التقريب حركة فكرية تنطلق من العنوان الثقافي من أجل إثارة علامات الاستفهام التي يطرحها فكر المسلم الآخر لدى صاحبه ؛ ليجد فيها وجهة نظر تثير التفكير في الجانب الآخر
تأملات في خط التقريب والوحدة
4 Jul 2010 ساعة 15:58
التقريب حركة فكرية تنطلق من العنوان الثقافي من أجل إثارة علامات الاستفهام التي يطرحها فكر المسلم الآخر لدى صاحبه ؛ ليجد فيها وجهة نظر تثير التفكير في الجانب الآخر
وكالة انباء التقريب :
هدف التقريب في حركة التقريب :
لماذا التقريب في حركة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة؟
هل هو عنوان ثقافي للوصول من خلاله إلى التبادل الفكري العلمي بين المسلمين ليعرف كلّ فريق فكر الفريق الآخر ولتتحقق بذلك النتائج النفسية في نظر كلّ واحد منهما إلى الآخر في الحكم بإسلامه من خلال ارتكاز النظرية الكلامية والفقهية على قاعدة إسلامية قد تخطئ أو تصيب ، ولكنها لا تبتعد عن المنهج الإسلامي في الاجتهاد مما يجعل المجتهد المسلم معذوراً فيما أخطأ فيه في حيال حسن الظن به من قبل الآخر على أساس حركة الحجة في كلامه مما يوحي بأنه لا ينطلق من خلال هوى النفس أو التعصب للمذهب ، بل ينطلق من الإخلاص في الوصول إلى الحقيقة.
وهذا هو كلّ شيءٍ في المسألة ، باعتبار : أنّ المشكلة التي كانت مطروحة هي : جهل المسلمين ببعضهم فيما يملكون من الرأي ، أو يأخذون به من المذهب ، وفقدان الوضوح في الرؤية في القاعدة الاجتهادية التي ينطلق منها هذا أو ذاك ؛ ليكون الحكم
المتبادل بينهم هو التكفير والتفسيق ونحو ذلك ، الأمر الذي يجعل الاختلاف المذهبي في الوعي الإسلامي العام يساوي الاختلاف الديني ، بل قد يكون أخطر تأثيراً على الواقع الإسلامي ؛ لأنه يدخل ـ في الوجدان العام ـ في دائرة تخريب الإسلام من الداخل تماماً كما هو "السم في الدسم" مما يشكل خطورة على صفاء الإسلام ونقائه ، وتكون النتيجة هي : المزيد من التمزق والانحلال والانطلاق في متاهات الجهل والتخلف الفكري والاجتماعي والسياسي.
أو أنّ التقريب حركة فكرية تنطلق من العنوان الثقافي من أجل إثارة علامات الاستفهام التي يطرحها فكر المسلم الآخر لدى صاحبه ؛ ليجد فيها وجهة نظر تثير التفكير في الجانب الآخر من الفكرة ؛ لتدفع إلى الحوار الذي يوضح الموقف ويبلور الرأي ويتجه بالرسالة المختلف عليها إلى المزيد من الوضوح لدى كلّ واحد من المذهبين في أسلوب علمي من التفاهم الفكري والانفتاح العلمي؛ لتكون النتيجة : التحرك من خلال المنطق الفكري نحو تقريب الأفكار بالتنازل عن الكثير من الهوامش المحيطة بالموقف والزوائد البعيدة عن الموضوع ؛ ليقف الجميع وجهاًُ لوجهٍ أمام العناصر الأساسية للعقيدة أو للشريعة أو الخط الفكري أو الفقهي الممتد في خطوط الكتاب والسنة ، فتضيق بذلك مساحة الخلاف ، وتنفتح عناصر الوحدة الفكرية العقيدية والفقهية في ساحة الحوار ، فيأخذ بها الجميع ؛ ليكون الرأي واحداً فيما يختلفون فيه ما دامت الحقيقة هي رائد الجميع؟
وبذلك يكون الهدف الأسمى من التقريب هو : الوصول إلى قاعدة الوحدة ؛ لأن استمرار الخلاف بين المسلمين يحرك التعقيدات الذاتية والموضوعية في عملية إثارةٍ دائمةٍ تقود الجميع إلى الموقف الحاد الملتهب بالمزيد من الحساسيات الحادة والمشاعر المتوترة التي تجعل الوجدان في حالة دخانية تمتد إلى أكثر من موقع في الساحة؛ لتثير أكثر من مشكلة ، وتحرك أكثر من فتنة على مستوى الواقع الإسلامي كله.
حركة الفكر وعقلانية التحرك:
إننا نتصور القيمة الإسلاميّة في حركة التقريب هي : في اعتبارها الطريق العقلاني القويم في الوصول إلى الوحدة بين المسلمين في تركيزها الخلاف على قاعدة من التفكير المنفتح على أكثر من موقع للمذهبية ، وتحويل المذهبية الطائفية التي تختنق في داخل مشاعرها المتوترة وأفكارها الضيقة إلى مذهبية فكرية واعية تنفتح على الفكر الآخر في المذهب الآخر ؛ ليقف أصحاب المذاهب المتنوعة في إخلاصهم لمذاهبهم في خط الالتزام الذي يحول الفكرة إلى حالة وعي في الموقف ، بدلا من أنّ تكون حالة عقدة في الذات ، لا في خط العصب الذي يختنق فيه الانتماء في الداخل فلا يتنفس أجواء الفكر.
إننا لا نزال في مواقفنا الجامدة التي يتعقد فيها كلّ مجتمع مذهبي من أي شخص يحاول تفسير مذهب فرد من أفراده للانتقال إلى المذهب الآخر كما لو كان مماثلاً لتغيير دينه .. وهكذا تكون النتيجة : المزيد من القسوة في الموقف السلبي للشخص الذي يخضع لهذا التغيير في ذاته . فنلاحظ في هذا الجو : أنّ المسلمين السنة يواجهون الناشطين في خط الوحدة الإسلاميّة من الشيعة بأنهم يريدون إدخال السنة في التشيع ، كما أنّ المسلمين الشيعة يتخذون الموقف نفسه من السائرين في هذا الاتجاه ـ الوحدة ـ من أهل السنة بأنهم يريدون إدخال الشيعة في دائرة التسنن ، مما يعني : أنّ التشيع والتسنن قد تحولا إلى حالتين في التنظيم الاجتماعي الطائفي ، بدلاً من أنّ تكون حالتين فكريتين في فهم الإسلام .
وربما نجد النظرة السلبية ذاتها ، فما يمكن أنّ يلتزمه العالم الشيعي لبعض الآراء الشيعية في الفقه أو الكلام في المجتمع العلمي الشيعي ، فيما يمكن أنّ يلتزمه عالم سني لبعض الآراء الشيعية في المجتمع العلمي السني كما لو كان ذلك يمثل حالة انحرافية في المذهب ؛ لأنه تحول إلى حالة محنطة لا حركية فيها ولا حيوية في عالم التغيير الفكري ، فلا ينظر إلى ما يملكه من الحجة على رأيه الجديد ؛ لأن الجميع يختزنون في داخلهم معية المذهب في اجتهاده ، مع العلم أنّ أية حالة اجتهادية في أي مضمون فكري في أي جانب من جوانب الخلاف الكلامي والفقهي لابد أنّ تكون خاضعة للجدل الدائم ؛ باعتبار أنها قابلة لاحتمالات الخطأ والصواب بحسب طبيعتها الذاتية أو الموضوعية . وفي ضوء ذلك فإن حركة التقريب لم تنجح في تغيير ملامح الشخصية المذهبية المتحجرة في الأسوار التي يضعها المجتمع في الدائرة الخاصة في داخل هذا المذهب أو ذاك ، في الوقت الذي استطاعت أنّ تنجح في تحطيم الجمود النفسي في انفتاح البحث على المذهب الآخر في الأسلوب المتعارف في الكلام والأصول والفقه وفي تفسير القرآن ، فنحن نرى أنّ المنهج العلمي الإسلامي بدأ يأخذ الاتجاه الموضوعي في دراسة المذاهب التنوعة ، بفعل أجواء التقريب التي أعطت الواقع الإسلامي الثقافي مناخاً جديداً في الواقع النفسي والاجتهادي ، كما أنّ المناهج الحديثة للبحث قد ساعدت على ذلك ، فقد انطلقت المناهج السليمة المرتكزة على الطريقة الموضوعية في البحث في مختلف فنون العلم ، بحيث أصبح المنهاج الذاتي يمثل عملاً غير علمي في حركة النقد العلمي.
وإذا كنا نتحدث عن التحجر في الشخصية المذهبية لعلماء المذاهب ومثقفيهم فإننا نتحدث عن المسألة في حجم الظاهرة الاجتماعية العامة ، لكننا لا ننكر وجود أفراد هنا وهناك ممن يملكون حرية الفكر وعقلانية البحث ، ومسؤولية الموقف في الانتماء الذي لا يعيشه الإنسان كحالة ذاتية جامدة ، بل يعيشه كحالة فكرية متحركة صالحة للتفسير ؛ لأن المناخ العلمي العام قد استطاع أنّ يلعب دوراً فاعلاً في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى مناخ التقريب كما ألمحنا إلى ذلك آنفاً .
توسيع حركة العلم وفق الأدلة الشرعية:
إننا نحاول ـ في هذه التأملات السريعة ـ أنّ نشير إلى نقطة حيوية جداً ، وهي : أنّ التقريب قد استطاع أنّ ينجح في إيجاد نوع من التفاهم على أساس عرض
المذاهب المختلفة في الأبحاث الكلامية والفقهية ، ولكن الموقف لا يزال في غالب منهجه يتحرك في الدائرة المذهبية الضيقة ، فهناك فقه سني متميز في أصوله وفروعه وأسلوبه ، وهناك فقه شيعي منفتح على القواعد الاجتهادية الشيعية في الأصول والفروع والمنهج ، الأمر الذي يؤكد الفواصل بين المذهبين في المضمون والشكل بحيث يؤدي إلى منهج نفسي يوحي بالانفصال الحاد في الذهنية المذهبية بالطريقة التي تمنع اللقاء .
إنّ رسالة التقريب في خط الوحدة ـ فيما نتصور ـ هي : في إيجاد فقه مختلط يؤكد فيه الفقهاء من هنا وهناك بالبحث الأصولي الذي يرتكز عليه الاجتهاد على الأسس المشتركة التي يتفق عليها الجميع في قواعد الأدلة ومصادر الشريعة بحيث ينطلق الحديث فيه بالأسلوب الإسلامي الذي يستنطق هذا المصدر أو ذاك المصدر من دون عقدة ذاتية أوصفة مذهبية.
فإذا انطلقنا من كتاب الله ـ كمصدر أساسي للتشريع ـ فإن علينا أنّ ندرسه في نصوصه وظواهره ، ومحكمه ومتشابهة ، وعمومه وخصوصه ، وإطلاقه وتقييده ، وناسخه ومنسوخه بالذهنية العلمية المجردة الخاضعة للفهم العام الشامل الذي يستنطق كلّ المذاهب كوجهات نظر متنوعة في المسألة الأصولية بعيداً عن حساسية الخصوصية التي قد تثير التعصب لهذا الدليل أو ذاك باعتبار أنّه مرتبط بهذا المذهب أو ذاك ؛ لأن علماء المذهب يؤكدونه ، فلابد من الدفاع عنه بأي وجه كان ، أو لأن قواعد المذهب تتبناه ، فلابد من إتمامه بأية طريقة كانت مما يبعد البحث العلمي عن الموضوعية ويدفع بالنتائج بعيداً عن التوازن.
ولنقدم القياس كنموذج لهذا المنهج ، فإن الفقهاء الّذين قبلوه والذين رفضوه لم ينطلقوا في هذا الرأي أو ذاك من منطق مذهبي حاد في المسألة الذاتية ، بل انطلقوا في الرفض في دائرة التنوع المذهبي ، فهناك الرافضون له من أهل السنة : كأتباع المذهب الظاهري إلى جانب الرافض له من جمهور الشيعة ، كما أنّ القبول به يلتقي
برأي بعض علماء الشيعة : كابن الجنيد مع جمهور أهل السنة ، مما يجعل المسألة بعيدة عن الحدّة في الخط الحاسم في هذا الجانب أو ذاك.
فإذا وقفنا مع الأدلة التي يقدمها هذا الفريق أو ذاك على صحة مذهبه فإننا نجد حركة المنهج هنا وهناك تتجه نحو استنطاق المصادر العامة للتشريع من دون خصوصية ذاتية ، فيمكننا في هذا الجو من إثارة النقد العلمي للاستدلال بهذا المصدر على الإثبات أو النفي بطريقة عامة مجردة كما لو لم تكن المسألة في ذاتها متصلة بالخلاف المذهبي الحاد ، فإن قضية دلالة هذه الآية أو تلك على حجية القياس أو عدم حجيته ليست مسألة ذات علاقة بالمذهب في أصوله الفكرية ، بل هي مسألة تفصيلية في فهم القرآن في ظواهره اللفظية من خلال قواعد اللغة العربية في استفادة المعنى من اللفظ بعيداً عن أية خلفية ذهنية سابقة . وهكذا نلتقي بالسنة التي اعتمدها مثبتو القياس دليلا ، فإن من الممكن الاتفاق على قاعدة النقد ؛ للنص الوارد في نطاق السنة في خط المنهج في محاكمة السند من أجل توثيق الحديث ليكون حجة على السنة ، واستنطاق المتن من أجل استظهار المعنى منه ، الأمر الذي يقف فيه الجميع أمام الدليل المطروح في موقع واحد باعتبار توفر عناصر النفي والإثبات في مواجهة الفكرة لدى الطرفين . وإذا كان العقل هو الأساس في المسألة فإن الأسس العقلية لا تختلف بين مذهب وآخر في إدراكات الناس لها في مقاييس الصحة والفساد.
وقد لاحظنا أنّ المسألة التي أخذت البعد الواسع من الجدال في القياس هي في مدى حجية استنباط العلة الظنية التي هي الأساس في انتقال الحكم من الأصل إلى الفرع ؛ لأن العلة المنصوصة أو القطعية ناقلة للحكم بالاتفاق ، ولذلك كانت الخلافات تتركز حول الدليل على حجية هذا الظن ؛ لأن الظن لا يملك في ذاته العنصر الذاتي للحجية ، مما يفرض على الباحث البحث عن حجته من دليل خارج ؛ لينقل الحديث عن طبيعة هذا الدليل ومدى قيمته في الدليلية الحاسمة .
حتّى أنّ الشيعة الّذين ينقلون الحديث السلبي حول القياس عن أئمة أهل
البيت ـ عليهم السلام ـ الّذين هم المعصومون عندهم في الكلمة المأثورة عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قوله لأبان بن تغلب : يا أبان انك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين فإنهم ـ في الوقت الذي يرون فيه الحجية الحاسمة لما يرد عنهم ـ يفهمون من كلمات الأئمة القاعدة الأصولية التي تنطلق من عدم وجود أساس للقياس من خلال فقدان العنصر القطعي في اكتشاف العلة المشتركة ، وذلك هو ما جاء في الحديث عنهم (إنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس) فلم يفهموا من أحاديثهم الجانب التعبدي ، بل الجانب التحليلي ، مما يترك مجالا للجدل المتحرك في الساحة العلمية.
المنهج الموضوعي في الحجية :
وقد تكون القضية الحاسمة في تقريب الأساس الأصولي الذي ترتكز عليه حركة الاجتهاد الفقهي هي : في التوافق على الوصول إلى رأي مشترك أو متقارب حول الكتاب والسنة من حيث الخطوط العامة لاستنباط الحكم الشرعي من القرآن ، وتوثيق النص الوارد في السنة على صعيد خبر الواحد ، فإن ذلك يجعلنا نواجه القاعدة الاجتهادية من موقع واحد ، بحيث يكون الخلاف ـ لو حدث ـ على طريقة الخلاف بين أتباع المذهب الواحد عندما يختلفون في ظهور الآية في هذا الحكم أو عدم ظهورها ، أو في كونها منسوخة أو غير منسوخة ، أو في إمكانية الخروج عن الظاهر القرآني بالنص الحديثي في دائرة العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، والحقيقة والمجاز ؛ لأن الجميع متفقون على البعد عن مخالفة كتاب الله ، فما خالف كتاب الله فهو زخرف ، ولكن المسألة هي : ما هي طبيعة هذه المخالفة للكتاب ؟ فهل الخاص الحديثي مخالف للعام القرآني أم لا ؟
ولم تكن السنة في أي حال من الأحوال موضع جدل في حجيتها ، ولكن الجدل كان في حجية الطريق إليها ، ويتركز البحث بينهم في خبر الواحد هل هو حجة ام لا ؟ وما هي شروط حجيته ؟ فهل العدالة شرط فيه ليكون الفسق العلمي عنصراً سلبياً في الحجية ، أم أنّ الوثاقة كافية في المخبر ، أو أنها كافية في الخبر من حيث العناصر الداخلية والخارجية التي توحي بالوثاقة .
إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات حول مسألة حجية خبر الواحد قد تحدد لنا الخط العريض للاجتهاد في نطاق السنة الشريفة ، فإذا عرفنا أنّ الأكثرية هنا وهناك تكتفي بالوثاقة في المخبر أو في الخبر ولا تجعل العدالة شرطاً فإن النتيجة هي : أنّ من الممكن للمجتهد الشيعي أنّ يأخذ بخبر الثقة السني ، كما أنّ من الممكن للمجتهد السني أنّ يلتزم بخبر الثقة الشيعي ؛ لأن مسالة المذهبية لا ترتبط بالوثاقة ، بل ترتبط بالعدالة .
وتبقى المسألة في إيجاد الأساس التوثيق هنا وهناك في شهادة العلماء بذلك ، أو في دراسة تاريخ هذا الراوي أو ذاك ، مما يمكن أنّ نتفق فيه على خطوط معينة في الجانب التطبيقي ، باعتبار أنّ الوثاقة أمر عقلاني لا تعبدي ، فيمكن الرجوع إلى السيرة العقلائية ، أو بناء العقلاء في تحديد الأسس الواقعية للوثاقة في الخبر أو المخبر مما يتعارف السير عليه في حياة الناس العامة والخاصة ، وبذلك يمكن أنّ يدخل الباحث الشيعي في حوار مع الباحث السني حول أخذ رواة أهل السنة في ميزان الوثاقة . كما يمكن للباحث السني ممارسة ذلك في رواة الشيعة بحيث لا يتوقف هذا أو ذاك عند الخصوصية السنية أو الشيعية في حساسية الرأي ، بل ينطلقان مع المنهج الموضوعي في التوثيق ، وربما كان هذا النهج أقرب السبل للوصول إلى الخط المشترك في الموضوع . وفي ضوء ذلك يمكن أنّ تكون المصادر الحديثية لأهل السنة أو الشيعة مصادر للشيعة أو السنة في عملية الاستنباط ولو بشكل جزئي من خلال الأخبار التي يرويها الثقاة هنا وهناك.
المذهبية ليست الأساس في حركة المذهب:
وهناك نقطة مهمة أخرى وهي : أنّ المسألة المذهبية ليست شأناً داخلياً لأتباع هذا المذهب أو ذاك ، بحيث يختص أصحابه بالبحث في قضاياه الفكرية العقيدية ، أو القانونية الفقهية ، فلا تسمح للتابعين لمذهب آخر أنّ يبحثوها بطريقتهم الخاصة، باعتبار أنّ ذلك لا يدخل في اختصاصهم العلمي .
إنّ المذهبية في الدائرة الإسلاميّة تمثل وجهة نظر خاصة في فهم الإسلام في دائرته العقيدية والعملية من خلال الاجتهادات الخاضعة لأصول علمية مفتوحة مشتركة بين العلماء المتخصصين في الكلام والفقه.
وقد تكون قيمة البحث المذهبي المتبادل المفتوح : أنّه يحرر الباحثين من الاستغراق في الذات المذهبية التي تخضع للرغبة الدائمة في تبرير مذهبها والتنديد بالمذهب الآخر من ناحية ذاتية من دون اعتبار للحياد العلمي ، بينما يتحرك المنهج المنفتح لمواجهة القضية في البحث كقضية إسلامية موضوعية في عناصرها الحية التي تتجاوز الخصوصيات إلى الخط العام للحقيقة الحاسمة ، وبذلك نصل إلى الفقه الإسلامي الواسع الشامل الذي لا يلتزم في أبحاثه إلاّ الخصوصية الإسلاميّة في طبيعتها ومصدرها ؛ لتكون المذهبية هنا وهناك قولاً من الأقوال ، وتفصيلاً من التفصيل ، ولتكون صفة العلماء في الدائرة الإسلاميّة من خلال عنوانهم الإسلامي كعلماء مسلمين ، لا في الدائرة المذهبية كعلماء سنة أو كعلماء شعية ، الأمر الذي يتجاوز روح التقريب إلى روح الوحدة من خلال الجانب الإيحائي الذي يتحول إلى جانب موضوعي شامل.
واقعية العالم في حركة التقريب:
وقد يكون من الضروري للعاملين في التقريب أنّ يتحركوا في إيجاد واقع تقريبي على الصعيد الشعبي ، فلا تقتصر حركة التقريب على النخبة المثقفة من
العلماء المسلمين الّذين يراد لهم الانفتاح على وجهات النظر المختلفة بين المسلمين فكرة ومنهجاً ودليلاً ، بل يمتد إلى الواقع الإسلامي الاجتماعي العام في الخطاب التربوي والوعظي والتوجيهي ، بحيث تنطلق مفرداته في تحريك العناوين المشتركة بين المسلمين في العبادات والمعاملات والعلاقات ، وفي خطوط العقيدة وحركة المنهج إلى جانب العناوين المذهبية الخاصة ليتعرف الناس على عمق الصفة الإسلاميّة الجامعة بينهم في خطوطها العامة ، قبل أنّ يتعرفوا على ملامح الصفة المذهبية ؛ لأن فائدة هذا الأسلوب أنّه يثقف الناس بأن التنوع لا ينافي الوحدة ، وأن الوحدة في القاعدة الفكرية لا تتنكر للتنوع في التفاصيل ، وليتعلم هؤلاء كيف يتقبلون الموعظة العامة من الشخصية المنتمية إلى هذا المذهب ، ومن الشخصية الأخرى المنتمية إلى المذهب الآخر ، من دون تعقيد نفسي ، كما ينفتحون على إيجابيات هذا الفريق وذاك الفريق ، فإن الموقف الرافض للشرعية في موقع هذه الجهة لا يمنع من الانفتاح عليها بطريقة منفتحة بما يتصل بالمواعظ المشتركة ، والأخلاق القويمة العامة ن والمواقف الصحيحة ولو بشكل جزئي.
إننا نلاحظ أنّ هناك خطة تجهيلية في التربية المذهبية الإسلاميّة تخطط لإبعاد المسلمين عن بعضهم بالتأكيد على موقع الخلاف بدلاً من مواقع الوفاق ، وبالتركيز على السلبيات بشكل مطلق في تقديم صورة الفريق الآخر بطريقة مشوهة، مع التركيز على الإيجابيات المطلقة في تقديم صورة الفريق الملائم بطريقة محببة ، وتمنع الأحاديث التي تفتح الوعي المتوازن على الآخر ، الأمر الذي أدى إلى أنّ لا يعرف المجتمع السني إلاّ القليل عن الشيعة ، كما لا يعرف المجتمع الشيعي إلاّ القليل عن السنة ، مما يفتح المجال للخرافات التصورية أنّ تنفذ إلى الوجدان الشعبي في نظرته إلى خط التسنن أو التشيع بطريقة منحرفة ، وتدفع باتهامات التكفير والضلال التي تحركها الاتجاهات المتعصبة أو المتخلفة ، أو الأجهزة المخابراتية الكافرة والمستكبرة والضالة ، من دون أنّ تجد أية ردة فعل ضد هذا الأسلوب العدواني .
إنّ الثقافة التقريبية الوحدوية لابد أنّ تتحول إلى ثقافة شعبية عامة فاعلة في الوجدان الوحدوي العام ، كما لابد من الاشتراك في الممارسات العبادية على مستوى صلاة الجمعة والجماعة ، وفي المعاملات والعلاقات على صعيد الواقع القانوني الشرعي ؛ لأن ذلك كفيل بتقريب المواقف وتعديل الاتجاهات.
وإننا نتصور أنّ المجتمعات المختلطة التي تتنوع فيها الأفكار والمذاهب سوف تفسح المجال للكثير من توضيح الصورة وتبديل الأوضاع ، وتحريك الكثير من علامات الاستفهام في اتجاه الرغبة في الوصول إلى أجوبة محددة حاسمة ، مما يجعل القضية منفتحة على التعاون في الحصول على مواقع جديدة في ساحة التقرب والوحدة .
وقد نحتاج إلى التأكيد على هذه النقطة عندما نلاحظ أنّ هناك خطة مدروسة للاستكبار والكفر العالميين من أجل المزيد من التعقيد في علاقات المسلمين ببعضهم البعض ، وإبعاد المواقف المشتركة عن واقعهم الفكري والسياسي والأمني والاجتماعي ، وتحويل الخصوصيات المذهبية ـ في صورتها المشوشة الضبابية ـ إلى حواجز نفسية واجتماعية مانعة من اللقاء على أساس الخط الإسلامي العام.
إننا نلاحظ أنّ الوحدة الإسلاميّة من الممنوعات السياسية لدى الاستكبار العالمي ، وأن التقارب بين المسلمين يمثل خطأ أحمر في السياسة الدولية السائرة نحو إسقاط مصالح المسلمين لحساب مصالح الدول الكبرى المستكبرة ، الأمر الذي يجعل التقريب والوحدة عنوانين كبيرين في ساحة الصراع السياسي في مواجهة الاستكبار العالمي الشيطاني .
وفي ضوء ذلك لابد لنا من العمل على أنّ يكون هناك تكامل في الصورة فيما يحمله كلّ مسلم من الصورة عن المسلم الآخر ؛ لتجتمع لديه كلّ ملامحها السلبية والإيجابية ، فإن ذلك هو الذي يقرب الأفكار ، ويفتح القلوب ، ويوحّد المواقف ، ويدفع الجميع نحو اللقاء على الإسلام كله من موقع الوعي لك الخصوصيات الداخلية والخارجية ، ويوحي بالحوار الإيجابي من خلال علامات الاستفهام التي قد تثيرها بعض
المعلومات في بعض الملامح ، فيكون ذلك كله أساساً فكرياً وعملياً وروحياً لأصالة الانتماء الإسلامي في شخصية الإنسان المسلم بكل شموليةٍ وانفتاح.
إنّ مشكلتنا في الواقع الإسلامي ـ على مدى العصور ـ هي : في عدم وضوح الصورة من جهة ، وتشويه بعض ملامحها من جهة أخرى ، مما قد يخيل فيه ان الكافر أقرب إلى هذا المسلم من المسلم الآخر ، على طريقة اليهود الّذين كانوا يتحدثون عن المشركين فيقولون عنهم : (هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً) ، انطلاقاً من الحقد المتعصب ؛ لأن الجانب المشرق من الصورة لا يملك أية فرصة معقولة في حركة العلاقات ، بينما يملك الجانب المظلم كلّ الفرص في الحديث والإثارة والتأثير. وهذا ما يجب على العاملين أنّ يلاحظوه انطلاقاً من خط العدل الذي قرره الإسلام ؛ ليكون متوازناً لدى الأعداء والأصدقاء كما جاء في قوله تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ).
(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ).
مشروعية الثورة:
وفي نهاية المطاف، ربما كنا بحاجة إلى البحث عن ضرورة الحوار السياسي المتحرك في التحديات الكبرى التي يواجهها المسلمون في خط الصراع في داخل مجتمعهم في المشاكل المتنوعة بين الأنظمة والحركات الإسلاميّة في قضايا النظام وعلاقته بحرية العمل الإسلامي السياسي من جهة ، وبالخط العام للأنظمة الحاكمة في البلدان الإسلاميّة بالاستكبار العالمي من جهة ، وبالصهيونية العالمية من جهةٍ أخرى ، وبالدور الفاعل للشريعة الإسلاميّة في حركة التشريع العامة ، حيث يطرح المسلمون الحركيون تطبيق الشريعة في الوقت الذي يرفض الحاكمون ذلك .
أما القضية التي لابد من إثارتها فقهياً وفكرياً هي : مدى شرعية الثورة على الحاكم الجائر ، أو الحكم المنحرف عن خط الإسلام ، وهل يجوز استعمال العنف ابتداء في عملية التغيير ، أو كرد فعل للعنف المفروض على الناس من قبل النظام ، أو يكتفي المسلمون بالنصح والموعظة والإرشاد فيترك لنفسه أو للظروف الطبيعية الطارئة أو المحيطة بالموقف على أساس أنّ الإسلام هو دين الرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة ، لاسيما في العلاقات المتحركة بين المسلمين في خلافاتهم الداخلية؟
وهكذا تتحرك مسألة التقريب في المواجهة الحادة بين المسلمين والمستكبرين الّذين يفرضون على الواقع الإسلامي سيطرتهم الظالمة الخانقة في الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؛ ليكون هامشاً من هوامش الواقع الاستكباري ، فلا يكون للمسلمين دور فاعل في تقرير مصيرهم إلاّ بالطريقة التي تتناسب مع مصالحهم الكبرى الضاغطة على مصالح المسلمين العامة.
والسؤال المطروح : هل العنف هو الأساس في خط المواجهة من خلال عنوان الجهاد الذي يحكم حركة الإسلام ضد التحديثات الكافرة والمستكبرة ، أو أنّ العنف ليس هو الأسلوب المطلوب تحريكه في خط المواجهة ؟ وهذا هو ما قد يختلف الرأي فيه بين الشيعة والسنة من جهةٍ ، كما قد يقع الخلاف فيه بين الشيعة أنفسهم ، أو السنة أنفسهم ، مما قد يؤدي إلى الكثير من التعقيدات الأمنية والسياسية بين المسلمين .
ويضعف الموقف الإسلامي في خط المواجهة بينه وبين الانحراف في الداخل والخارج ، ويفسح المجال للنزاع المذهبي والحركي في المجتمع الإسلامي ؛ لأننا نلاحظ أنّ ظروف الصراع تثير المسألة الفقهية كمشكلة في ساحات الحركيين والثائرين في حملة تشكيكية بشرعية موقفهم ؛ لاختلافه مع الخطوط الإسلاميّة المستقيمة.
قد تحرك الإعلام الاستكباري في توجيه الحملة بالطريقة التي تؤدي إلى إرباك العملية التغييرية في حركة المجاهدين ، وتحريك المسألة المذهبية كما لو كانت
الثورة خطاً شيعياً ليكون الاعتدال خطاً سنياً في خطة إيجابية متنوعة ، وتوجيه المسألة في داخل كلّ مذهب إسلامي ـ في الجدل الداخلي ـ ليكون هناك خط تطرف وخط اعتدال ؛ ليكون هناك صراع بين المتطرفين والمعتدلين على أساس الخط الفقهي في دائرة السلب والإيجاب.
إننا نعتقد : أنّ حركة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة لابد أنّ تتطور لتواكب تطور الفكر الإسلامي في معالجة التحديات الجديدة ، مما قد يدور الجدل فيه بين المسلمين على أساس الاختلاف الفقهي أو الفكري في المفاهيم العامة ؛ لأن ذلك هو الذي يمثل التحدي الحاد الحاسم للواقع الإسلامي كله ، الذي يراد له أنّ يسقط تحت تأثير الضغوط القاسية من قبل الكافرين والظالمين والمستكبرين في الداخل والخارج.
فإن الحرب الجديدة ضد الإسلام والمسلمين تحولت إلى حرب متعددة الأبعاد والمواقع والأهداف ، الأمر الذي يفرض على الجميع الاستعداد بكل الوسائل الفكرية والعملية على أكثر من صعيدٍ ؛ ليأخذ التقريب بين المسلمين دوره الحركي الفاعل في ساحة الواقع ، بدلاً من أنّ يكون مجرد حالة ثقافية تجريدية في دائرة الترف الفكري ، فذلك هو الذي يطور الحركة ؛ لتكون وسيلة من وسائل حركة القوة في الإسلام في خط الحرية والعدالة والوحدة.
العلامة الفقيد محمّد حسين فضل الله
رقم: 20153