النهاية الأمنية والعسكرية للارهاب الداعشي لا تعني نهاية أوهامه، و لا غلو خطابه الثقافي في مخاطبة جماعات تتماهى مع كثير من أوهام التاريخ والسلطة، لذا بات من الضروري اعادة قراءة سسيولوجيا الانتصار على وفق استحقاقاته الميدانية والثقافية في آنٍ معا، وهو ما يتطلب وضع الملف الثقافي في سياقٍ موازٍ للملفات السياسية والامنية والاقتصادية .
الكاتب:عــلــي حــســن الفــواز
هزيمة الارهاب في العراق تعني فتح أفقٍ لمرحلة جديدة من مراحل بناء الدولة العراقية، ومواجهة جديدة في سياق استحقاقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبقطع النظر عن توصيف هذه الدولة، وطبيعة القوى الفاعلة فيها
فإنّ تجاوز عقدة الجماعات اللادولتية، والانتصار عليها عسكريا يتطلب الاستعداد الحقيقي للمرحلة القادمة.
السؤال البنيوي الخطير يكمن في ضرورة التعرّف على تلك المرحلة، وعلى طبيعة العلاقات الحاكمة فيها، ومدى استعداد قوى (المجتمع السياسي) للانخراط فيها، على وفق الاستحقاقات الديمقراطية، أو ضرورات التوافق السياسي.
ماشهدته وقائع تأسيس الجمهورية السادسة في مرحلة مابعد 2003 يعكس حقيقة التشوهات التي تكرست في تاريخ الجمهوريات العراقية منذ عام 1958 والى عام 2003، إذ فرضت غلبة المؤسسة العسكرية على النظام السياسي معطيات أسهمت في التأسيس العُصابي للديكتاتوريات وللعنف السياسي والايديولوجي والعسكري، وصولا الى العنف الطائفي..
فما جرى من أحداث، ومن حروب ومن صراعات أهلية ليس بعيدا عن السلطة، وأنّ مرجعيات تلك السلطة الطائفية والايديولوجية والعسكرية أسهمت الى حدٍّ كبير في صناعة محنة الدولة الفاشلة، وفي إفقادها هويتها الوطنية الجامعة، مثلما أسهمت في صناعة ظاهرة الارهاب بوصفه (وهما) حمائيا للجماعة والطائفة، ولاستعادة أنموذجهما العصابي عبر المتخيّل الطائفي للدولة القديمة، ولما يُسمّى بالفرقة الناجية..
النهاية الأمنية والعسكرية للارهاب الداعشي لا تعني نهاية أوهامه، و لا غلو خطابه الثقافي في مخاطبة جماعات تتماهى مع كثير من أوهام التاريخ والسلطة، لذا بات من الضروري اعادة قراءة سسيولوجيا الانتصار على وفق استحقاقاته الميدانية والثقافية في آنٍ معا، وهو ما يتطلب وضع الملف الثقافي في سياقٍ موازٍ للملفات السياسية والامنية والاقتصادية، من منطلق الحاجة الى صياغة رأي عام فاعل لدعم فاعلية الانتصار نفسيا واجتماعيا، وتنشيط عمل المؤسسات الفاعلة في الميدان الثقافي الرسمية والمدنية، وتأمين كل عناصر الاسناد والدعم لها، فضلا عن اعادة النظر بوظائفية الخطاب الاعلامي، على مستوى التخطيط، وعلى مستوى السياسات الستراتيجية التي تعني تحفيز الخطاب الثقافي المعرفي، والخطاب الديني الثقافي، والخطاب الاجتماعي التحليلي، لأنّ إدراك أهمية هذه المستويات يتطلب معالجات علمية ومهنية ومادية، وباتجاه إيجاد البيئة المناسبة لصناعة الرسالة والفكرة والوسط الناقل، والمؤثرة، فضلا عن تهيئة المتلقي والجمهور المُستهدف للتفاعل والتواصل مع الخطاب الجديد، فما هو سائد في فضائياتنا يعكس اهتماما استثنائيا بالصورة الحربية والسياسية، وبالخطاب الذي له علاقة مباشرة بميدان المعركة، وهو ما يُلبّي الحاجات اليومية للحرب مع داعش، وحاجة الجمهور للتعرّف على الميدان، لكن طبيعة المعركة المُعقدة مع الإرهاب، تتطلب جملةً أخرى من الإجراءات الفاعلة، والتي تنطلق أساسا من ستراتيجية مواجهة الارهاب بوصفه خطابا ثقافيا، والانتصار على أوهامه التاريخية والطائفية والجماعاتية.
وهذه الستراتيجية تعني وجود التشريعات الحمائية من جانب، مع وجود الدعم والتقانات والمؤسسات التي تكفل عمل الخطاب الاصلاحي والتأهيلي من جانبٍ آخر، مثلما تعني الحاجة الى تأمين الزمن الحيوي للبث، واستثمار الطاقات العلمية والثقافية والاكاديمية المهنية للمشاركة الفاعلة في ذلك، بعيدا عن العشوائيات التي نجد للأسف بعض مظاهرها في وسائل اعلامنا الفضائي..
الحديث عن شيوع خطاب السلم وخطاب الكراهية يرتبط بطبيعة الجهات المسؤولة عن ميدان المعركة الفكرية، إذ إنّ التخطيط لهذه المعركة وتأمين مصادر نجاحها وديموتها فنيا ومهنيا وعلميا وماديا سيكون فاعلا في التأثير على مستوى المعطيات المُشكّلة للخطاب، أو على مستوى صياغة الخطاب ذاته، وعلى إختيار العناصر الكفوءة والمؤثرة في صناعة رسالته في سياق فاعليات التواصل الاجتماعي المباشر وغير المباشر، فخطاب السلم يرتبط بالبيئة المُنتِجة له، وبطبيعة السياسات والبرامج التي تقف وراءه، لاسيما في البيئات التي يكون فيها هذا الخطاب مؤثراً على جماعات متعددة تجد في السلم المدني والسياسي مجالا لممارسة حياتها دون اكراهات وضغوط.
كما أنّ لخطاب الكراهية مرجعيات ودوافع وحوافز مضادة، ووسائل تعمل على اختيار البيئات الهشة لبث رسالتها في أوساطه الاجتماعية معينة، لذا تتطلب الحاجة الى مواجهة هذا الخطاب فاعليات واقعية، واجراءات ميدانية تدرك خطورة هذا المُعطى، ومجالات تتصدى تربويا ودينيا وتعليميا وتاريخيا ومعرفيا لاشاعات الفكر التكفيري، من خلال دعم وتنشيط وسائل الاعلام لتكون بمستوى التحديات، ولتنظيم المؤتمرات العلمية الهادفة لرسم السياسات، وللتخطيط ومناقشة الظواهر الحادثة، وعبر مشاركات فاعلة وليست عشوائية، ومن خلال العمل على تبني المعالجات الثقافية وتنمية مهاراتها وخبراتها، بوصف هذه المعالجات هي الاجراء الميداني الحقيقي، وهي جوهر الخطاب الذي ينبغي تبنّيه في مرحلة مابعد الحرب الميدانية ضد داعش والجماعات الارهابية والتكفيرية...