QR codeQR code

تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا (2)

تنا

14 Oct 2017 ساعة 12:40

يَعرف العالم الإسلامي اليوم العديد من القضايا الجديدة التي تحتاج إلى بلورة خطاب ديني جديد، يعي مقتضياتها وانعكاساتها ودورها في الواقع الإسلامي، لأن لكل عصر ميزاته في إشكالياته وحلوله أيضا، ومتلقيه الذين يتسمون بطابع التغير تبعا لتغيرات العصر، ولا يصح علميا وعمليا استدعاء الحلول الماضية الجاهزة لمعالجة المستجدات الحاضرة دون إعمال فكر وتوجيه إصلاح، إذ أحيطت الإشكاليات المعاصرة بهالة من التنوع والتعقيد، التي لا يصلح معها استعارة جاهزيات الآخرين مع وجود إمكانيات الانتفاع من تلك الحلول على سبيل الاستئناس والمعرفة بالشيء.


لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي - فؤاد عاقل
 2 - 3 ضرورة الاجتهاد:
 رأينا أن علم أصول الفقه يسمح بمعرفة الحكم الشرعي لكل ما يجدّ من الحوادث والوقائع التي لم يرد بخصوصها نص صريح ولا ظاهر بيّن، ويمكّن من مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمن، وبهذا فإنه يسمح بالاجتهاد وفق حدود معينة ووفق مستجدات بعينها، فهو تحيين للشريعة الإسلامية وتجاوز للنظرة الماضوية للدين الإسلامي.
 
ونجد أن الأساس في أصول الفقه هو إدراك النص وتحديد الحجة. فالحجة هي الكتاب والسنة، ولا يمكن التعامل مع الحجة إلا من خلال علوم التوثيق الخاصة بهذين الأصلين (الكتاب والسنة)، وعلم أصول الفقه يجيب عن أسئلة مهمة خاصة بتوثيق تلك الحجة مثل: ما الفرق بين القراءة المتواترة والشاذة؟ وما الفرق بين الحديث الصحيح والضعيف؟ ما الذي يكون محل قطع وما الذي يكون محل ظن؟ فعلم أصول الفقه هو الأساس لفهم النص الذي هو مصدر البحث وهو تحصيل حكم الله في أعمال البشر. وقد تعامل الفقهاء مع هذه المصادر بضوابط وخطوط وأطر لا يمكن أن نتعداها لكن هناك مجالات يمكن فيها الخلاف وهي المجالات التي ترتبط بالواقع المعيش وبتشابكاته، فإذا كان العلماء المسلمون قد أدركوا واقعهم إدراكا دقيقا وساروا على منهج علمي متمثل في أصول الفقه، فإن المطلوب منا الآن هو مواجهة تحديات واقعنا الحالي وتطوير هذا العلم وعدم الجمود في مسائل عصر القدماء التي ارتبطت بواقعهم والتي لا تنسجم مع واقعنا بسبب الثورة الهائلة في الاتصالات والتقنيات الحديثة. كل هذه الأشياء تسببت في تغير الواقع المعيش تماما عما كان مما يحتم علينا إدراك هذا الواقع الجديد والتعامل معه بمنهج السلف الصالح حتى نصل إلى المقاصد الشرعية التي ينبغي أن نصل إليها. والسبيل إلى ذلك يتمثل في تمحيص البحث في مصادر الدين الأربعة، ويجب على الفقيه في معرض بحثه عن الحكم الشرعي الصحيح أن يضع نصب عينيه الواقع الحالي وملابسات الظاهرة والظروف المحيطة بها وخصوصيات العصر الذي يعيش فيه، فإن لم يجد نصا صريحا في القرآن والسنة؟ وإن لم يعثر على إجماع للصحابة والتابعين؟ وإن لم يُلف حادثة سابقة يقيس عليها؟ يتوجب عليه حينئذ أن يجتهد في البحث عن حكم شرعي. وهنا يطرح التساؤل التالي:
 
· ما هو الاجتهاد؟
 
· وماهي شروط المجتهد؟
 
· وهل يصح التجديد في الاجتهاد؟
 
يمنح علم أصول الفقه للمجتهد الأدوات اللازمة لفهم النص واستيعابه، ولكن ليس هناك آليات بعينها تمكن من فهم الواقع، هذا ما يؤدي إلى اختلاف العلماء في المجامع الفقهية، ومعارضة بعضهم البعض، لأن كلا منهم يتمثل الواقع بطريقة مختلفة، وهو ما يمثل أساس اختلاف الفتوى في العصر الحديث.
 
1- تعريفه:
 الاجتهاد في اللغة: بذل الجهد، والجهد هو الوسع والطاقة.
 وفي الاصطلاح: هو بذل الوُسع في إدراك حكم شرعي بطريق الاستنباط ممن هو أهل له. وإنما قيد بكونه (بطريق الاستنباط)؛ ليخرج بَذْل الوُسع لإدراك الحكم الشرعي بحفظ متون الفقه، أو بحفظ النصوص الشرعية الدالة صراحة على الحكم.
 
والمتقدمون قد يطلقون اسم الاجتهاد على القياس الشرعي، وقد يطلقونه على ما يغلب على الظن عن طريق الخبرة والتجربة، كالاجتهاد في جهة القبلة، ومقدار النفقة الواجبة للزوجة مثلا.
 
2- أركان الاجتهاد:
 للاجتهاد ثلاثة أركان، هي:
 
· المجتهد: وهو الفقيه المستوفي للشروط الآتي ذكرها.
 
· المجتهد فيه: وهو الواقعة المطلوب حكمها بالنظر والاستنباط، لعدم ظهور حكمها في النصوص، أو لتعارض الأدلة فيها ظاهرا.
 
· النظر وبذل الجهد: وهو فعل المجتهد الذي يتوصل به إلى الحكم.
 
3- شروط الاجتهاد:
 تتمثل شروط الاجتهاد في: الإسلام؛ العقل؛ البلوغ؛ معرفة الآيات والأحاديث الدالة على الأحكام بطريق النص أو الظاهر؛ معرفة ما يصح من تلك الأحاديث وما لا يصح، ومعرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام الواردة في القرآن والسنة؛ معرفة مواطن الإجماع حتى لا يخالفها؛ معرفة بقية الطرق الموصلة إلى الفقه وكيفية الاستدلال بها؛ معرفة بدلالات الألفاظ وخبيرا بما يصح من الأساليب وما لا يصح؛ معرفة بمراتب الأدلة وطرق الجمع بينها وطرق الترجيح عند التعارض؛ العدالة.
 
وينبغي على المجتهد أن تكون له القدرة على النظر في النص وطريقة فهمه، وملاءمته مع الواقع والوصل بينهما. هذا الواقع يدفع العالم المجتهد إلى أن يبدع ولا يبتدع أي إلى أن ينشئ شيئا جديدا شريطة عدم الخروج على مقتضيات المصادر الشرعية.
 
وينبغي كذلك على المجتهد الاهتمام باللغة العربية التي نزل بها النص ومراعاة مقاصد التشريع التي تمثل النظام العام وهي حفظ النفس والعقل والدين والعرض والنسل.
 
من هنا يتضح لنا ضرورة التجديد مع مراعاة الضوابط السالفة الذكر، فالتجديد يتطلب فقها لما به يكون التجديد، وهو هاهنا الدين ممثلا في القرآن والسنة والبيان.. وفقها لما له يكون التجديد، وهو هاهنا الأمة ممثلة في واقع المسلمين.
 
وسنتخذ قراءة كتاب "نقد الخطاب الديني" لحامد نصر أبو زيد ورد اعمارة عليه نموذجا للحديث عن اتجاهات التجديد التي عالجت تجديد النص وتجديد الخطاب.
   
4- الاجتهاد بين النص والخطاب الديني: نقد الخطاب الديني لنصر حامد أبو زيد نموذجا:
 أثار كتاب "نقد الخطاب الديني" لصاحبه نصر حامد أبو زيد الكثير من الجدل، وذلك أنه تناول مسألة الاجتهاد في النص القرآني والخطاب الديني بمنظور جديد، ومنهاج مغاير لسابقيه الذين ارتبطوا بالنص وجعلوا الخطاب الديني ينهل قداسته من قداسة النص. فقد نقد آليات الخطاب الديني المعاصر المتجلية في التوحيد بين الفكر والدين، وتفسير الظواهر كلها بردها إلى علة واحدة، والاعتماد على سلطة السلف بتحويل النصوص التراثية إلى نصوص مقدسة، واليقين الذهني ورفض أي خلاف فكري، وإهدار البعد التاريخي وتجاهله، ونقد منطلقات الخطاب الديني المعاصر المتمثلة في الحاكمية والنص، ثم بدأ يبلور ويؤسس لمفهوم جديد ينتقد الخطاب الديني يركز فيه على نقد النص في حد ذاته، إذ أسبغ عليه صفات الخطاب الإنساني وجرده من قداسته سواء كان صادرا عن الله تعالى أم صادرا عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فالنص الديني عنده نص لغوي شأنه في ذلك شأن النصوص الأخرى، مما يبيح إمكانية معاملته معاملة النص العادي، وإمكانية تطبيق مناهج تحليل الخطاب الحديثة التي توظف لتحليل الخطابات الإنسانية بكل أشكالها، هذا ما دعاه إلى المناداة بدراسة النص القرآني دراسة تاريخية، "إنه يدعو إلى الانقطاع عن منجزات الإرث في اتجاهاته ذات الطابع التقدمي في سياقها التاريخي، وإنما ما يدعو إليه هو عدم الوقوف عند المعنى في دلالته التاريخية الجزئية، وضرورة اكتشاف المغزى الذي يمكن لنا أن نؤسس عليه الوعي العلمي التاريخي".
 
قد تجاوز الكاتب بأشواط كثيرة حدود ما يسمح به التأصيل الديني، وتخطى الحدود الحمراء حين قارن النص القرآني بالنص الإنساني، وهذا نوع من أنواع التجديد غير المقبول شرعا، لأنه يضرب كنه الدين وأساسه، وهو اتجاه اتخذ التجديد شعارًا لاجتهاد سائب متحلل من كل الضوابط ومتجاوز لكل الثوابت باستخدامه لطرق التأويل المخلة واصطدامه بالنصوص الصريحة. ويجعل للشرع دورًا ثانويًا مقابل الواقع وحاجاته، حتى أضحت أحكام القرآن والسنة قابلًة للتأويل والتعطيل بذريعة استلهام روح الشريعة ومقاصدها.
 
ونجد في مقابل هذا الاتجاه اتجاه الخطاب الديني المعاصر الذي يتهمه الكاتب بالتلوين وبإسدال القناع على الدين  من أجل الترويج لوعي زائف يخفي خلفه مصالح خفية، وهو اتجاه يتكأ على النصوص الدينية برؤية تجزيئية أو مغلوطة يستنبط من ظاهر النص الأحكام ويترك جوهر النص ولبه وغايته، وو بهذا يخدع المتلقي ويتخذ شرعية استنباط الأحكام والفتاوى من القدسية التي أسبغها عليه منتجوه بغية تحقيق مآرب معينة وأهداف إيديولوجية خفية، وهو خطاب يتسم بالحدة في رد فعله إزاء معارضيه، إذ ينزع إلى تكفير كل مخالف ومتصد لرأيه، وهذا ما عاشه الكاتب وانتقده.
 
    ورغم التزامنا للحياد الموضوعي في قراءة الكتاب، إلا أننا نجد أن الكاتب لامس بعض المحاور التي تعد طفرة نوعية في تجديد الخطاب الديني، كتحديد الفرق بين النص الديني والخطاب الديني، وبالرغم من كون منطلقاته سليمة ومتفق بشأنها، غير أنه غالى في تحليله لمفهوم النص الديني الذي جعله يخرجه من قدسيته طارحا أمثلة صادمة أثارت جدلا فكريا في الساحة الدينية ونال جراء ذلك سهام انتقاد لاذعة.
 
ويعد الجدل الفكري الذي أثاره الكاتب إيجابيا إذا اعتبرنا مناداته بإعمال العقل والفكر خصوصا في قضية الاجتهاد في قضايا العصر الراهنة، والتي لا يجب أن نسقط عليها أحكاما جاهزة من عصر مخالف للعصر الذي نعيش فيه.
 
   وفي إطار الردود والانتقادات التي وجهت إلى عمل الكاتب في شخصه وأفكاره وإيديولوجيته، نلفي ردا للدكتور محمد عمارة ينتقد فيه بشدة آراء ورؤية أبو زيد التي ضمّنها في كتابه. إذ اتهمه بنقض العقائد الإسلامية الأساسية للإسلام، وهذا ما يتناقض مع إعلان أبي زيد إسلامه، فكتابات حامد –حسب د. محمد عمارة- كتابات غير سوية بمقاييس الإسلام، إذ ارتكز الكاتب في تحليلاته على الموقف الماركسي الذي يعتبر أن كل بناء تحتي مادي يفرز بناء فوقيا، هذا المبدأ هو الذي طبقه أبو زيد  على ثوابت الإسلام، فالبناء التحتي هو الذي ينتج الفكر أي أن الواقع هو الذي أنتج النص الديني وهو بذلك الأصل. وقد اعتبر أبو زيد أيضا –حسب د. محمد عمارة- أن النص القرآني تأسس من خلال الشفهية وأن الثقافة فاعل والنص منفعل، وبذلك فالنص القرآني نص بشري لا قدسية له. وهذا حاضر في مواضع متفرقة في الكتاب، إذ مرة يتكلم عن لغة القرآن العربية البشرية، فأصل القرآن إلهي لكن بمجرد تلقف الرسول له أصبت لغته وتأويله بشريين، ومرة أخرى يتكلم عن السياق التاريخي باستجابة القرآن لمتطلبات عصره التي لا توافق بالضرورة متطلبات عصرنا، ويطرح الكاتب بعد سرده لهذه الأدلة إشكال التناقض بين استجابة القرآن لأسباب نزول معينة وبين كونه كلاما أزليا في اللوح المحفوظ. هذا ما أثار حفيظة د. عمارة الذي اتهمه بنزع القدسية عن القرآن بعدم اعتبار وجوده في اللوح المحفوظ، الشيء الذي حاول أبو زيد دحضه بطرح إشكال اختلاف آراء الفقهاء وتأويلاتهم لهذا الإشكال.  ويرد عليه د. اعمارة ردا قويا بيّن فيه أن مسألة الاختلاف في الكيف فقط لا في المبدأ.
 
    ويعتبر د. اعمارة –في رده على قضية انغلاق النص التي أشار إليها أبو زيد في كتابه- أن ادعاء انغلاق النصوص عن الفهم واستعصاءها قول مجانب للصواب، فالإسلام لم يحظر على العقل المسلم الاجتهاد في أي ميدان يستطيع الاجتهاد فيه باستثناء الغيب وما لم يستطع العقل أن يفهم كنهه، او يستقل بإدراكه، ففي النصوص قطعية الدلالة والثبوت هناك اجتهاد في فهمها وفي تقنين وتقعيد أحكامها وبالتالي تنزيل هذه الأحكام على أرض الواقع، أما في النصوص ظنية الدلالة هناك اجتهاد في ثبوتها، كما أن ما لا نص فيه فأبواب الاجتهاد فيه مفتوحة لقياس أحكامه على غيره مما فيه أحكام نصية، وتربط بينها علاقات. كما يشير د. اعمارة إلى ان وقوف النصوص القرآنية عند الكليات وقواعد التشريع مع تركه شرح وتفصيل التشريع لاجتهاد الفقهاء. وهو الذي جعل أحكام القرآن في المعاملات والعبادات والأخلاق صالحة لكل زمان ومكان.
 
 تركيب:
 وبعد هذا العرض، يتضح لنا مفهوم التجديد الذي نقصده، وكيفيته، وهو بإدراك الواقع بعوالمه المختلفة وربط الواقع بالمصادر مع الالتزام بالحدود الأساسية للمجتهد المسلم. فالتجديد يكون في الفروع لا في الأصول وفي الظنيات لا في القطعيات وفي المتشابهات لا في المحكمات، لهذا ينبغي أن تكون الفتوى جماعية قدر الإمكان صادرة عن مجامع فقهية وهيئات كبار العلماء، ويجب أن لا تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمؤثرات الأخرى، إلا أن هذا لا يعني الاستغناء عن الاجتهاد الفردي الذي يكشف الطريق ويمهده بما يقدم من دراسات رصينة تضيء الطريق وتكشف معانيه، وينبغي للفقيه أن يتوجه في اجتهاداته إلى المسائل المعاصرة، فيتصدى لها ويستنبط الاحكام لها في ضوء النصوص والقواعد الكلية للفقه، وأن لا يستهلكه تقرير المسائل القديمة دون النظر.
 
 وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاجتهاد بالنسبة للمجتهدين قد أصبح أمره أيسر من الزمن الماضي من ناحية توفره على المراجع وطباعتها وكونها في متناول الباحث. وحتى لا نُحبط عزيمة المجتهد، يجب أن نعترف بإمكانية الوقوع في الخطأ وتقبله، وبدل إصدار الاتهامات لمن يجتهد، ينبغي أن نشجعه بإصدار النصائح وتوجيهه. فالمجتهد من أهل الاجتهاد، إذا أصاب له أجران، وإذا أخطأ فحسبه أجر الاجتهاد، لأنه بهذا الاجتهاد قد يفتح بابا كان مغلقا ولنا في شيخ الإسلام ابن تيمية قدوة، فقد كان من المجددين، وقد قاومه أهل عصره وأساؤوا به الظن ثم انتفعوا بعد هذه الإساءة بعلمه واجتهاده، ولازلنا إلى اليوم نفيد من تجديده في مجالات كثيرة.
 


رقم: 288596

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/288596/تجديد-الخطاب-الديني-الاجتهاد-نموذجا-2

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com