إنّ أية محاولةٍ تجديديّةٍ لتقديم أدوات قراءة مستحدثة، أو ما ينجب من هذه القراءات، لا بدَّ من أن ينتهي إلى تنوُّعٍ في الرؤى وتعدُّد في المدارس. وهكذا تبقى الحياة متنوّعة، تفرز ممّا ينجبه التّجديد التّعدّد، ليخلق تلك الصّور الجميلة من التّنوّع، ليتجلّى في أبهى صورة في ذلك التّعدّد الفكريّ الواسع المنحدر من قراءة النصّ الدّينيّ.
د. أحمد محمد اللويمي - باحث من السعودية
حول الإشكالات النّفسيّة للشّخصيّة الإسلاميّة ودورها في إذكاء التخلّف
الحياة في مظهرها العام لا ترتبط بحركة الزمن في دوران اللّيل والنّهار، بل إنّ ما يشكّل مظهر الحياة ويحدّد طبيعتها وجوهرها، هو القدر الَّذي يمتلكه الإنسان من عمقٍ وإدراكٍ لمفاهيم الحياة، فليس بُعْد الحداثة والقدم الحقيقيّ ما تنقله أحداث التاريخ، بقدر ما يرسمه الإنسان من طبيعة الفهم والقيم والإدراك لتفاصيلها.
ويبرز التَّجديد مرتبطاً بالزّمن بالقدر الّذي يدركه الإنسان من الحاجة إلى إعمال أدوات جديدة وقراءات مستحدثة لوجوده في الحياة وعلاقته مع مناحيها كافّة. ويظهر جليّاً أنَّ التّجديد إفرازٌ لإدراك الحاجة في حركة الزمن إلى التحول والتبدّل والتغيّر للتوافق مع متطلبات المرحلة، فالزّمن المجرّد دون الإدراك لإفرازاته لإعمال الأدوات الفاعلة المتمثّلة في الحاجة لا يفرز تجديداً، ولا يخلق حاجةً إلى التبدُّل والتحوّل.
ولعلَّ من أهمِّ الجوانب الّتي تعكسها نظرية داروين في التطوّر والارتقاء ذات الصّلة بمفهوم التّجديد، ما تشير إليه النظرية حول مفهوم الانتقاء الطّبيعيّ (Natural Selection)، والتي تؤكّد الحاجة إلى التحوّل للتأقلم مع المتغيّرات الطبيعيّة، وذلك لاكتساب قابليّاتٍ وملكاتٍ جديدةٍ قادرةٍ على الاستمرار في البيئة الجديدة، للاستفادة القصوى من قدراتها وطاقاتها. وأمّا ما يتعلّق بمفهوم التَّجديد وحدوده وأقاليمه وأدواته، فذلك أمرٌ شاسع لا تستوعبه أسطر هذه الدّراسة، وإنما الحدّ الَّذي تطمح إليه، هو قراءة في بعض ملامح التجديد للقراءة الدينية لمفهوم الإنسان في النّصّ الدّينيّ، من خلال ما تمظهر في التّجربة الثّريّة والطّويلة الباع في هذا المضمار للعلامة السيّد محمد حسين فضل الله، حيث شُغل بتقديم قراءة علميّة نفسيّة للإنسان المسلم الراهن، وما تختلجه من إشكالاتٍ وعوائق تمنعه من بلوغ ما أراده النّصّ من صناعةٍ له وتشكُّل.
إنّ أية محاولةٍ تجديديّةٍ لتقديم أدوات قراءة مستحدثة، أو ما ينجب من هذه القراءات، لا بدَّ من أن ينتهي إلى تنوُّعٍ في الرؤى وتعدُّد في المدارس. وهكذا تبقى الحياة متنوّعة، تفرز ممّا ينجبه التّجديد التّعدّد، ليخلق تلك الصّور الجميلة من التّنوّع، ليتجلّى في أبهى صورة في ذلك التّعدّد الفكريّ الواسع المنحدر من قراءة النصّ الدّينيّ.
تقدِّم هذه الدراسة لمحة عن مفهوم التجديد وأشكاله، ومن ثم بعض الجوانب عن مفهوم التّعدديّة، ومن ثم قراءة للمنهج التّجديديّ لكلٍّ من العلامة فضل الله والعلامة الفضلي.
التّجديد في اللّغة
"الجِدَّة: نَقِيض البِلى؛ يقال: شيءٌ جديد. جدَّ الثوبُ والشيءُ يجِدُّ، بالكسر، صار جديداً، وهو نقيض الخَلَق... وتجدَّد الشيءُ: صار جديداً. وأَجدَّه وجَدَّده واسْتَجَدَّه، أَي صيَّرَهُ جديداً".
مصطلح التَّجديد
يؤصَّل مفهوم التّجديد بما جاء في قول الرّسول(ص) في حديثه: "إنَّ الله يبعث إلى هذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدِّد لها دينها".
أحد مفاهيم التّجديد الواردة في كتب العصور الأولى، يعني الإحياء، كما أشار إلى ذلك عبد الرّحمن الحاج إبراهيم في بحثه (مفهوم التَّجديد في الفكر الإسلاميّ)، فقال: "الإحياء: يظهر تفسير التّجديد هنا بمعنى إحياء ما اندرس من السنّة، أو (إحياء الدين) عندما تكون تحدّيات العصر الكبرى، التي وجد المفسّر فيها، من النّوع الّذي يهدِّد الكيان الإسلاميّ على مستوى عقائده ومجتمعاته وأخلاقيّاته وقيمه على نحو كلّيّ. ولعلَّ هذا التّفسير هو أوّل ما وردنا عن التّعريف بمفهوم هذا المصطلح في كلّ شروح السنّة الشّريفة، وهو قول الزّهري، التابعي الجليل، الَّذي يفهم من وصفه للخليفة الرّاشد عمر بن عبد العزيز بمجدِّد القرن الأوّل".
ونجد هذا أيضاً عند ابن الأثير، إذ يقول: "فالأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس مئة سنة، يجدّدون للناس دينهم، ويحفظون مذاهبهم التي قلّدوا فيها مجتهديهم وأئمتهم".
وأما مفهوم مصطلح التّجديد في واقع ما تمارسه القراءات المعاصرة، فيمكن الرّجوع فيه إلى الدراسة المستفيضة حول المفاهيم المتعدّدة للتّجديد؛ إلى مقال حمدوشي. ويذهب حيدر حبّ الله في بحثه (مشروعية تجديد الفكر الديني) إلى أنّ التجديد هو "محاولة جادّة لإضفاء عناصر لم تكن موجودةً من قبل على كيانٍ كان وما يزال له وجوده. بهذه الطّريقة، يكون هذا الكيان قد جُدِّد، سواء حصل التّجديد في حذف بعض عناصر الكيان السّابق، أو في إضافة عناصر أخرى جديدة، أو في إعادة ترتيب العناصر نفسها، وسواء كان ذلك في الشّكل أو المضمون أو في المنهج الّذي يحكم محلّ العناصر أو الوصول إليها. لكن لا يحصل التّجديد بإحداث كيان جديد محل الكيان القائم القديم، فتجديد الفقه الإسلامي ـ مثلاً ـ شيء، والإتيان بفقه جديد شيء آخر".
ويتَّضح من خلال ما جاء في مفهوم التَّجديد في بُعده الكلاسيكيّ في كتب المصدر الأولى، وما يزاوله المجدّدون المعاصرون، أنّ التّجديد لا يعني استئصال الأصل واستبدال الجديد به، بل هو محاوله لاستبدال أدوات وتحديث أخرى تعين على الكشف عن أبعاد غير مطروقة في النصّ، والعمل على الارتفاع بالفهم له إلى مستوى يلتقي وتلبية الاحتياجات المعاصرة له، فالتّجديد بشكلٍ أبسط هو تحديثٌ لفهم النّصّ، وتقريب لتطبيقاته الموافقة لاحتياجات العصر.
أبعاد التَّجديد وحدوده
إنَّ من ضرورات التّجديد سعة الدّراية والاطّلاع على الأدوات المتاحة لقراءة النصّ، فالدَّعوة إلى التَّجديد لا يمكن أن تتَّخذ مسارها إلا من خلال تفحّص قيمة المتاح من التّراث وفاعليّته وتأثيره، فالتَّجديد في بعده التّرميميّ لأدوات القراءة أو الاستبدال، يتحرّك بحجم ما تستطيع هذه الأدوات من استيعاب متطلّبات التحوّل، ومقدار الضَّغط الّذي يمارسه الواقع في استنطاق النّصّ. والتَّجديد في استبدال أدوات القراءة أو تأسيسها، يعتمد أيضاً على حجم ما تمتلكه الحركة التَّجديديَّة من رؤيةٍ وأفقٍ للواقع، لأنّ الرؤية التّجديديّة تستبطن في ذاتها حراكاً إصلاحياً، لا نشاطاً أكاديمياً مجرداً.
وبما أنَّ الإصلاح يستلزم طرفين مهمّين، هما: (النظرة) و(الرؤية)، كما يؤكّد ذلك العارف الكبير مولانا جلال الدين الرّومي، فالنّظرة تحدِّد أفق الاطّلاع وحجم ما يمتلكه المجدِّد من شموليّة في الواقع ومتطلّباته، والرؤية يراد بها قدرة وصلابة ما تحمله الحركة التّجديديّة من كفاءات تنويريَّة في إماطة اللّثام عن جوانب النّصّ الكفيلة بتلبية الاحتياجات الملحّة الّتي استلزمت التّجديد بادئ ذي بدء، فإنَّ نجاح منهجيَّة التجديد مرتبط بما تملكه من هذين الجانبين، وهما: دراية الاطّلاع على التراث الدينيّ، من حيث قدرته وكفاءته في تلبية احتياجات التطوّر والنموّ الحضاريّ، ومن جهة أخرى، ما تمتلكه الحركة التجديدية من وضوحٍ ورسوخٍ في منهجها التجديديّ، حيث يمنع الأوَّل من توغّل التَّجديد في الدّين نفسه، ويحصره في فهم نصّه، والآخر يحصِّن من الضّياع والتيه في حركه تجديديَّة فاقدة للوجهة والأبعاد، كما يشخِّصه حبّ الله في بيان حدود المنهج التجديدي وأدواته، فيقول: "أمّا الاستبدال الراديكالي التامّ للمنظومة القديمة بمنظومة جديدة، وهذا هو التجديد بالحدّ الأعلى، فهو تجديد في الواقع، وليس تجديداً في المستبدل. لهذا كان من حقّ دعاة التَّجديد في الدِّين، أن يطالبوا بتجديدٍ لا يكون على حساب الدِّين، وإنما له، بتجديدٍ لا يحدث قطيعةً مع الدّين والتراث، بل تواصلاً واتّصالاً، بتجديدٍ لا يعني ـ كما يقول العلامة فضل الله وآخرون ـ إسقاط القديم كلّه واستبدال فكر جديد به لا علاقة له به، ليكون ذلك خروجاً من الإسلام ومصادر الشّريعة إلى غيره، بتجديدٍ لا يسوق إلى الاستلاب، وإنما إلى الوجود والتّحقيق".
مشروعيّة التجديد
إنَّ مبرّرات التَّجديد هي الَّتي تؤسِّس لمشروعيَّته، وقوَّة الحجّة ووضوح الحاجة، تعين على تأسيس المشروعيّة، دون أن تواجه صدود القوى السّلفية المتمسّكة بالأدوات التقليديّة. ولعلّ أهمّ العوامل المساعدة في بناء مشروعيّة التّجديد، هو وضوح أبعاد المشروع وتفاصيله وأدواته، فلا مشروعيّة في حركة تجديدية غامضة، تتخبَّط في أهدافها، وتعاني الفقر في أدواتها، فالضرورة قد تكون دافعاً للتّجربة، إلا أنَّ المشروعيّة لا تتولّد تلقائياً بهذا الشّعور ومقدار الحاجة. ومن جانبٍ آخر، فإنّ طول الوقوف عند هاجس المشروعيّة، دون الإقدام عليه، يفوِّت الفرصة على التَّجديد في تقديم نماذج قادرة على بناء أسس المشروعيّة. "بقدر ما أطالب بالجواب عن سؤال المشروعيَّة الّذي طرحه عليَّ نقّاد التّنوير، يلحّ الواقع بسؤال الضرورة".
ولعلَّ من أهمّ معوّقات التَّجديد، هو الفضاء الَّذي يتولّد فيه ويتحرَّك، فالحريَّة في انفتاح التَّجديد في مبانيه العلميّة ورموزه الفاعلة على التيارات المشتغلة بالشّأن الدّينيّ كافّة، أساس مهمّ في إثبات مشروعيَّة المشروع التجديدي. وتعدّ حريّة التّعبير في فضاء يمارس التّعتيم والتّدليس، من أهمّ المشاهد الحافلة في تاريخنا الإسلامي بشكلٍ عام، والشّيعيّ بشكلٍ خاصّ، كما نقل الشّيخ حسن الصّفار في مقاله الضّافي الكثير من المشاهد المعبّرة عمّا عاناه المجدّدون من المحقّقين، كابن إدريس الحلّي، في خلال رحلة تأسيس الاجتهاد الإمامي وتطوّره.
مشروعيَّة التَّجديد وهاجس الهويَّة
من أهمّ الأدوات الَّتي توظّف في معركة مشروعيَّة التَّجديد، ما تشهده السّاحة العلميّة الثقافيّة الراهنة من تراشقات يدور مدارها حول "الهوية". إنّ عقليّة المؤامرة تطغى في خطاب المعارضة للحركات التجديدية ورموزها، من خلال تأكيد خطورة هذه المشاريع على أصالة الهوية الإسلامية للأمَّة، واعتبار هذه المشاريع الأبواب التي من خلالها تنفذ المشاريع الاستعمارية. وبالرغم من الرَّدح الطّويل الَّذي قطعه الخطاب التَّجديدي من التقدّم والتطوّر على المستوى التنظيريّ والأكاديميّ، كما يشير إلى ذلك زكي الميلاد في بحثه (لماذا تأخَّرت مهمّة تجديد الخطاب الإسلامي؟)، فإنّ إحالة التَّجديد من التّنظير إلى التّطبيق، ما زال يواجه العوائق والصّدود، وخصوصاً مع ما تشهده السّاحة الإسلاميّة الراهنة من الحضور الطاغي للخطّ السّلفي الأصوليّ الإحيائيّ، الّذي يؤسِّس وجوده على أساس مكافحة المشاريع التجديديّة كافّةً، باعتبارها خطراً على الهويّة الإسلاميّة في بعدها الإحيائي السّلفي. ويعتبر هذا المسلك السّلفي المشاريع التّجديديّة كافّةً على مستوى واحد مع المخطَّطات الاستعمارية، ويشرِّع العنف في مكافحة الرموز التجديديَّة التي لا تنفكّ عن مشروع جهاد المستعمر الأجنبيّ.
ويبقى هاجس الهويَّة من أهمّ المعوّقات التي تواجه مشاريع إحالة المشروع التّجديديّ التنظيريّ إلى مشروع حياة. إنَّ هاجس الخوف من الآخر القويّ المتمثّل بالحضارة الغربيّة، من أهمّ المبرّرات التي تشحذ الدّفاع المستميت لدعاة صيانة الهويّة في مواجهة البرامج التجديديّة التطبيقيّة التي تجتهد في تقديم النصوص المتوافقة واحتياجات الإنسان المسلم، الَّذي أضحى واقعه امتداداً معبِّراً وصارخاً للتلبّس بمعطيات الحضارة الغربية. إنَّ وهم محق الهويَّة الإسلاميّة الّذي يغذّي مشروع مكافحة التَّجديد سيبقى فاعلاً نشطاً، حتى تستطيع المشاريع التجديديّة تقديم نجاح يمثّل اختراقاً للواقع الراهن، الَّذي أبسط ما يعبّر عنه هو ازدواجيَّة هويّة المسلم بين الانتماء إلى الإسلام والممارسة لمعطيات الحضارة الراهنة.
التَّجديد وموقعيَّته في بناء الإنسان المسلم الحضاريّ
أهمّ الإشكالات الَّتي تلقي بظلالها على أيّ مشروعٍ تجديديّ، هو أولويّة التجديّد لفهم النصّ أم تجديد عقليّة الإنسان المتلقّي لمنتجات التّجديد؟ وبعبارةٍ أخرى: هل إنَّ إصلاح الإنسان كقاعدةٍ أساسيّةٍ في تلقّي معطيات التّجديد أساس يسبق أيَّ مشروعٍ تجديديّ، أم أنّ الاشتغال بتحديث أدوات الفهم للنّصوص هو مقدَّمٌ وأساسٌ في المشروع التجديديّ؟
وبعد هذا التَّساؤل الهاجس، الّذي ما فتئ يطرح على أيّ مشروع تجديدي منذ المؤسِّسين الأوائل، كالسيّد جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده، فإنَّ معطيات أيّة حركة تجديديَّة تترجم في بناء الإنسان الّذي يعبّر عن البعد الحقيقيّ الّذي يريده الإسلام. إن ترجمة الفهم الدينيّ في مشروع إنسانيّ حضاريّ، يعدّ الغاية القصوى للمشاريع التجديديّة كافّةً، ولا يعتبر أيّ إدراك مجرّد للنّصّ أو كشف أعمق لأبعاده ذا قيمة إذا لم يستطع أن يؤسِّس أو يوطّئ لنهضة إنسانية تعيد تشكيل العقليّة الراكدة، وتوحِّد الهمم المبدَّدة، وتركِّز الغايات المبعثرة.
وقد تأسَّس هذا الهاجس على سؤالٍ واجه لعقودٍ من الزمن ردود الفعل المختلفة، وهو: "هل تخلَّف المسلمون منذ أن أساؤوا فهم الدّين، أم أنّ فهمهم للدّين ساء منذ أن تخلَّفوا؟ إنّ الشّقّ الثّاني من السؤال ـ كما يبدو ـ أكثر قرباً إلى أهداف هذا البحث، وأكثر ملاءمةً لطبيعة الواقع الإسلاميّ من الشّقّ الأوَّل، رغم أنَّ الباحثين على مدى العقود الماضية انشغلوا بالإجابة عن الشقّ الأوّل أكثر من الثاني.
إنَّ التّلازم بين التخلّف وفهم الدّين يدعو إلى التَّساؤل حول أهميَّة هذه الصّلة! إنَّ أهميّة هذه الصّلة تتجلّى عند قراءة التاريخ الإسلامي في عصره الذهبيّ، عندما برزت الأمّة الإسلاميّة كحضارةٍ جديدةٍ أنتجت بمزجها لما قبلها من الحضارات بفكرها وإنتاجها المعرفيّ حضارة جديدة. ما هو العامل الفاعل الَّذي جعل المسلم البدويّ البسيط ينفتح، وبكلّ جرأة وشجاعة وإقدام، على ثقافات غاية في التّعقيد والتنوّع، فيهضمها، ويعيد إنتاجها ممزوجةً بفكره الإسلامي الجديد؟
إنَّ استهداف الإنسان كأولويَّة قصوى في أيِّ مشروعٍ تجديديّ، يفرض شكلاً من الفعل والعمل الّذي يستلزم توفير قاعدة الحدّ الأدنى من العقليَّة القادرة على التعاطي مع معطيات المشروع. وقد ذهب الكثير من المجدِّدين الأوائل إلى التركيز على الحسّ الدينيّ الّذي يثير روح العزّة والكرامة عند المسلمين، لخلق حركة جماهيريّة متعاطفة مع المشروع التجديديّ. وبالرّغم من ذلك، تبقى هذه الأدوات في حشد القوى المتعاطفة قاصرةً عن المساندة حال دخول المشروع أبعاده التصحيحيّة المتعلِّقة بالمأنوسات والمألوفات عند الطبقة العريضة من الجماهير. وذلك ما أشار إليه بشكل واضح الدكتور عبدالكريم سروش، في معرض تحليله للحركة الإصلاحيَّة للسيّد جمال الدين الأفغاني، فقال: "لقد أصبح أكثر قناعةً وإصراراً لدى المصلحين الدّينيّين، أنَّ الإدراك الصّحيح للدّين، وتبليغه السّليم للجماهير، هو المسار الذي يعزِّز من حركتهم. لقد خطَّ هذا المنهج الفكريَّ كلٌّ من محمد عبده وشريعتي وإقبال، الَّذي واجه شيئاً فشيئاً الصّعاب والعقبات. إنَّ الحركة السياسية وما قد يترتَّب عليها من نصر سياسيّ أكثر وضوحاً للعيان ووقعاً على النّفوس، إلا أنَّ الحركة الفكريّة لا تتمتَّع بذات الواقع، ولا ذلك الوضوح"، "إنَّ أصعب الصّعاب في المجتمعات الدينيَّة، هو البيان المستند إلى التّحقيق العلميّ والدّراية الدينيّة. ويواجه المفكِّرون الكثير من القيود المعيقة لحركتهم، لأنَّ الإيمان القائم على التَّحقيق واليقين في هذه المجتمعات غاية في الصعوبة، على عكس ما يناله التديّن التقليدي من اليسر والسهولة، لأنَّ التّحقيق بين المقلِّدين عقبة كؤود".
وهكذا، فإنَّ مسار الحركة التجديديّة يتمثَّل في مقاربتها للواقع، من خلال ما تؤسِّسه من طبقة واعية مؤمنة لمعطياتها، وما تحقِّقه من نصرٍ في هذا الجانب يمهّد لمشروعيَّتها ويؤسِّس لتجذّرها.