزف طاقات الأمة ومواردها، ولكن مع ذلك، لا تملك الأمة الإسلامية إلا أن تخوض معركة العلم والتقانة بكل ما يتوافر لها من إمكانات، على أن تراعي أن يكون العلم في خدمة الإنسان، ومن أجل تقدم المجتمع، وفي سبيل بناء الحضارة الإسلامية الجديدة.
وتضغط التحديات الاقتصادية على الأمة الإسلامية بشدة بالغة، وتدفع بها إلى تبنّي اختيارات اقتصادية لا تناسب البيئة الإسلامية في الغالب، ولم تكتمل الشروط الموضوعية في العديد من الأقطار الإسلامية للعمل بها. بل تفرض هذه التحدّيات عليها الرضوخ لهيمنة المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد الدولي وقبول شروطها المجحفة، والوقوع فريسة لمضاربات تجار العملات الدوليين الذين يسعون إلى الربح السريع على حساب ثبات اقتصاد الدول النامية واستقرار أسعار عملاتها.
وتتمثل التحديات الحضارية، في غلبة الحضارة الغربية المادية وهيمنتها على سائر الحضارات المعاصرة، وتراجع المدّ الحضاري الإسلامي، وغياب التجديد في العناصر المكونة للحضارة الإسلامية فكرياً ومادياً، واستسهال التقليد، والأخذ بالنماذج الجاهزة دون تمييز بين الصالح والطالح، أو انتقاء الجوانب المفيدة واستبعاد الجوانب الضارة والمدمرة للإنسان وللحضارة.
أما التحديات الفقهية ـ إن جاز أن نستخدم هذا الاصطلاح ـ فهي تتمثل في إثارة الخلاف بين مذاهب المسلمين وطوائفهم، كما هو الحال بين السنة والشيعة على النحو الذي نعيشه اليوم، وعدم مواكبة الاجتهاد الفقهي لمتغيرات العصر بشكل سريع ومؤثر.
إن هذه القضايا المطروحة على الأمة الإسلامية والتحديات التي تواجهها، تتطلب تنسيق الجهود والخطط والوسائل لمعالجتها وللانتهاء إلى مواقف إزاءها تخدم المصالح العليا للعالم الإسلامي.
وليس مثل (الحوار الإسلامي-الإسلامي) وسيلة لبلوغ هذا المستوى الراقي من التعاون والتنسيق.
أمام هذه الحقائق عن عصرنا التي سّلطنا الضوء عليها ولخصنا معطياتها باختصار وتركيز، يتوجَّب علينا أن نتساءل عن الوسائل التي علينا أن نلجأ إليها لإقامة الحوار الإسلامي-الإسلامي على أسس صحيحة.
إنه من المفيد جداً، أن نذكر هنا، أن (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، لا يتطلب قنوات ومنابر ومحافل جديدة، إذ لا يتعلق الأمر في هذه الحالة، بتنظيم جلسات أو ندوات أو موائد مستديرة للحوار بين المسلمين، تُضرب لها مواعيد محددة. فليس الأمر كذلك ألبتَّة. وإنما القصد الذي نرمي إليه، هو توظيف القنوات والمنابر القائمة توظيفاً سليماً، مع توفير الدعم المناسب لها، وتمكينها من وسائل العمل الملائمة، للدخول في حوار بين المسلمين، على عدة مستويات، لتدارس القضايا ولبحث المشكلات التي تستأثر باهتمام الرأي العام الإسلامي، ومنها مشكلة الخلاف المذهبي الذي يمزق الأمة الإسلامية.
إن (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، لا ينقصه الإطار المناسب ولا يعوزه الجهاز الملائم، ففي إطار العمل الإسلامي المشترك، والعمل العربي المشترك، على صعيدَيْ منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية، وما يتفرع عنهما من منظمات وهيئات، ما يُتيح الفرص المناسبة لـ (الحوار الإسلامي-الإسلامي) على جميع الأصعدة.
ونؤكد في هذا المقام، على ضرورة أن يتجه العمل الإسلامي والعربي المشترك في مؤسساته المتخصصة، إلى التوسيع من دوائر التقريب بين المسلمين في المجالات كافة، في القضايا المتصلة بأصول الدين، والقضايا الفقهية والمذهبية والثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ونرى أن (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، هو القناة التي تؤدي بنا إلى هذا الضرب من التقريب الذي من شأنه أن يعزز التضامن والترابط بين المسلمين ويحفظ للأمة الإسلامية حقوقها ومصالحها، ويصدّ عنها أطماع الطامعين وكيد الكائدين.
وعلى كل حال، فإن إنماء (الحوار الإسلامي-الإسلامي) يتوقف على إشاعة روح التسامح والاحترام بين المسلمين، والاعتراف بالتنوع المذهبي، سعياً وراء التخلص من الطائفية.
مفهوم التسامح :
إن مفهوم التسامح يحتاج إلى ضبط منهجي. ذلك أن اللبس في مفهوم مصطلح (التسامح) والدلالات التي يحملها، إنما نتج أصلاً عن إساءة ترجمة اللفظ عن اللغات الأوروبية، لا سيما الإنجليزية والفرنسية. وقد أدى هذا الموقف إلى اختيار أحد معاني اللفظ الأوربي اللغوية دون الاهتمام بمدلوله الاصطلاحي الذي يكتسب قيمته من الظروف التاريخية التي ظهر في إطارها.
ففي اللغة العربية تشتق كلمة (تسامح) من الجذع الثلاثي (سمح) الذي يعني الجود والعطاء. و(السماح) و(المسامحة) تعني المساهلة، وتسامحوا بمعنى تنازلوا و(السماحة) تعني الكرم والتساهل ... وهكذا، فإن المعنى الأصلي يعني الكرم والجود، كما يعني السهولة. أما الكلمة الأوروبية فهي Toleration المشتقة من فعل Tolerate بمعنى يتحمل، أو يقبل، أو يصبر على، أو يجيز، فهي هنا تجمع بين الاحتمال على مضض والتسامح والقبول على كره، والتحمّل، وهو ما يشي بالتساهل إزاء شيء لا يمكن قبوله عادة. وبذلك كان استخدام اللفظ في السياق الثقافي-الاجتماعي الأوربي يقصد شيئاً، على حين أدت الترجمة إلى شيء آخر مختلف.
بيد أن لفظ (التسامح) دخل اللغة العربية ليكتسي مفاهيم ومدلولات إضافية سرعان ما صارت هي المفاهيم والمدلولات الجوهرية بسبب السياق الثقافي-الاجتماعي الذي تم استخدامه فيه من ناحية، وبسبب تأثيرات الموروث الثقافي العربي الإسلامي من ناحية أخرى. فقد تخلى اللفظ تماماً عن معناه الأوربي، وصار له معنى يكاد يكون مضاداً لمعنى الكلمة الأوربية، فقد تخلى عن معاني (التحمل) و(الصبر على)، إلى معنى واحد هو القبول بالآخر، وعدم إنكار حقه في أن يكون (مختلفاً)، وأن يمارس الاختلاف. وربما يكون هذا هو السبب في أنه استخدم كثيراً في سياق الحديث عن الحريـات الدينية -وهو المعنى الأساسي لكلمة Toleration على أي حال- على الرغم من أنه ينبغي أن يستخدم في مجالات التعددية السياسية، والحوار الثقافي، والتنوع الاجتماعي .
ولئن كان التسامح بالمفهوم الإسلامي الراقي وليس بالمفهوم الغربي الوافد، واجباً في الزمن الماضي الذي نشأت فيه المذاهب الإسلامية وسادت فيه الخلافات بين المسلمين، فهو في زماننا أوجب لسببين : الأول أن كثيراً من أسباب الخلاف كان قديماً، وقد أصبح في ذمة التاريخ، كالخلاف في أي الصحابة أفضل وأيهم أحق بالخلافة، والخلاف فيما عمله الصحابة في حروبهم وسيرهم. وقد انقضى كل هذا ودفن في التاريخ، فما لنا نفتح صفحة طواها الله، لا تنفعنا في حاضرنا ولا في مستقبل أيامنا. والثاني أن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى الوحدة، لوقوعهم في مشاكل أمام الغرب وأمام أنفسهم لا ينقذهم منها إلاَّ وحدتهم. وليس أسرّ لعدوّهم من فرقتهم، فما بالنا نسيء إلى أنفسنا بفرقتنا، ونُفرح العدو بشتاتنا، والله تعالى يقول : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً﴾ .
فالتسامح الذي هو فضيلة كريمة من فضائل الدين الحنيف، والذي هو من مكارم الحضارة الإسلامية، هو ثمرة (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، أو ذلك ما ينبغي أن يكون. والتسامح كما يفهمه المسلمون، يقتضي الرفق في التعامل مع الخلافات، لأن إزالة أسبابها غير ممكنة، والتجاوز عما يراه هذا الفريق أو ذاك، قد يكون متعذراً، ولذلك وجب أن نتحلّى جميعا بفضيلة التسامح حتى نصل إلى التقريب فيما بيننا، استجابة للنداء الإلهي : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾.
ولقد صدق من قال : إذا كان كلُّ خطأ يرتكبه بعض أبناء مذهب إسلامي داعياً لتكفير أبناء ذلك المذهب كلهم، فعندها لن يبقى هناك مسلم على وجه الأرض!!، ولصار دين الله صعباً ضيقاً، وضاقت رحمته الواسعة، والإسلام أوسع من ذلك .
ولا يسعني في الختام، إلاَّ أن أردّد ما قاله المصلح الإسلامي الكبير أحد رواد النهضة الإسلامية في مطلع القرن العشرين، الشيخ السيد رشيد رضا، يرحمه الله : "إن من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية رميّ بعضهم بعضاً بالفسق والكفر، مع أن قصد كل منها الوصول إلى الحقّ بما بذلوا جهدهم لتأييده، واعتقـاده، والدعوة إليه، فالمجتهد وإن أخطـأ معـذور ..." ، ومراجعة الخطأ والعمل على تصحيحة، فضيلة خُلقية وفريضة دينية.
إنّ من المعوّل عليه في نجاح مساعي التقريب بين المذاهب ولحل الخلاف الناشب بين السنة والشيعة، هو إخلاص النية لله تعالى، وإحسان الظنّ بالمسلمين، والعمل المتواصل بالرفق واللّـين، وبالحكمة والقول الحسن، وقبل هذا وذاك، العودة إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وتلك هي المسؤولية المشتركة التي نتحملها جميعاً، سنةً وشيعة وتلك هي السبيل للتخلّـص من الطائفية الممزقة للوحدة الإسلامية والتي تفتح الأبـواب للطامعين في مقـدرات الأمة الإسلامية والمتآمرين عليها والمتربصيـن بها. قال تعالى : )يا أيها الذين آمنوا استيجبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون(، صدق الله العظيم .
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
-إيسيسكو-
رقم: 20145