التفجيرات المتنقّلة من سيناء إلى الجزائر وليبيا والعراق وسورية: تمهيد لمجابهة شاملة؟
إن استهداف سورية اليوم، بعد العراق قبل سنوات، حلقة متقدّمة من مشروع سياسي ضخم يستهدف الأمة برمتها كما تؤكّده التفجيرات والحروب المشتعلة ضد أطراف محدّدة بينما "تنعم" اقطار مؤيّدة للمشروع باستقرار نسبي، على الأقل حتى الآن. لكن هذه التفجيرات تأتي في أجواء مضطربة على الصعيد الدولي والإقليمي ما يعزّز انطباع العجز في تحقيق أهداف المشروع.
زياد حافظ
مع إنجازات الجيش العربي السوري وحلفاءه في سورية ضد التحالف الكوني الذي استهدف وما زال يستهدف سورية في وحدتها ودورها كشعب ودولة وقيادة، يبدو أن معارك خلفية جديدة تجدّدت تستهدف كل من وقف أو يريد الوقوف مع سورية.
فجأة انفجر الوضع في الجزائر وتصاعدت هجمات جماعة التعصّب والغلو والتوحّش في سيناء، واستولت فصائل قريبة من تلك المجموعات على مواقع هامة في شرق وشمال شرق ليبيا، كما تمّ ضرب وسط دمشق بتفجيرات انتحارية مجرمة مستهدفة المدنيين الأبرياء. كما لا يغيب عن بالنا لا التفجيرات شبه اليومية في مختلف أنحاء العراق والموت اليومي في اليمن.
من الصعب أن نضع كل هذه التطوّرات في خانة الصدف وقد تعلّمنا أن الصدفة هي أبعد عمّا يتم في مختلف أنحاء الوطن العربي.
إن استهداف سورية اليوم، بعد العراق قبل سنوات، حلقة متقدّمة من مشروع سياسي ضخم يستهدف الأمة برمتها كما تؤكّده التفجيرات والحروب المشتعلة ضد أطراف محدّدة بينما "تنعم" اقطار مؤيّدة للمشروع باستقرار نسبي، على الأقل حتى الآن. لكن هذه التفجيرات تأتي في أجواء مضطربة على الصعيد الدولي والإقليمي ما يعزّز انطباع العجز في تحقيق أهداف المشروع. والعجز يكمن داخل أطراف المشروع بدءا بالولايات المتحدة والكيان الصهيوني ومرورا ببعض دول الاتحاد الأوروبي كفرنسا والمملكة المتحدة إلى الإقليم سواء في تركيا وبعض دول مجلس التعاون الخليجي.
ويستنفذ هذا المحور كل يوم من كافة الوسائل الدبلوماسية والعسكرية لتحقيق الأهداف لاسيّما تسخير منظمة الأمم المتحدة لترويج ادعاءات ضد الحكومة السورية في إما استعمال مواد محظورة كالغاز السام أو حتى ارتكاب جرائم حرب كقصف مراكز ضخ المياه لتعطيش 5،5 مليون مواطن سوري في العاصمة ومحيطها ومتجاهلة مسؤولية الجماعات المسلّحة في كلا الحالتين.
والمضحك المبكي في موقف الأمم المتحدة المنحاز كلّيا لموقف الإدارة الأميركية خلال العقود السابقة وحتى الساعة هو أن الإدارة الحالية تفكّر جدّيا في تخفيض مساهمة الولايات المتحدة في تمويل الأمم المتحدة بنسبة 40 بالمائة.
حاليا مساهمة الولايات المتحدة هي بنسبة 22 بالمائة من 5،4 مليار دولار من موازنة الأمم المتحدة. فتخفيض المساهمة الأميركية سيضعف الأمم المتحدة ويقلّص برنامج المساعدات التي تقر وفقا لتوصيات الدول الكبرى كالولايات المتحدة وتنفيذا لسياساتها. والجدير بالذكر أن التحريض على الأمم المتحدة يأتي مباشرة من رئيس وزراء الكيان الصهيوني في زيارته الأخيرة لواشنطن حيث حرّض على الأمم المتحدة “المنحازة دائما ضد إسرائيل”!
التفجيرات الأخيرة تدلّ على أن أطرافا دولية وعربية وإقليمية كالكيان الصهيوني ما زالت تراهن على تغيير ما في موقف الولايات المتحدة. وهنا علينا أن ننتبه أن ليس كل التفجيرات، بالضرورة، تابعة لجماعات التعصّب والغلو والتوحّش. فبيان مجموعة "أحرار الشام" الذي ينفي مسؤوليتها عن التفجير يثير تساؤلات عدة. أولا، لماذا تتنكّر تلك المجموعة للمسؤولية ولم تعمد سابقا إلى ذلك؟ وثانيا، هل هناك من اختلافات بينها وبين الفصائل الأخرى؟ فإذا سلمّنا جدلا بذلك فهذا يعني أن للتفجيرات دور وظيفي يخدم مخطّطات محدّدة، وليس بالضرورة مرتبطة بوقائع الميدان حتى من باب تخفيف الضغط في أماكن أخرى. فلا يمكن أن نسقط من حساباتنا أن للاختراق لبعض دوائر الاستخبارات الأميركية مسؤولية في ضرب أي توافق روسي أميركي في الإقليم. ففي رأينا تأتي هذه التفجيرات في سياق رهانات جديدة خاصة بعدما اتضح التوافق الروسي الأميركي للقضاء على تلك الجماعات من داعش إلى النصرة. فالهدف الأساسي يعود إلى الواجهة أي إلى الأمل أن الولايات المتحدة ستقدم على مهاجمة إيران وسورية في آن واحد.
بعض المؤشرّات التي تستند إليها تلك الأطراف هي وجود قوّات خاصة أميركية في شمال شرق سورية. وقد يزداد عددها إذا ما ترك الأمر للقيادات العسكرية الميدانية الأميركية. وعلى ما يبدو فإن الرئيس الأميركي أطلق يد البنتاغون وذلك منذ تسلّمه الرئاسة. فازدادت العمليات العدوانية على اليمن واليوم نشهد تصعيدا للعمليات العسكرية الأميركية في سورية كتمهيد لعمليات أوسع. ومن الواضح أن الوجود الأميركي في الأراضي السورية غير شرعي، كما أوضحته القيادات السورية أكثر من مرّة. هذا ما يزيد فرص الصدام المباشر مع القوّات الأميركية التي تتخذ من العراق ممرّا لعدوانها المرتقب على سورية. فما هو موقف روسيا في هذا الموضوع؟ وفي هذه الأجواء المشحونة تزداد فرص الصدام عن طريق “الخطأ” في ممرّات الخليج العربي مع وحدات البحرية التابعة للجمهورية الإسلامية في إيران، إضافة إلى تكرار “أخطاء” أخرى مع كل من تركيا أو روسيا. حتى الساعة الأمور مضبوطة ولكن من يستطيع أن يضمن استمرار ذلك الضبط؟
التفجيرات المتنقلة تزامن معظمها، وخاصة الأخيرة في سورية، مع زيارة ولي ولي العهد في بلاد الحرمين إلى واشنطن. اجتماعه مع الرئيس الأميركي له دلالات عدة. فهو أول مسؤول من بلاد الحرمين يلتقي الرئيس الجديد وذلك تحت سقف تنافس داخل الأسرة الحاكمة على النفوذ والسيطرة.
ففي عهد الرئيس أوباما كانت العلاقة الوثيقة مع ولي العهد وليس مع ولي ولي العهد. وهنا يمكن التساؤل هل غيّرت الإدارة الأميركية رهانها في بلاد الحرمين بعد إطلاق التصريحات النارية بحق الأخيرة؟ وهل اعتمدت “وكيلا” جديدا فيها ينفّذ مشروعها؟ ثم كيف تتعامل بلاد الحرمين مع الجو المعادي لها داخل الكونغرس الأميركي الذي ما زال يفكّر بالمزيد من العقوبات تجاهها؟ وماذا يمكن للوبي الصهيوني أن يقدّم لبلاد الحرمين في ذلك المجال؟
مراكز الأبحاث المقرّبة من المحافظين الجدد كمعهد المبادرة الأميركي (أميريكان انتربرايز انستيتوت) ومعهد دراسة الحرب (انستيتوت فور زي ستادي اوف وار) واللذان يعمل فيهما كل من فريدريك كاغان وزوجته كيمبرلي رئيسة المعهد الثاني، إضافة إلى شقيقه روبرت كاغان وزوجته فيكتوريا نيولاند، تروّج لنظرية ضرورة إقامة حلف سنّي أميركي صهيوني لضرب إيران وحلفائها أي الجمهورية العربية السورية وحزب الله. ويدعم ذلك التوجّه المنظّر العقائدي في إدارة ترامب ستيفن بانون المعروف بعداءه للإسلام بشكل عام، وللجمهورية الإسلامية بشكل خاص، ويتماهى مع أبعاد صراع الحضارات التي روّج لها “برنارد لويس″ وفيما بعد سامويل هنتنغتون.
لم تعد المسألة محصورة في “تحجيم” أو “احتواء” الجمهورية الإسلامية في إيران بل تغيير النظام برمّته. وكذلك الأمر بالنسبة لسورية والقضاء على المقاومة. وعلى ما يبدو فهناك قناعة عند هؤلاء أن الولايات المتحدة تملك القدرة العسكرية لتوجيه ضربات قاسمة للجمهورية إضافة إلى دور “الحلف السنّي” والصهيوني خاصة بعد “تجنيد” الحليف العربي السنّي. وزيارة العاهل لبلاد الحرمين لأكبر دولة إسلامية اندونيسيا والمتزامنة مع زيارة نجله ولي ولي العهد إلى الولايات المتحدة تسعى للحصول على تأييد سنّي عالمي واسع النطاق للمشروع المرتقب. لكن حالة إنكار التغييرات الميدانية والتحوّلات السياسية في الإقليم وفي العالم تجعلهم يتبعون سياسات تلبّي طموحاتهم غير مكترثين لما يمكن أن يحصل للمنطقة وللولايات المتحدة. من هنا يمكن فهم “التمرّد” لدى بعض الفصائل على الإرادة التركية بعدم حضورها اجتماع الاستانة الأخير والالتزام بوعود حكومة الرياض في دعم استمرار النزيف في سورية واليمن.
لكن بالمقابل فإن الدور الأميركي المرتقب من أطراف عربية والكيان الصهيوني قد لا يكون في مستوى طموحاتهم لأن الوضع الداخلي الأميركي في حال تخبّط كبير ينذر بانهيارات ضخمة على الصعيد السياسي والأمني ناهيك عن الوضع الاقتصادي والمالي. فالصراعات داخل الإدارة وخارجها بين مراكز قوة متعدّدة تشّل حركة الإدارة الجديدة. وقلّة الخبرة السياسية للرئيس الأميركي تكشف ضعفه في مقاربة الملفّات الصعبة، إضافة إلى ضيق فترة الانتباه والاهتمام التي يمكن أن يعطيها لأي ملفّ. وبالتالي هناك تساؤلات حول من يقود فعلا السفينة الأميركية الغارقة في تلك التناقضات والتي قد توصلها إلى الهلاك. ونشير هنا على سبيل المثال إلى التخفيضات المقترحة في الموازنة العامة لوزارة الخارجية بنسبة 28 بالمائة (من 54 مليار دولار إلى 39 مليار دولار) ما يقوّض فعّالية الدبلوماسية الأميركية. هذا ينسجم مع تطلّعات ترامب الشخصية حول الانكفاء عن مشاكل العالم، ولكنه يتناقض مع طموحات مستشاريه وبعض وزرائه في الاشتباك مع روسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران. فمن له القرار النهائي يا ترى؟ كما أن هناك معارضة داخل الحزب الجمهوري لذلك التوجّه الذي يؤثّر في الاعتبارات الأمنية ما يدلّ على مدى التخبط والحبل على الجرّار.
أما على صعيد “الحليف العربي السنّي” فمن غير المؤكّد أن السياسة المتبعة في بلاد الحرمين ستستمر في ظل إخفاقات ميدانية في اليمن، وفي ظل تراجع اقتصادي ومالي حاد، وفي ظل صراعات داخلية مرشّحة للتفاقم، وفي ظل عزلة دولية تتزايد يوما بعد يوم رغم محاولات تجنيد رأي عام إسلامي وآسيوي لسياساتها.
والحليف الصهيوني عاجز عن تغيير أي شيء في الإقليم. فهو المذعور من تسليم جثمان شهيد لذويه خشية من المظاهرات. كما هو المرتعب من الآذان وصوت “الله أكبر”. كما وأن تقارير من داخل الكيان الصهيوني حول أدائه العسكري في حربه على غزّة لا تدلّ على قدرة وفعّالية في مواجهة مقاومة فلسطينية محاصرة وفوق جغرافية صعب الدفاع عنها! فلا يبقى له إلاّ التهويل والتهديد والاتكال على “حليف عربي”! صحيح أن قدرة التدمير موجودة ولكن ماذا عن الرد؟ هل يستطيع الكيان تحمّل تبعات الرد وهو يشهد هجرة مضادة من الأراضي المحتلة؟ فيهود الكيان لم يعودوا راغبين في البقاء ويهود العالم لديهم تحفّظات كثيرة على الهجرة إلى الكيان. فآفاق الكيان ضعيفة للغاية وفعلا فإن الكيان أوهن من بيت العنكبوت. فعن أي حلف وعن أي متابعة وعن أي قدرة يتكلّمون في هذه الظروف؟
وهذه المخططات التي يحلم بها التحالف الأميركي الصهيوني العربي تتجاهل ردّة الفعل من قبل محور المقاومة وحلفائه الدوليين. وكأن الأمور تسير في اتجاه واحد بالنسبة لهم. كان القائد الفيتنامي الجنرال جياب يردّد دائما أن الأميركيين تلاميذ غير نجباء لأنهم لا يتعلّمون من أخطائهم. ونرى اليوم بقايا المحافظين الجدد والمتدخّلين الليبراليين يروّجون لتكرار الأخطاء المدمّرة.
كل ذلك، من تفجيرات ومخطّطات، لن يؤثّر في المسار الاستراتيجي للأمور في الميدان السوري، ولن يؤّثر في استقلالية القرار المصري بعد فشل محاولات ترويضه. ولن يؤّثر في صلابة الموقف الجزائري رغم الانتخابات القادمة والصراعات الداخلية بقضايا مفتعلة كصراعات محلية، وتفاعلاتها بين مجموعات متطرّفة مدفوعة، على الأرجح، من جهات استخباراتية أوروبية وصهيونية. كما لن يؤثّر في صمود الشعب اليمني، وطبعا لن يؤثر في استمرار الانتفاضة في فلسطين، ولا في تنامي قدرات المقاومة في لبنان، فالتفجيرات المتنقّلة ليست إلاّ معارك خلفية عبثية لن تغيّر في التحوّلات وإن أراد مخطّطو تلك التفجيرات أن تكون تحضيرا لمجابهة أوسع ولكن عناصرها غير موجودة أو غير فاعلة.
كما نلفت النظر أن التهديد المتكرّر يساعد على استمرار اليقظة والتنبّه وإفقاد الخصم والعدو عنصر المفاجأة والمباغتة وهذا ما يُضعف أكثر إمكانية نجاح أي هجوم. لذلك لن يحصل ذلك الهجوم إذا ما افترضنا العقلانية عندهم مع استدراكنا بخطورة الحماقة والغباء وحالة الإنكار وعدم القراءة المتأنية للتغييرات لديهم التي لا يمكن تجاهلها.
أمين عام المؤتمر القومي العربي