كشف صيف ٢٠١٠ اللاهب عن أزمة الكهرباء فى الدول العربية غنيها وفقيرها. لم يخترعها الصيف ولا تسبب فيها، لكن الصيف كشف الغطاء عن تجاهل النظم العربية مشكلة الكهرباء سنين طوال حتى تفاقمت.
ايران دولة تعرف جيدا ما تريد
5 Sep 2010 ساعة 17:27
كشف صيف ٢٠١٠ اللاهب عن أزمة الكهرباء فى الدول العربية غنيها وفقيرها. لم يخترعها الصيف ولا تسبب فيها، لكن الصيف كشف الغطاء عن تجاهل النظم العربية مشكلة الكهرباء سنين طوال حتى تفاقمت.
وكالة أنباء التقريب (تنا )
يوجد فارق كبير بين اتهام ايران بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وبين الإعجاب بالتطور المستمر الذي تسعى اليه إيران لبناء قوتها الذاتية. اختلفنا مع إيران أو اتفقنا فالثابت أنها دولة تعرف جيدا ما تريد وقد أرادت إيران أن تصبح دولة إقليمية كبرى، فقد كان لا يمر شهر أو شهران إلا وتفاجئنا إيران بإنجاز جديد يوسع المسافة الفاصلة بينها وبين عموم الدول العربية: إطلاق أول قمر صناعي للفضاء، إنتاج أول طائرة بدون طيار، تطوير ثلاثة أجيال من الصواريخ آخرها صاروخ فتح ١١٠، أما في مجال قدراتها النووية فحدث ولا حرج. فهناك مفاعل نطنز لتخصيب اليورانيوم، ومفاعل آخر على مقربة من مدينة قم، ووصل معدل تخصيب اليورانيوم الى ٣.٥% ويتم التخطيط للوصول به إلى ٢٠%، وأخيرا تدشين مفاعل بوشهر لتوليد الطاقة الكهربائية، ويستجيب إنتاج الطاقة النووية فى إيران لجملة اعتبارات أبرزها: الزيادة السكانية، التوسع الصناعي، توفير مشتقات الغاز والنفط لتوجيهها وجهة أخرى بعدما كانت تستخدم فى توليد الكهرباء، خفض سعر الاستهلاك، خدمة السياسة الخارجية عبر التصدير لدول كالعراق مثلا.
من الصحيح أن الطاقة الإنتاجية المرتقبة لمفاعل بوشهر لن تزيد فى البداية على ١٠٠٠ ميجاوات وهو ما يسد ٤% فقط من احتياطات إيران، لكن إيران تخطط لرفع الإنتاجية إلى ٢٠.٠٠٠ ميجاوات على المدى الطويل. ومن ناحية أخرى فإنها تجهز عبر محطة نطنز لتزويد المفاعل بالوقود المخصب كبديل للوقود الروسى المستخدم حاليا، تلك هى سياسة إيران فى مواجهة حاجتها للكهرباء فكيف بالدول العربية الأخرى؟ وما الدروس المستخلصة من التجربة الإيرانية؟
١ ــ أزمة الكهرباء في الدول العربية
كشف صيف ٢٠١٠ اللاهب عن أزمة الكهرباء فى الدول العربية غنيها وفقيرها. لم يخترعها الصيف ولا تسبب فيها، لكن الصيف كشف الغطاء عن تجاهل النظم العربية مشكلة الكهرباء سنين طوال حتى تفاقمت، وهذا هو بالضبط المعنى الحرفي لغياب الرؤية الاستراتيجية، فقد انقطع التيار الكهربائي في مصر والعراق وفلسطين ولبنان والأردن والكويت والبحرين ودول أخرى، وامتدت ساعات الانقطاع إلى عشرين ساعة يوميا فى بلد كالعراق بل سبح العراق كله عدا إقليم كردستان فى ظلام دامس يوم ١٤ أغسطس الماضي.
انخفض إنتاج مصانع الحديد فى مصر بنسبة ٤٠% وارتفع سعر الطن الواحد بقيمة ٢٠٠ جنيه، وبدأ التفكير في وقف تراخيص بناء المصانع خصوصا ذات الاستهلاك الكثيف للكهرباء كمصانع الأسمنت. كما نفد الوقود الذي يغذي محطة توليد الكهرباء في غزة فتوقف كل شيء عن العمل وتعرض المرضى والجرحى وأطفال الحضانات لخطر الموت، وعندما انقطع التيار الكهربائي اندلعت «انتفاضة الكهرباء في العراق» واضطر الوزير المختص إلى الاستقالة. وفى لبنان سقط أول «شهيد للكهرباء» أثناء مشاركته في إحدى الحركات الاحتجاجية التي اجتاحت العاصمة وقطعت الطرقات.
وفى مصر خرجت المظاهرات ونُظمت التجمعات الاحتجاجية، وتقدمت الحملة الشعبية لوقف تصدير الغاز لإسرائيل ببلاغ للنائب العام لمحاسبة المسؤولين عن تصدير الغاز جنائيا. اتضح أن أحد أسباب أزمة الكهرباء هو نقص الغاز المغذي للمولدات الكهربائية، فإذا بأحياء القاهرة تُظْلِم فيما تضىء شوارع تل أبيب.
فى كل الحالات السابقة تكررت الأسباب نفسها: سوء التخطيط، تجاهل التقادم فى البنية الكهربائية، الفساد السياسى. وفى بعض الأحيان كان هذا الفساد صادما كما فى تساؤل عمار الحكيم فى العراق عن مصير ١٧ مليار دولار أنفقتها حكومة المالكى فى أربع سنوات على مرفق الكهرباء، وهذا رقم صححه الوزير المختص إلى ٦ مليارات و٧.٠٠.٠٠٠ دولار لكنه لا يزال كبيرا. ودفع الفساد فى أحيان أخرى نواب مجلس الأمة الكويتي إلى إثارته داخل البرلمان كما فى مناقشة سبعة نواب كويتيين لقضية التلاعب فى مناقصات وزارة الكهرباء لإنشاء محطات جديدة.
لكن ما يمكن تبريره فى بلد كالعراق عانى حصارا اقتصاديا جائرا واحتلالا أمريكيا تركه مدمَرا وطائفيا وغير ديمقراطي، أو فى بلد كلبنان غاص فى أوحال حرب أهلية لخمسة عشر عاما ودكه عدوان إسرائيلي وحشي قبل أربعة أعوام، أو فى قطاع غزة المحاصر لم يزل والواقع فى مرمى نيران إسرائيل واجتياحها، هذه الأسباب لا يجوز أبدا القبول بها في حالة مصر ليس لأنها لم تمر بهذه الظروف الاستثنائية وحسب، وانما لأنها كانت صاحبة أول مفاعل على مستوى الدول العربية فى عام ١٩٦١ وهو مفاعل أنشاص الذي فكر به المصريون قبل تخطيط شاه إيران لمفاعل بوشهر نفسه بثلاثة عشر عاما. بل وأكثر من ذلك فإن تفكير مصر فى إنشاء مفاعل بديل بعد تقادم مفاعل أنشاص يعود الى أكثر من ربع قرن، الا أن حسم موقعه فى الضبعة لم يتم إلا قبل عدة أيام بسبب ضغوط قوية مارسها رجال الأعمال.
٢ ــ أى خلاصة يقدمها لنا تعامل إيران مع أزمة الكهرباء؟
ثلاثة استخلاصات رئيسة يمكن التوصل إليها من خبرة إيران فى معالجة مشكلة الكهرباء، الأول هو الرؤية الاستراتيجية التى لا تتغير بتغير الحكام أو حتى شكل نظام الحكم.
فالتفكير فى إنشاء المفاعل بدأ فى عهد الشاه وتم التعاقد بالفعل مع شركة سيمنس الألمانية، ومتابعة العمل فيه جاءت فى ظل الثورة أي بعد تحول النظام برمته من ملكي الى جمهوري، وقد ابرم الاتفاق مع شركة «اتم استروي» الروسية.
فإذا كان التحول إلى قوة إقليمية كبرى يمثل هدفا استراتيجيا لكلٍ من إيران الإمبراطورية والثورية، فإن قضية الطاقة كان لابد أن تصبح فى بؤرة الاهتمام. يختلف ذلك بالكلية مع الحلول المؤقتة التى قدمتها الدول العربية لمسألة الطاقة، من قبيل ترميم البنية التحتية، أو الاعتماد على المولدات الكهربائية، أو مناشدة المواطنين ترشيد استهلاكهم من الطاقة، أو اللجوء إلى الاستيراد من الخارج، وهي حلول تخدم أهدافا آنية قصيرة المدى. وعندما توافرت الرؤية الاستراتيجية كما في حالة مصر في مرحلة معينة فإنها لم تستمر بعد أن تغيرت أولويات القيادة السياسية.
الاستخلاص الثانى هو التصميم على تحقيق الهدف، ولا أدل على ذلك من أن الاتفاق مع روسيا على استكمال بناء المفاعل النووي ابرم في عام ١٩٩٢، أي بعد أربعة أعوام فقط من انتهاء الحرب مع العراق. ثم إن إيران خاضت ولا تزال حربا دبلوماسية مع العالم كله تقريبا دفاعا عن حقها فى الطاقة النووية، واستطاعت في بوشهر تحييد معارضة أشد أعدائها (الولايات المتحدة) بعد وَضْع المشروع تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتعهد بإعادة الوقود المستنفد إلى روسيا. قارن ذلك بضعف قدرة النظام المصرى على مقاومة سطوة رجال الأعمال الذين كانوا سببا فى تأجيل حسم موضوع الضبعة، وهو تأجيل أفقد مصر إشعاعها الضوئى بعدما فقدت إشعاعها السياسى على مستوى الإقليم.
الاستخلاص الثالث والأخير هو الوعي بمفهوم المصلحة الوطنية، وأدلل على ذلك بمثالين لتعامل إيران مع الغاز التي تعد ايران صاحبة ثاني احتياطي منه على مستوى العالم. ففى ٢٠٠٧ أوقفت إيران صادرات الغاز لتركيا لمواجهة زيادة الطلب المحلي في شتاء قارس البرودة، وفى مصر لم نتوقف عن تصدير الغاز لإسرائيل رغم حاجة السوق المحلية إليه.
وفى ٢٠٠٧ أيضا حذرت إيران تركيا من إعادة تصدير الغاز لدول أخرى فى إشارة مبطنة لإسرائيل، أما في مصر فنحن نضخ الغاز لإسرائيل دون حاجة إلى وجود سماسرة أو وسطاء.
أتمنى أن نتوقف أمام مشوار مفاعل بوشهر ففيه من العِبَر الكثير .
الشروق
رقم: 25190