العلامة الفقيد السيد محمد حسين فضل الله : "كانت فاطمة الزّهراء(ع) الإنسانة الّتي ارتفعت بروحانيّتها إلى الله تعالى، فعاشت معه في ابتهالاتها ودعواتها وصلواتها، وتحدَّثت إليه في كلِّ آلامها وأحزانها وحاجاتها في الحياة؛ إنها الإنسانة الّتي امتلأت علماً، وهي الّتي نهلت فكر الإسلام وثقافة القرآن، من الينبوع الصّافي الطاهر للإسلام ".
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع الفقيد السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، وبالنَّظر إلى أهميَّة ما يتناوله من مواقف، نستحضر ما كان سماحته قد ألقاه في خطبتي صلاة الجمعة، بتاريخ: 22 جمادى الثّانية 1420ه/ الموافق: 1/10/1999م، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، إذ لفت في خطبته الدينيَّة إلى قول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]، لينطلق بالحديث عن ذكرى ولادة سيِّدتنا سيّدة نساء العالمين؛ السيّدة الجليلة المعصومة فاطمة الزّهراء(ع)، معتبراً أنَّ هذا اليوم الّذي أُريد له أن يكون يوم المرأة المسلمة، يوحي بأن ليس هناك امرأة مسلمة يمكن أن تكون قدوةً للرجال وللنّساء معاً، ولا سيَّما للنِّساء، كفاطمة(ع)، لأنها تجمع كلَّ الصِّفات الّتي يكبر فيها الإنسان ويعظم، ويقترب من خلالها من ربِّه، ويتحرَّك في الحياة على أساس القيام بمسؤوليَّته.
وأضاف سماحته متحدِّثاً عن أخلاقها الّتي هي أخلاق الرّسول(ص)، بقوله: "كانت فاطمة الزّهراء(ع) الإنسانة الّتي ارتفعت بروحانيّتها إلى الله تعالى، فعاشت معه في ابتهالاتها ودعواتها وصلواتها، وتحدَّثت إليه في كلِّ آلامها وأحزانها وحاجاتها في الحياة؛ إنها الإنسانة الّتي امتلأت علماً، وهي الّتي نهلت فكر الإسلام وثقافة القرآن، من الينبوع الصّافي الطاهر للإسلام؛ من عقل رسول الله(ص) وقلبه وفكره وتجربته، وكيف لا يكون ذلك، وهي الّتي عاشت معه وتربّت على يديه، حيث كان الوحي ينـزل عليه وهي في بيته؟! كما أنَّها تعلَّمت مع عليّ(ع) من رسول الله(ص)، وعاشا كلّ معانيه الروحيّة والفكريّة.
لقد حملت الزهراء(ع) كلّ أخلاق رسول الله(ص)، فكانت الرؤوفة العطوفة والرّحيمة بالآخرين، وكانت الصَّابرة على كلّ تعقيدات الحياة ومشاكلها الخاصَّة والعامَّة، وكانت(ع) الابنة كأفضل ما تكون البنات لآبائهنَّ، والزّوجة كأفضل ما تكون الزّوجات لأزواجهنّ، والأمّ كأفضل ما تكون الأمّهات لأبنائهنّ، والمسلمة كأفضل ما تكون المسلمات لمجتمعهنّ، كما أنها لم تدع فرصةً إلا واستفادت منها، فكانت المعلّمة لنساء عصرها، والمحدِّثة عن رسول الله(ص)، حيث رُوي عنها ـ من الرّجال والنّساء ـ أحاديث كثيرة عن رسول الله(ص)، وكانت(ع) الصّادحة بالحقّ، فوقفت كأوَّل امرأة مسلمة بين الرّجال، لتخطب خطبةً فيها الكثير من علم الإسلام وفقهه واحتجاجاته.
لقد بلغ الوعي لديها درجةً اتَّسعت لكلّ المرحلة الَّتي عاشتها، فقد كانت ـ وهي الثّكلى برسول الله(ص)، والمظلومة من خلال ما جرى لها، مع ما ألقي عليها من مسؤوليَّة ـ تخرج لتدافع عن الحقّ، تارةً باستقبالها للمسلمين والمسلمات، وأخرى ـ كما تقول بعض الرّوايات ـ بالطّواف على جموعهم لتحدِّثهم عن حقّ عليّ(ع)، كان كلّ هذا يعيش في شخصيَّة شابّة لم تبلغ العشرين من عمرها على أشهر الرّوايات، أو لم تبلغ الثّلاثين من عمرها.
وتابع: "لذلك، فإنَّ إنسانةً تملك هذه الشّخصيّة، حريّ بها أن تكون قدوةً للمرأة المسلمة، ولا سيَّما أنها سيّدة نساء العالمين. من هنا، على كلِّ نساء العالمين أن يقتدين بها ويتعلَّمن منها، وأن يعشن المسؤوليَّة من خلال سيرتها وحياتها، وأن يرتفعن إلى مستوى الطّهر الَّذي ارتفعت إليه. وعليه، فإنَّ إعزاز رسول الله(ص) لها لم يكن إعزاز أبٍ لابنته، وإن كان للعاطفة دورها في علاقة الأب بابنته، ولكنَّه إعزاز الأب النّبيّ الّذي رأى بابنته تجسيد رسالته، ولهذا حدَّثنا عنها وهو يراقب كلّ فكرها، فلا يرى في فكرها إلا الحقّ، ويراقب كلّ خطواتها، فلا يرى في خطواتها إلاّ خطوات الحقّ، ويراقب كلماتها، فلا يرى في كلماتها إلا كلمات الحقّ، ويراقب كلّ شؤونها، فيرى فاطمة(ع) الإنسانة الّتي ترضى لرضى الله وتغضب لغضبه، ولذلك كان يرضيه ما يرضيها لأنّه يرضي الله، ويغضبه ما يغضبها لأنّه يغضب الله، فهي المعصومة الّتي لم تقدِّم رجلاً في فكرٍ أو قولٍ أو عمل، ولم تؤخِّر أخرى، إلا من خلال ما تعلم أنَّ فيه رضى الله تعالى".
لذلك، فإنَّ الإمام الخميني(رضوان الله عليه)، الّذي أراد ليوم ولادة الزّهراء(ع) في العشرين من جمادى الآخرة، أن يكون يوم المرأة المسلمة، قد بلغ الغاية من ذلك، لأن ليس هناك امرأة مسلمة أو غير مسلمة جمعت من الفضائل الرّوحيّة والثقافيّة والحركيّة ما جمعته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزّهراء(ع)".
تنمية طاقات المرأة، استلهاماً من مسيرة الزّهراء(ع)
"وفي ضوء ذلك، ينبغي لنا ـ وقد أراد لنا رسول الله(ص) أن نعظّم الزّهراء(ع) كرمزٍ للمرأة المسلمة، ونرفع من شأن المرأة في كلّ منطلقاتها ـ أن ننمِّي طاقات المرأة، فقد عمل رسول الله(ص) على تنمية طاقات الزّهراء(ع)، وعمل عليّ على تنمية طاقات زينب(ع)، وهذا ما يوجب علينا جميعاً ـ رجالاً ونساءً ـ أن نعمل في سبيل أن يتكامل الرّجل مع المرأة علماً، ليكون للمرأة طاقة العلم كما للرّجل، وحركةً في المواقع التي يرضاها الله، ليكون للمرأة التحرّك إلى جانب تحرّك الرّجل. إنَّ الله تعالى أراد للمرأة أن تكون بنتاً ترعى والديها، وزوجةً لزوجها، وأمّاً لأبنائها، ولكنّه أراد لها أن تكون واعيةً للإسلام ولحركة المسؤوليّة في الحياة، وقد خسر المسلمون ـ كما خسر غير المسلمين في كلّ التّاريخ ـ طاقات المرأة، عندما عملوا على إبقائها جاهلةً ومتخلّفةً، تعيش على هامش حياة الرّجل، على أساس أنَّ دور المرأة هو في البيت، ولكن ألا ينبغي أن يتحلّى من في البيت بالوعي والعلم والثّقافة؟! كيف يمكن للمرأة الجاهلة أن تربي الأولاد المنفتحين على المعرفة؟! وكيف يمكن لها أن تملأ حياة زوجها وحياتها بالذّات؟! فتكامل الرّجل والمرأة هو من يبني الحياة، والله أراد للمرأة أن تكون فاعلة".
ويضيف سماحته: "إنَّ الله تعالى خلق للمرأة عقلاً وطاقة، كما خلق للرّجل عقلاً وطاقة، وأراد لهما أن يتكاملا في كلّ مجالات الحياة، ولذلك، فإنَّ الإسلام بكلّ شريعته، نـزل للمرأة والرّجل على حدٍّ سواء، فقد كلّف الله تعالى في الخطوط العامّة التي يُكلّف بها النّاس في عباداتهم ومعاملاتهم وأوضاعهم، كلّف المرأة بما كلّف به الرّجل، في الصلاة والصوم والحجّ والخمس والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا أراد للمرأة أن تنطلق في كلّ ما يتعلّق بحياتها من إرادتها، فليس لأبٍ أو لزوجٍ أو لأخٍ أو ولدٍ أن يضغط على إرادة المرأة في ما لا تريد، وليس لأحدٍ أن يجبرها على زوجٍ لا تريده، أو على معاملةٍ في أموالها لا توافق عليها، فالزّوج الذي يصادر مهر زوجته أو راتبها أو إرثها سارق، ولا يحقًّ لأحدٍ أن يضغط عليها في أيِّ موقفٍ من المواقف، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً مما لا تريده، كما ليس لأحد أن يجبر الرجل على ما لا يريد، فللمرأة إرادتها المستقلة، وللرجل إرادته المستقلة، والزواج بالإكراه باطل، سواء أُكره عليه الرّجل أو المرأة، والبيع بالإكراه باطل، وهكذا في كلّ المعاملات.
إنَّ الله تعالى أراد للمرأة أن تكون إنساناً فاعلاً في الحياة، وأن تشاطر الرّجل في النتاج الإنساني في إنتاج العلم والواقع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، طبعاً كلٌّ بحسب ظروفه، فنحن لا نقول للمرأة أن تترك بيتها، كما لا نقول للرّجل أن يترك بيته أو عمله، لكن هناك مساحة للأب خارج نطاق عمله الأبويّ، ومساحة للأمّ خارج نطاق عملها الأموميّ، لا بدَّ من أن يعطي الرّجل والمرأة جهدهما فيها من أجل المجتمع كلّه، ولذلك رأينا أنّ الله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ـ يتناصرون ويتعاونون ويتساعدون ـ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التّوبة: 71]، فكما أنَّ هناك معروفاً سياسيّاً وفقهيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، فإنَّ هناك في المقابل منكراً من هذا القبيل أيضاً".
وختم بالكلام عن المرأة النّموذج: "في يوم المرأة المسلمة، لا بدَّ لنا من أن نعمل جميعاً لنرفع شأن المرأة المسلمة في المجتمع الإسلاميّ، ولنواجه التحدّيات الصّعبة في كلِّ المجتمع الكافر والمستكبر الذي يستخدم المرأة في غير مواقع رضا الله، ويعمل على انحرافها لتبتعد عن إسلامها فكراً وروحاً وسلوكاً. إنَّ الله تعالى ضرب مثلاً امرأة فرعون الّتي رفضت كلَّ سلطانه لتقترب من الله، ومريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها، وصدَّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين، إنّ الله يريد للمرأة أن ترتفع إلى مستوى القرب منه، ويريد للرّجل أن يرتفع إلى مستوى القرب منه، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}" [المطفّفين: 26].
المصدر : موقع بينات