QR codeQR code

تطور الحياة.. وضرورة الاجتهاد - القسم الاول -

4 Aug 2010 ساعة 16:25

لابد أن نعترف بأن الفكر الإسلامي قد اعتراه بعض صور القصور بفعل أسباب وظروف عديدة، مما جعل البعض يقول بإقفال باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي لفترة طالت لبعض الوقت، وترتب عليها أن أصبح فقهنا وفكرنا شرحا على المتون تارة، وتكرارا للمكتوب في عصور سابقة تارة أخرى وهكذا.


وكالة انباء التقريب (تنا) :

مدخل: 
التطور والتجديد سنة من سنن الحياة، لا يمكن أن تستمر بسلام إلا إذا تحقق بشكل مستمر، لذا فإن المجتمعات المتقدمة لديها دائما من يقوم بالتجديد فيها في مختلف الهيئات، بل إنها صارت وظيفة مؤسسية في هذه المجتمعات، وعلى سبيل المثال، فإن الجامعات تعقد مؤتمرا سنويا للتقويم والتجديد في نفس الوقت، يعقد هذا المؤتمر في كل قسم وفي كل كلية وفي كل جامعة، ويكون الباب مفتوحا أمام جميع أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم لإبداء الرأي ووضع المقترحات الكفيلة بتجديد المناهج والبرامج وأساليب العمل في الجامعات، وهدف هذه المؤتمرات السنوية هو تحسين العمل الجامعي وتجديده ليلائم حاجات العصر ومقتضيات التطور والتقدم في المجال العلمي.
ونجد لدى كل الشركات المنتجة للسلع والخدمات "مكاتب علمية" تعني بجودة المنتج وتطويره دائما إلى الأفضل، لذا ففي شركات الحاسب الآلي على سبيل المثال لا يكاد يمر يوم دون أن تجد هناك تجديدا في تكوين الحاسب أو في البرامج التي تستخدم فيه، ويتم ذلك عادة بمساعدة الجامعات والمؤسسات العلمية في مختلف الدول.
وفي كل مجتمع اليوم توجد مجالس تشريعية وتنفيذية، والمجالس التشريعية تقوم بعدة وظائف مرتبطة بوظائف التشريع نفسه وأهمها تنظيم العلاقات الاجتماعية وتطويرها، ووظيفة تنظيم الحياة الاجتماعية واضحة وضرورية، فدائما هناك حاجات جديدة تحتاج إلى تناولها بالتنظيم ويكون من أغراض التشريع دائما تطوير المراكز وتجديدها وتحسين أدائها، ومن ينظر في جدول أعمال مجلس الشعب عندنا يجد العديد من المشكلات المعروضة عليه، منها مشروعات لقوانين جديدة لتنظيم مشكلات جديدة مثل مشروع القانون الذي ينظم الثروة العقارية وضرورة الحفاظ عليها، ومشروع القانون الذي يحاول تنظيم أعمال البناء، وذلك الذي يعالج زراعة ونقل الأعضاء البشرية، وهذا الذي يهتم بمعالجة ظاهرة الإرهاب، وذاك الذي ينظر ويتابع كل ما يجد من مشكلات ويضع تصورا لحلها.
وإذا ما نظرنا إلى الفكر الإسلامي، فإننا نجده يخضع لنفس الأسس، فالفكر ظاهرة تشتمل على تراث الأمة والفلسفات المكونة له، والأسس التي يتخذ منها أصوله، وهي ظاهرة مرتبطة بكل مجتمع. ولما كان الدين الإسلامي هو آخر الأديان، ويقوم على أصول ومنطلقات ثابتة فقد وجد في مجتمعات عديدة، يبلغ عدد من يعتنقون الإسلام، قرابة المليار ونصف أي حوالي خُمس سكان العالم، وسوف نجد مساحة هذا الفكر واسعة، ولا يمكن أن يخرج عن القواعد التي تحكم كافة ظواهر الحياة وأعني بها التطور والتجدد لأن التجديد في فهم الدين والاجتهاد ضرورة للتأكيد على أن الإسلام دين صالح للتطبيق والتجديد والتطور؛ فهو يقوم في أحكامه على الحركة في إطار الثوابت.
لقد عاش الإسلام الآن ما يقرب من خمسة عشر قرنا وكان أتباعه في البداية قلة، ولكن عددهم زاد الآن زيادة كبيرة، والتغيرات التي مرت بالحياة في هذه الحقبة من الزمن كثيرة وعميقة في نفس الوقت، مما يؤثر بشكل أو بآخر على الفكر الإسلامي.
وللفكر الإسلامي مصادر يستمد منها أحكامه وهي القرآن الكريم والسنة النبوية ثم اجتهادات الفقهاء والمفكرين التي تستمد منها، كما أن هذا الفكر انطوى على مدارس فقهية وفلسفية ومعلوماتية عديدة لم تجمد في أي مرحلة من مراحل الزمن ولم تقف أبدا عند محطة من محطات التاريخ العديدة.
ومع ذلك فلابد أن نعترف بأن الفكر الإسلامي قد اعتراه بعض صور القصور بفعل أسباب وظروف عديدة، مما جعل البعض يقول بإقفال باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي لفترة طالت لبعض الوقت، وترتب عليها أن أصبح فقهنا وفكرنا شرحا على المتون تارة، وتكرارا للمكتوب في عصور سابقة تارة أخرى وهكذا.
ولكن المجتمعات الإسلامية بدأت تصحو وتستيقظ، وهذه الصحوة بدأت نتيجة لإعادة الدين إلى حياة المسلمين، وإن أخطأ البعض في الاجتهاد مما أوجد أكثر من اتجاه في تحديد التجديد المطلوب.
لا شك في الأهمية الفائقة للتجديد والاجتهاد في مختلف شئون الحياة، وفي مجال الدراسات الإسلامية سواء ذات الطابع الفكري أو الفلسفي بشكل عام ، أو في مجال الدراسات ذات الطابع الفقهي.

خصائص النظام القانوني الإسلامي المعاصر

١ - الفقه الإسلامي:
من المُسلـَّم به أن الإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة تنظم العلاقة بين الإنسان وخالقه وتتصل بشكل عام بأسس الإسلام وما يقوم عليه من أركان مثل الشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، ثم تبحث في الإيمان وأسسه، أي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان بالساعة وبأن الإنسان سينتقل من حياة مؤقتة إلي حياة دائمة.
أما الشريعة فتتمثل في الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لتنظم علاقة الإنسان بمجتمعه بشكل عام، فهي أحكام تحيط بأفعال الناس وتنظمها، وبالذات من حيث بيان ما يحل من الأمور وما يحرم، وما هو مندوب وما هو مكروه، ثم ما هو مباح... إلخ.
فما يميز المسلم عن غيره، هو اعتقاده بأن الله - سبحانه وتعالي - له حكم في كل فعل من أفعال العباد، ومن ثم فإن فقهاء المسلمين قد بذلوا جهودا كبيرة لإظهار أحكام الشارع في مختلف المشكلات والقضايا والأفعال والأقوال التي يقوم بها العباد، وتكون من ذلك مذاهب الفقه الإسلامي المعروفة، ومنها مذاهب أربعة سنية (المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي والحنبلي)، ومنها مذاهب شيعية عديدة من أهمها: المذهب الجعفري والمذهب الزيدي. وتكون من ذلك كله الفقه الإسلامي.
وهذا الفقه يتميز بخصائص معينة، كما أنه يستقي أحكامه من مصادر محددة تختلف عن سائر القوانين الأخري، وكذا يستمد قوته الملزمة من أوامر الشارع.

٢ - القانون الإسلامي: 
والواقع أن استخدام مصطلح القانون الإسلامي هو استخدام جديد، إذ إن المسائل التي تعالجها القوانين الوضعية الآن قـد عولجت جميعها تحت مصطلح الفقه الإسلامي، والشريعة الإسلامية وإن كانت مقدسة وتهتم أساسًا بالقواعد الكلية، غير أن الفقه باعتباره شارحًا للشريعة نصًا ومفهومًا يتسع مجاله لتناول جميع التفصيلات، ولا يقف عند الكليات. ونستطيع أن نقرر أن الفقه الإسلامي قد تولد منه القانون الإسلامي وهو يعني الاتجاه الحديث لتقنين الفقه وجعله صالح للتطبيق السهل والمباشر علي واقع الحياة.
وهدفنا هو طرح المشكلات الرئيسية التي يثيرها تطبيق أحكام الشريعة في عصرنا الحاضر؛ لأن هذا التطبيق، هو أمل المسلمين جميعًا وفي كل مكان.
إن مسيرة الفقه الإسلامي توضح إلي أي مدي كان هذا الفقه ناضجًا، ومتطورًا، ويحيط بحياة الناس، وبأنشطتهم ويقدم الحلول الواقعية، مستندًا إلي القرآن والسنة، ومستخدمًا العقل وأدوات علمية ترتكز علي الفهم الواعي والمنطق السليم.

الطابع الديني للنظام القانوني الإسلامي:
معلومٌ أن القانون الإسلامي هو قانون ذو طابع ديني. ويعني هذا أن الفقيه وولي الأمر وكل من له دور في ظل النظام القانوني الإسلامي إنما يسعي إلي إيجـاد حكم الله سبحانه وتعالي في المشاكل والمسائل التي تعرض للنـاس في حياتهم. وهو يسعي إلي بيان هذا الحكم من القرآن الكريم أولاً، فإذا لم يجد فمن السنة، فإن لم يجد فعليه أن يجتهد برأيه مستندًا إلي هذين المصدرين الرئيسين للشريعة. فالبرغم من أن الفقه الإسلامي هو صناعة بشرية؛ لأن الإنسان هو الذي يقوم بتفسير نصوص الوحي الإلهي، غير أن الفقيه والمقنن في المجتمع المسلم يلتزم منهجًا في الاجتهاد ويعتمد أساسًا علي مصدري الشريعة الرئيسين (الكتاب والسنة). ومن هنا جاء الطابع الديني للنظام القانوني الإسلامي.
ومع ذلك فبالرغم من أن الفقيه يجتهد وفقًا لمعايير علم أصول الفقه، فهو وإن كان ما يقوله عملية بشرية غير أن اجتهاده يختلف عن اجتهاد الفقيه القانوني، لذا تعددت آراء الفقهاء في المسألة الواحدة. علي خلاف الاجتهاد القانوني الذي يقوم بعملية عقلية صرفة، بينما كل فقيه يستند إلي حجة ويستند إلي مصادر الشريعة وأدلتها.
إن الفقه الإسلامي هو العلم المتعلق باستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. فهو علم يعتمد علي التفسير والاجتهاد المنظم.
إن احترام الشريعة وتطبيقها السليم هو الغاية، والفقه هو الوسيلة.

ويميز الفقهاء بين نوعين من أنواع الأحكام الشرعية:
النوع الأول: هي الأحكام الثابتة بأدلة مباشرة في نصوص الكتاب والسنة ذات الدلالة الصريحة علي الأحكام، وتشمل أحكامًا كلية تعتبر أساس الشريعة، وهي وإن كانت محصورة عددًا، غير أنها لا تتناول التفاصيل.
النوع الثاني: فيتمثل في الأحكام التي لا توجد لها نصوص مباشرة في الكتاب أو السنة، وإنما عملت فيها عقول الفقهاء استنباطا واجتهادا من أدلة غير مباشرة في الكتاب والسنة، أو عن طريق القياس أو الاستصحاب أو رعاية للعرف والمصالح المرسلة بأنواعها... إلخ، وهذا المجال هو مجال عمل الفقه.
والأحكام المتصلة بالنوع الأول تطابق الشريعة، أما الأحكام الخاصة بالنوع الثاني فهي تتصل بفهم الناس للشريعة وتتسم بتعددية الرأي .
لذا فلا يوجد تطابق بين الفقه والقانون الإسلامي والشريعة، وإنما يحاول المجتهد أن يصل إلي حكم الشرع في المسألة، وإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد. ولا يستطيع أحد الفقهاء أن يدعي أنه ينطق بحكم السماء بلا خلاف، ولا ينفي ذلك الطابع الديني للأحكام الشرعية، أن الفقيه ليس حرا في أن يتبني الرأي الذي يراه بنفسه علي أساس المصلحة العامة أو علي أساس المنطق، وإنما عليه أن يبني حكمه علي مصدر من مصادر الشريعة وهذا ما يميز أحكام القانون الإسلامي عن أحكام القوانين الوضعية التي لا تهتم بالنقل، ولا تهتم بالوحي، وإنما تبني الأحكام علي أسس أخري، قد تدخل في اعتبار الفقيه والمجتهد في الإسلام، ولكن لا يجوز له أن يعتمد عليها وحدها.
والقانون الوضعي يهتم بما تسير عليه العلاقات في الواقع ويستخرج القواعد مـن تطبيق المجتمعات لها، أما القانون الإسلامي فيعتمد علي مبادئ وقواعد أنزلها الله سبحانه وتعالي علي نبيه. لذا فهي ملزمة. لكن لأن البشر هم الذين يفهمونها ويفسرونها بعقولهم، فإن الأحكام العملية والاجتهادية في الفروع لا تحوز صفة القداسة، وبالتالي يمكن أن تتغير من عصر إلي عصر، ومن مكان إلي مكان، وتسير- خاصة في المعاملات - علي علل وحكم واضحة إذا تغيرت العلة فيها تغير الحكم الشرعي، لذا قيل بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
ولا شك أن هذه المسائل تحتاج إلي إيضاح أكثر نعرضه فيما يلي من صفحات البحث.

قوة الإلزام للأحكام الشرعية:
لا أريد أن أدخل في الجدل الذي دار حول طبيعة القانون بشكل عام، وهل هو يمثل مبادئ عامة مجردة لا تختلف كثيرا من مجتمع إلي آخر، أي قواعد عامة سرمدية خالدة كما تقول مدرسة القانون الطبيعي، أم يمثل أحكاماً تولدها الأحداث وتحيط بالحياة الاجتماعية لضبطها في كل مجتمع، أم هي قواعد ومبادئ خالصة ترتبط ببعضها البعض وترتد جميعها إلي قاعدة أعلي كما تقول المدرسة القاعدية. وأستطيع أن أقول إن جانبًا كبيرًا مـن هذه القواعد تشملها أحكام الإسلام المتمثلة في الأوامر التي نزلت من السماء لتحكم الإنسان في علاقاته الاجتماعية بمختلف صورها.
إن جانبًا كبيرًا مـن القانون الإسلامي يمثل قواعد آمرةJus Cognes أمرنا الله سبحانه وتعالي' في قرآنه الكـريم وفي سنة نبيه صلي الله عليه وسلم أن نتبعها، لكن يبقي الكثير من هذه الأوامر والنواهي مصاغًا في كليات ومن ثم تحتاج دائمًا إلي عمليات تفسير.
ونستطيع القول بأن أساس  التزام الناس بالأحكام الشرعية في تصرفاتهم، ترجع إلي أن هذه الأحكام تعبر عن إرادة الله وأوامره إليهم، يقول الله تعالي':( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: ٦٧]، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:٤٤]، (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً)[النساء: ١٠٥].
وقُرِنَ اتباع أحكام الشريعة بالإيمان في قوله تعالي': (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء:٦٥]، (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء:٥٩]
ويقول سبحانه وتعالي': (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: ٧].
وهكذا نجد أن القاعدة الشرعية قاعدة ملزمة لأنها أوامر الله سبحانه وتعالي' إلي المؤمنين والتي يشترط اتباعها لتحقق وصف الإيمان.
ولكن لا يعني ذلك أن الشريعة تأخذ بالاتجاه الوضعي، بل العكس هو الصحيح. فالشريعة لا تربط القاعدة الشرعية بإرادة السلطة الحاكمة؛ وإنما إرادة الله سبحانه وتعالي، كما أن بعض مدارس القانون الطبيعي متأثرة بالفقه الإسلامي، إذ تري القانون تعبيرا عن إرادة إلهية سرمدية خالدة .
وقد سبق أن رأينا أن في ارتباط مختلف جوانب الإيمان بالقواعد التشريعية ما يضفي علي القاعدة الشرعية قوة خاصة باعتبارها نابعة من اعتقاد الإنسان وإرادته طاعة الله عند الأخذ بها.
ومع ذلك فإن البشر يقومون بتفسير النصوص، وتوسع الفقهاء علي مر العصور في فهمـها والبناء عليها، وفي مختلف الأزمنة والأماكن التي دخلها الإسلام وعاشت علي قواعده.
فعندما يقول المولي في كتابه الكريم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى)[البقرة:١٧٨]. فلابد أن يعرف معني القصاص علي وجه التحديد، وهل يختلف مـن حالة إلي حالة؟ وكيف ينفذ القصاص؟ وما شروط تطبيقه؟ وما حكم القتل الخطأ أو الضرب الذي أفضي إلي مـوت إلي آخـر هـذه القضايا، والقضايا الأخري العديدة التي يثيرها معرفة المعـني الدقيق لهذا النص والأحكـام التي يتضمنها. وعندما يقول القرآن الكريم: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا)[المائدة: ٣٨]، نجد أن الفقه الإسلامي قد وضع شروطًا عديدة تتصل بتطبيق هذا الحكم أيضًا، فمن السارق؟ وما الشروط التي يجب أن تتوافر فيه؟ وما السرقة؟ وكيف تكيف الجريمة في الإسلام؟
لقد استقر الفقهاء علي وضع ضوابط شديدة لتطبيق هذا الحد، من حيث تقدير ما يعتبر سرقة أومن حيث إثبات الجريمة. إن جريمة السرقة لكي تقوم اشترط الفقهاء في المسروق:
- أن يبلغ نِصَابا (أي مبلغا معينا من المال) لابد أن يختلف باختلاف العصور، لكن الحد الشديد - قطع اليد - لا يمكن أن يطبَّق إذا كان المسروق مالاً يسيرا.
- وأن يكون في حرز مغلق حتي لا يحمل الشخص العادي وزرًا نتيجة إهمال من لا يحافظون علي أموالهم.
- وهناك شروط أخري من أهمها كذلك ألا تكون هناك شبهه ملكية للمال لدي من يسرق.
ولعل من أهم ضوابط تطبيق هذا الحد، هو ألا يحتاج السارق إلي المال المسروق ليسد رمقه .
وهكذا نجد أنه ولو أن الأحكام التي يتشكل منها الفقه الإسلامي قـد نزلت من السماء، إلا أنها لابد أن تُفسَّر تفسيرا بشريا؛ لذا إذا اكتسبت صفة التقديس في أصولها المباشرة والكلية، إلا أننا لا يمكن أن نضفي هذه الصفة علي عمليات التفسير التي تُعد عملا بشريا يختلف من مفسر إلي مفسر، ومن فقيه إلي آخر. وقد أدي ذلك إلي قيام حركة فقهية وعلمية كبيرة ميزت القانون الإسلامي. فلقد وُلِدتْ مدارس للفقه اختلفت فيما أتت به من أحكام وفقا لاختلاف ظروف الزمان والمكان والتركيب الفكري والديني للفقيه والمفسِّر، وهذا يفسر بأن هناك دائما اجتهادات فقهية، وتجديد فكري لجعل النصوص تطبق بسهولة علي وقائع الحياة المتجددة دائما والمتغيرة دائما. وظل الفقه الإسلامي يحكم المشكلات التي تثور للناس في حياتهم التي تتطور من عام إلي عام. وكان من الطبيعي أن تختلف الحلول، ومن ثم كانت عندنا أكثر من مدرسة للفقه الإسلامي.
إن النصوص الظنية التي تحتمل أكثر من معني قد جاءت في الأحكـام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، وهذه يجتهد فيها العلماء في ضوء القواعد الكلية ومقاصد الشريعة لاستخراج الأحكام الجزئية التي تلائم زمنهم وبيئتهم، وتناسب عاداتهم وأحوالهم، وفيها يكون الاختلاف باختلاف طرائق الاستدلال، ولا يؤدي هذا الاختلاف إلي ضرر أو مفسدة ما دامت مسائل الدين الأساسية، (الاعتقادية والعملية) موضع اتفاق، تجتمع عليها الأمة، بل في الاختلاف بالجزئيـات وتعدد الآراء في حكمها ما فيه يسر، إذ يتيح هذا لولي الأمر أن يختار منها ما يحقق مصالح الناس، ويتفق مع ما تتطلبه حياتهم، ويرفع عنهم الضيق والحرج، وهي التي كانت مصدر ثروة تشريعية عظيمة، وتراث فقهي رائع، يستوعب ما يجد للناس من أقضية، في ظل شريعة الإسلام الخالدة، وما كان لنصوص الشريعة القطعية المتناهية أن تحكم ألوان النشاط البشري المتجدد الذي لا ينتهي، ولو جاءت أدلة الأحكام كلها قطعية، لكان في هذا حجر علي العقول، وجمود في التفكير، وحرج شديد يقف الناس أمامه عاجزين عن معرفة أحكام المسائل المتجددة في كل عصر.
وقد اكتسبت الشريعة الإسلامية بأدلتها الظنية مرونة كثيرة، إذ أتاحت للعلماء المجتهدين أن ينظروا فيها، وأن يستنبطوا الأحكام التي تتفق مع المصالح المعتبرة شرعاً بما يناسب البيئة والزمان، وهذا هو الذي أدي إلي اختلاف الفقهاء، فكان في اختلافهم سعة علي الأمة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: " ما يسرني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لأنهـم إذا اجتمعوا علي قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة " .
ومع ذلك، ولكي يكون هذا الخلاف محكوما؛ فقد اجتهد العلماء في وضع مقاييس يلتزم الفقيه بالرجوع إليها، ووضع الفقهاء علم أصول الفقه، هذا العلم الذي يمكن أن نقول عنه إنه علم المصادر والأدلة للفقه الإسلامي، فهو يوضح المصادر التي يجب الرجوع إليها في معرفة المبادئ والقواعد، أو بالتعبير الاصطلاحي، الحكم الشرعي، كما يضع الوسائل التي تعين علي استنباط الحكم الشرعي أو بمصطلح حديث الآليات التي تُوصِّل إلي هذا الحكم. ونجد الأصوليين يتوسعون في شرح معني القياس وكيفية تطبيقه، والاستصحاب والاستحسان، وسد الذرائع والمصالح المرسلة. وأنتج الفقهاء والأصوليون معا ما يعرف اصطلاحا بالقواعد الفقهيه، كقاعدة لا ضرر ولا ضرار والمشقة تجلب التيسير، والضرر الأقل ُيتحمل لدفع الضرر الأكبر والأمور بمقاصدها … إلخ.
واستنبط الأصوليون كذلك نظرية المصالح، ومقاصد الشريعة، وهذه المقاصد هي بمثابة المرشد العام للفقيه وللأصولي أيضا، يجب أن يسترشد بها دائما عند قيامه بالتفسير ومحاولاته وضع الحلول. ومن هذه المقاصد مثلا رفع الحرج وإصلاح الناس وتدعيم الخير في المجتمع والتيسير علي الناس في أمور حياتهم. كما تستهدف الشريعة دائما تحقيق العدالة، وبث مكارم الأخلاق للجماعة المسلمة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا. وتراعي الشريعة في هذا الشأن أيضا إيجاد التنظيم الذي يساعد علي رعاية الأسـرة وضبط إيقاع المجتمع بها وجعلها الخلية الأولي للحياة الاجتماعية في الإسلام.
إن الدراسات حول مقاصد الشريعة تعد من أهم الدراسات التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار ونحن نتحدث عن الفقه والقانون الإسلامي. كما اجتهد علماء الأصول في بيان العلل والحكم التي بنيت عليها أحكام التشريع الإسلامي، وردها بشكل عام إلي تحقيق المصالح المادية والمعنوية للناس وتحقيق العدالة، وتطبيق الأخلاق، وإعطاء كل ذي حق حقه في المعاملات... إلخ. وتكونت نظرية كاملة للمصالح اعتبرت أن معظم أحكام المعاملات أُقيمت لتحقيق هذه المصالح.
إن الله سبحانه وتعالي شرع أحكامه لهداية الناس وتحقيق السلام والمحبة بينهم، وحثهم علي التكافل الاجتماعي الذي يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعا قويا بالترابط بين أشخاصه.
لذلك سنتحدث أيضا فيما يتصل بحكمة التشريعات الإسلامية باعتبارها أساس الاجتهاد والتجديد في المبحث الثاني..


الحكم التي يقوم عليها التشريع الإسلامي
مما لا شك فيه أن من أهم وسائل التجديد والاجتهاد في الفقه الإسلامي، معرفة أسباب التشريعات، وهذه الأسباب يطلق عليها الأصوليون العلل والحكم. والحكم الشرعي يدور مع علته وجودا وعدما، لذا فإن معرفة العلة ركن أساس في الاجتهاد وتستخدم بسعة في مباحث القياس علي وجه الخصوص.
أما الحكم فهي أسباب تقل في درجة الاعتماد عليها من العلل. وسنحاول في هذا المبحث الوصول إلي الحكم العامة التي تنبني عليها الأحكام والتشريعات في الفقه الإسلامي.
ولا شك أن كتاب الله هو معجزة الإسلام الكبري، بل هو معجزة الحياة كلها بما تضمنه من أحكام خالدة، ومبادئ سامية لا يتقادم عليها عهد، ولا يذهب قيمتها تطور. إنها الأحكام التي وضعها خالق الكون لتحكم الحقبة الأخيرة من حياة الإنسان، لذا فهي دائما متجددة، قادرة علي احتواء كل ما ينتجه الإنسان العصري من علوم ومعارف، وبحوث وكشوف واختراعات .
ونعني بالاحتواء هنا تنويه القرآن الكريم وإشاراته إلي كافة وجوه هذا النشاط الإنساني الخلاق، والتنبؤ به قبل أن يحدث وفي كافة المجالات.
ورحلة الإنسان مع التشريعات التي تصلح لحياته وتستقيم أموره بها رحلة طويلة بدأت مع بداية خلقه، وسوف تستمر إلي نهايته، فلا مجتمع بلا قانون يحكمه، ولا لزوم للقانون إن لم يكن هناك مجتمع.
علي أن الإنسان رغم تزايد إدراكه، ووصوله إلي مراحل كبيرة من العلوم والتقدم لا نراه قد وصل إلي الطريق الصحيح في مجال التشريع، ولا تلبث خطواته أن تتقدم في هذا الاتجاه حتي تعود القهقري إلي حالة من التأخر والإخفاق. نقول ذلك بسبب التردي الشديد في تشريعات بعض الدول عن بلوغ الأسس الأخلاقية التي ينبغي أن تُقام عليها صروح المجتمعات. فتحت تأثير دعاوي الحرية، نجد أن العقال قد أطلق لشهوات البشر لتتحدي النظام والأخلاق ولتهوي بالإنسان إلي هوة سحيقة من الرذيلة وسوء الأخلاق. وهل نقول إن حرية المرأة الكاملة في بعض المجتمعات الإسلامية نموذج لذلك؟ هل نقول إن التردي في هذا المجال قد وصل إلي حد مُخيف ينذر بالخطر للمجتمعات الغربية بشكل عام؟ هل نذكر أيضا الشذوذ الجنسي وكيف استطاعت أغلبية في دولة عريقة مثل بريطانيا أن تقرر إباحته رغم المرض الخطير الذي بات يهدد الناس في كل مكان من جراء إباحة مثل هذه العلاقات "الإيدز"؟ كذلك تستطيع المجالس النيابية في مختلف الدول أن تضع أي تشريع أو تُجري أي تعديل علي تشريع قائم، والمقياس في ذلك ما تراه هي محققا للصالح العام، دون قيود. ولا يمكن أن نقول أن ما تأتي به هذه المجالس يحقق الصالح العام دائما، لذا فإن الإعجاز القرآني يبدو واضحا من هذه الزاوية.
إن الشارع هو الله، ويجب أن تحكم المجتمعات الإنسانية بما أنزله من أحكام وما سنَّه من تشريعات حتي نتخلص من حقبة الحكم بالأهواء. ونجد معالجة حاسمة لهذه المسألة في القرآن الكريم في قوله تعالي': (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: ٤٧-٤٩].
فمن حق المجالس أن تُشرِّع وأن تضع الأحكام التي تصلح للمجتمعات، ولكنها ليست مطلقة الحق في أن تضع ما تشاء من الأحكام وإنما هي مقيدة، ليس فقط بما لا يتعارض مع الشريعة كما يصرح المسئولون في مصر في بعض الآونة، وإنما أيضا لابد أن تكون هذه المصلحة متمشية مع جوهر الدين الإسلامي مما ورد في نصوصه وأحكامه وما تم الاتفاق علي أنه يحقق المصالح المعتبرة للناس.
ومن هنا تبدو الأهمية الفائقة لفهم الحكمة من كل تشريع إسلامي حتي نصل إلي السمات العامة التي تهيمن عليه، والتي ينبغي علي المشرِّع أن يرجع إليها ويقيس عليها المصالح التي يريد اعتبارها أو تلك التي يريد إلغاءها.
إن صيغة الأمر والنهي صيغة بغيضة علي الناس، لا يحبونها عادة؛ لذا فإن اقتران الأمر بما يستوجبه من حكمة مسألة ضرورية في عصر الحريات، وفي عصر نما فيه الإدراك الإنساني ووصل فيه التمسك بالحرية إلي مدي بعيد.
والله خالق العباد، ويعلم طبيعتهم وما فُطروا عليه من عناد، لذا فإنه ما أنزل حكما إلا وله حكمة، وما وضع مبدأ إلا ووراءه مصلحة، وما شرع من قواعد إلا وقد بين فائدتها للخلق، وما يترتب علي إهمالها من أضرار.
إنه وجه كبير من وجوه الإعجاز أن نرى آيات الأحكام ترتبط في العادة بالحكمة من تشريعها، والغريب أن القرآن الكريم يفعل ذلك حتي في التشريعات المتصلة بالعبادة والتي تعتبر حكمتها وغايتها التقرب من الله وعبادته، ولكنه ينبِّه الناس إلي فوائد دنيوية وأخروية عالية لتشريع العبادات. ويفعل ذلك بشكل أكثر تفصيلا في التشريعات المتصلة بالمعاملات، أي التي تُنظـِّم علاقات الأفراد مع بعضهم وهي الأمور التي تُعني بها التشريعات الحديثة، إلي الحد الذي جعل الحكم يدور مع علته - وهي سبب وجوده - وجودا وعدما.
وهناك آيات جليلة تشرح الحكمة العامة من التشريعات الإسلامية فضلا عن أن الآيات المختلفة في نطاق ما تشرعه من أحكام، تذكر الحكمة من ورائهـا في الغالب. وهكذا يمكن ببساطه أن نتكلم عن كل تشريع، ونبحث عن الحكمة من ورائه. ففي مجال العبادات نستطيع أن نتحدث عن حكمة الصلاة كما تبدو من الكثير من الآيات وهي النهي عن الفحشاء والمنكر.
ونستطيع كذلك أن نتحدث عن حكمة الصيام وهي بث التقوي في النفوس وتُعوّدُ الصبر، وحكمة الزكاة طهارة النفس والقضاء علي ظاهرة الفقر، إلي غير ذلك من الأمور، وهي بالفعل أمور تستحق التوقف عندها، ففي كل عبادة حكمة أو حكم بالغة يحتاج الناس دائما إلي الوقوف عندها والاستفادة منها في الدين والدنيا.
كذلك يمكن تناول الحكمة من التشريعات المتعلقة بالمعاملات، فتحريم الخمر والميسر يرجع لما فيها من الإثم، فضلا عن تلافي كيد الشيطان الذي يريد أن يوقع الناس في العداوة والبغضاء، وهي أمور واضحة جلية نشهدها في حياة من استباحوا هذه الأمور فجعلتهم أسري أهوائهم، يرتكبون أشد أنواع الجرائم بسببها.
كذلك في العقود والعهود وفاء، وهو ما يتمشي مع متانة الروابط وحسن الخلق ونجد القرآن الكريم يشبِّه من ينقض عهده بمن تنقض غزلها الذي تعبت فيه، وفي القصاص حياة، وفي تطبيق كل حد حكمة ظاهرة، وإن كان القرآن يتحدي هنا بجميع آيات الحدود موضحا أنها جاءت لمنع الاعتداء علي الجماعة التي يترتب علي المساس بها أضرار بالمجتمع الإسلامي كله، ومن ثم يضع لها عقوبات رادعة وزاجرة لهذه الجرائم تكفل البعد عنها، والخوف من الاقتراب منها.
فحد القذف، يواجه من يحبون أن تشيع الفاحشة في الأمة بما يترتب علي ذلك من هوان الجماعة وشيوع الفساد فيها، وحد الزنا يواجه الخيانة من الزوجة أو الزوج واختلاط الأنساب وهي قيمة جماعية تحرص أية جماعة علي صيانتها، وحد الحرابة يستهدف هؤلاء الأشرار الذين ينقضُّون علي الجماعة، يسلبون وينهبون ويقتلون ويروعون الآمنين. وحد الشرب، يحمي من يضيعون عقولهم ويهيئّون أنفسهم لارتكاب الجرائم غير عابئين بالمجتمع وبأعراض الناس، وهكذا نجد وجه التحدي هنا ظاهرا، فالحدود تمثل جرائم واقعة علي فرد واحد، إلا أنها لتأثيرها البالغ علي الجماعة حرمها الله وأضفي عليها صفة جماعية. ولعل ما يمثل هذا الطابع أبلغ تمثيل قوله تعالي': (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)[المائدة:٣٢].
ولا نستهدف في هذه الأوراق التعرض لكل حكمة من حكم التشريعات الإسلامية، فهذا مما يحتاج إلي دراسات واسعة تعطي هذه المسألة حقها وأن ما سوف نهتم بإبرازه هنا الحكم العامة وراء التشريعات الإسلامية، والسمة العامة للتشريع الإسلامي، أو بعبارة أخري فلسفة التشريع الإسلامي، والدعائم التي يقوم عليها. ويستدعي ذلك أن نقوم بدراسة استقرائية تُستخلص من حكم مختلف التشريعات، الحكمة العامة التي تهيمن علي التشريع الإسلامي وهناك بلا شك آيات بينات في هذا المجال، يتكامل الإيضاح الذي تُورده مع الإيضاح الذي يتبين من تناول الحكمة من وراء مختلف الأنظمة والتشريعات الإسلامية.
ودون أن ندَّعي أن هذه الدراسة تُجيب علي هذه المسائل الواسعة نستطيع القول بوجود محاور رئيسة تدور حولها التشريعات الإسلامية، سيقتصر همنا في هذا الفصل علي التناول السريع لها بالقدر الذي يكفي لإعطاء صورة واضحة للحكمة من وراء معظم هذه التشريعات، وستكون خطوة نرجو الله أن يوفقنا لأن نُتْبعها بخطوات أخري في هذا الطريق.
وبتحليل الحكم العامة للتشريع الإسلامي نجدها ثلاث حكم أساسية هي:
١ - العدالة. ٢ - المصلحة.
٣ - حسن الخلق.
وسنعرض لهذه الحكم بشيء من الإيضاح.

١ - العدالة والتشريعات الإسلامية
دور العدالة في صناعة القاعدة القانونية:
تُعتبر العدالة مقصدا عاما لكافة التشريعات التي يضعها الإنسان لحكم العلاقات الاجتماعية، وحكمة رئيسية تدور حولها مختلف القوانين.
لذا يقال بأن أي قانون لابد أن يعتمد علي شيء من العدالة، ونجد أن أجهزة تطبيق القانون تسمي بأجهزة العدالة، فيقال عن المحاكم أنها دور العدالة، ويقال وزير العدل ولا يقال وزير القانون، وإذا كانت المحاكم تطبق القانون إلا أن هدفها هو تحقيق العدالة، ومن هنا فإن القانون ليس في النهاية إلا وسيلة لتحقيق العدالة، وإذا حدث أن التطبيق القانوني قد تجافي مع العدالة لسبب أو لآخر، فيجب أن يقوم القاضي بالتدخل لتخفيف وطأة الحكم القانوني أو لتكملة النقص فيه أو لطرحه في بعض الأحيان، ووضع الحل الذي يتفق مع العدالة.
وهكذا نجد أن فكرة العدالة تمارس دورًا مهمًا في نشأة القاعدة القانونية وتطبيقها في مختلف الدول. إنها الفكرة التي كانت - ولا تزال - تحكم العلاقة بين المعتدي والمُعتَدَي عليه، والآباء والأبناء، والحاكم والمحكوم... إلخ.. وسبب سيطرة فكرة العدالة علي النظام القانوني هي أنها تهدف إلي تحقيق المساواة التامة بين الناس، وإلي إقامة التعادل بين ما يأخذون وما يعطون. إنها الفكرة التي تقضي أن يحترِمَ الشخص كلمته وأن ينفِّذَ عهده بحسن نية، وأن يبتعد عن الغش والخداع في التعامل مع الناس، وأن يعوِّض الغير عما يلحقه من ضرر، ويقال عادة - ولهذه الأسباب - أن العدالة هي الأم التي ولدت القانون.
وإذا كانت العدالة ليست مصدرا أصليا للتشريع في مختلف الدول، إلا أنها - بلا أدني شك - مصدر مادي يسمح بأن تتولد عنه أسس مباشرة تدخل فيه، وهو ما يفعله المُشرِّع العاقل عندما يستنبط قواعد قانونية من فكرة العدالة أو من الإحساس بها، فلا ريب أن الإحساس بما هو عادل وما هو غير عادل لدي المشرع أو القاضي أو المتعاقدين يؤثر بجمعه علي إنشاء وتطوير القواعد القانونية الداخلية والدولية علي السواء.
ويحدد البعض عناصر صناعة القاعدة القانونية في مسائل ثلاث، هي السياسة والقانون والعدالة، ولكل عنصر من هذه العناصر دور تكثر فاعليته أو تقل بحسب ظروف الزمان والمكان الذي توجد فيه، ويتقابل القانون والعدالة في دائرتين مركزيتين، الأولي أكثر تحديدا من الثانية. ومع ذلك فإنه يتكون من مجموعهما كافة القواعد التي تحكم الروابط البشرية. وتلك الدوائر ليست منفصلة بحواجز لا يمكن تعديها، بل إن الفاصل بينها ليس محكما دائما وكثيرا ما يحدث التداخل بينهما، وذلك نتيجة الاختراق المتزايد للأفكار المعنوية في دائرة القانون. ويحدث ذلك بصفة خاصة في العصور المضطربة عندما يموج ضمير الأفراد بأحاسيس وأفكار نبيلة تؤثر في سلوكهم وتدفع قانونهم وفقا لذلك لأن يتغير ويساير النهج الأخلاقي العادل.
وهكذا يتفق الفقه القانوني علي أن للعدالة دورًا له أهميته في خلق القواعد القانونية وفي تطبيقها بشكل عام، وإن كان هذا الدور يتأثر بالسياسة السائدة في كل مجتمع ويأتي القانون ليقيم توازنا بين اعتبارات العدالة والسياسة واعتبارات الأخلاق واعتبارات المنافع؛ لذا يفتقر دائما إلي الوصول إلي الحل العادل، لأن السياسة تجعله يتأثر بالأهواء.
وهكذا فمن الضروري أن يتطابق القانون الوضعي مع قواعد مثالية-قواعد القانون الطبيعي - والتي نسميها هنا قواعد الشريعة وأهمها - بالطبع - العدالة، فكيف توجد العدالة في التشريعات الإسلامية، وإلي أي مدي تطابق الحلول في القانون من هذه الناحية؟

الإعجاز القرآني في مجال العدالة:
يختلف الأمر في الشريعة الإسلامية عنه في التشريعات الوضعية فيما يتصل بوضع العدالة كهدف لا تؤثر فيه السياسة، ولا المنافع أو الأهواء الشخصية للحكام؛ لأن الله سبحانه وتعالي هو العادل مع خلقه، وألزمهم بها في تعاملهم مع بعضهم البعض لذا يتجلي الإعجاز القرآني في الآيات الكريمة التي تحدثت عن العدالة فجعلتها قيمة مقدسة يجب دائما الوصول إليها أيا كان الضرر الذي يظن تحققه منها.
ويقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة في هذا المعني "إن سمة الإسلام العدالة". وكل تنسيق اجتماعي لا يقوم علي العدالة منهار - مهما تكن قوة التنظيم فيه - لأن العدالة هي الدعامة وهي النظام وهي التنسيق السليم لكل بناء.
فالله سبحانه وتعالي سيعامل الناس يوم القيامة بعدالة كاملة، ولن يترك شيئا لا يحاسب عليه، فيجازي المحسن ويعاقب المسئ، بالقسط. يقول سبحانه وتعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:٤٧]. ويقول سبحانه وتعالي':( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: ٧-٨].
وأوصي سبحانه وتعالى رسله وعباده بأن يقيموا العدالة في الأرض، فيقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:٨].
ويقول جل جلاله:( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل:٩٠]
كما يقول: (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الأنعام: ١٥٢].
وهكذا تظهر الآيات السابقة العدل كقيمة أخلاقية سامية يجب اتباعها في الحياة وفي المعاملات وفي استنباط الأحكام بشكل عام.
وينبِّهنا الله جل جلاله إلي ضرورة الحكم بالعدل في الخصومات والأقضية في الكثير من الآيات الأخرى، مثال ذلك قوله تعالي: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)[النساء:٥٨].
ويقول أيضًا: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة: ٤٢].
وفي مجال العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخري يقول سبحانه وتعالي': (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: ٨].
والواقع إن حصر ما ورد في القرآن الكريم بشأن العدالة وضرورة الوصول إليها في أي نظام تشريعي، من الأمور الصعبة، إذ لا أكون مبالغا إن قلت إن كافة الآيات الكريمة التي رسمت أسلوب الحياة للناس ووضعت مناهج للسعي في الأرض ترتبط بالعدالة وتجعلها مقصدا رئيسا لها. لذلك اكتفينا بذكر أمثلة من هذه الآيات وردت بالنسبة إلي بعض صور المعاملات.

العدالة الاجتماعية:
يعتبر تقسيم العدالة إلي عدالة التوزيع - عدالة القسمة - وعدالة تعويضية أو تبادلية، هو أهم التقسيمات المقررة للعدالة وتنجلي الصورة الأولي في توزيـع الجـاه والمـال وكـل ما يمكـن قسمته بين هؤلاء الذين يعترف بهم الدستور. فيجب أن يقوم نوع من التوزيع النسبي للمزايا الاجتماعية وللأعباء كذلك علي كافة المواطنين بحسب قدرتهم وإمكاناتهم ودرجة مساهمتهم في تحمل أعباء المجتمع .
ونجد القرآن الكريم يعبر عن هذه الصورة من صور العدالة في العديد من الآيات الكريمة. من ذلك قوله تعالي': (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر:٧]. وعلي أساس هذه الآية قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنع توزيع الأراضي المفتوحة علي الفاتحين. وتفصيل ذلك أنه عندما توسعت الدولة الإسلامية وانضمت إليها بعض الأقاليم الجديدة بالفتح، اختلف عمر مع الصحابة في طريقة التصرف في الأرض، وبينما مال الغالبية إلي قسمتها بين الفاتحين وفقا لآية الغنائم، اعتمد هو علي الآيات الكريمة التي ذكرناها، ورفض التقسيم ووضع قاعدة مؤداها ترك الأرض لأهلها وفرض خراج عليها حتى يمكن الاستفادة منه في الإنفاق علي المرافق العامة للمسلمين كافة. فقد فهم هذا النص علي أنه يعني ترجيح مصلحة الأمة الإسلامية التي تقتضي عدم استئثار فئة من الناس بتملك الأراضي؛ لأن ذلك مخالف للعدالة وللنص القرآني، الذي أكمل الآية التي ذكرها عندما عدَّدَ فئات مَنْ يستحقون وذكر في آخرهم: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ) [الحشر:١٠].
وأخذ عمر بن الخطاب يدافع عن وجهة نظره بقوله: "أرأيتم هذه الثغور لابد مـن رجـال يلزمونهـا، أرأيتم هذه المدن العظام كالشام ومصر والكوفة، لابد لها من أن تُشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطي هؤلاء إن قسمت الأرضين"؟!!
وهكذا أعمَلَ عمر بن الخطاب قاعدة العدالة التوزيعية أو ما يطلق عليها حديثا "العدالة الاجتماعية" فقد رأي ضرورة حصول جماعة المسلمين علي موارد تنفق علي المحتاج منهم وعلي رعاية المصالح العامة وإدارة المرافق في الدولة الإسلامية، ورجح هذه المصلحة علي مصلحة قلة من الغزاة والفاتحين وأبنائهم، فقد كان ريع هذه الأرض كلها سيذهب إليهم .
ومن ذلك يمكن القول: إننا أمام نص محكم يحدد ضرورة استفادة كل الناس بالأموال العامة، لا الذين يوجدون منهم وقت تكونها فحسب؛ بل الذين يأتون من بعدهم، هل يمكن تصور نص وضعي يعنيه ذلك الآن؟ صراحة: لا أظن. ونري أيضا تطبيقا يدل علي عبقرية مبكرة وقدرة علي النفاذ إلي حكمة من حكم التشريع الإسلامي في وقت لم تكن فيه مدارس ولا معاهد ولا جامعات، ولكنها جامعة الرسول ومدرسة القرآن. 

الأستاذ الدكتور جعفر عبد السلام
الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية – مصر



رقم: 22518

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/22518/تطور-الحياة-وضرورة-الاجتهاد-القسم-الاول

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com