QR codeQR code

صهينة القدس بالدعاية الثقافية

تنا

3 Jan 2018 ساعة 10:37

لم تكن هجمة الاحتلال على القدس فيزيائية ميدانية وحسب، بل سبقتها هجمة دعائية بالأحرى ما زالت تفاعلاتها تتواصل، فخطاب الاحتلال بشأن القدس ارتكز أساسا إلى ذرائع ثقافية وتاريخية منحت أهمية خاصة لاستغلال الإعلام الثقافي في خدمة دعايته.


حسام شاكر   
ويعبر خطاب الاحتلال بأقدار ملحوظة عن مسعى صهينة القدس الذي يتجلى في مصطلحات الخطاب ومفرداته وتعبيراته، بما في ذلك لغة الصورة والمشهد بإمكاناتها المتجددة، والتي امتدت إلى استعمال تقنية الكاميرا الطائرة بما تتيحه من امتياز الإطلالة الشاملة على المكان التي تدغدغ نزعة الهيمنة الاستعلائية عليه، ويتم هذا المسعى بصفة صريحة وضمنية، واضحة ورمزية، فثمة صهينة إيحائية للقدس أيضا.

ولهذه الدعاية مفعول وظيفي مزدوج باتجاه القدس وباتجاه الاحتلال ذاته، فهي دعاية ترمي في مقصدها العام إلى مصادرة المدينة معنويا، وشرعنة احتلالها على نحو مؤبد، ونفي هويتها وانتمائها الحقيقي العربي الفلسطيني تاريخيا وثقافيا، وتهميش مقدساتها الإسلامية والمسيحية، ونزع الشرعية عن المطالب الفلسطينية العادلة في السيادة عليها. 

لكنها في المقابل دعاية تستعمل القدس لإكساب الاحتلال ذاته قيمة معنوية، فتأتي الإشارة المؤكدة إليها في هذا المقام علامة مشبعة بالرموز وكأنها البرهان المرئي على مقولة "الحق التاريخي" الواهية، فأي معنى للتاريخ إن لم يتم الزج بالقدس في مشهد الاحتلال؟ فقيمة القدس مطلوبة لتسويق للاحتلال إذاً، وهي مرتكز مهم في مسعى توسيم "Branding" كيانه.

وقد جاءت هذه الانتباهة إلى "مفعول القدس" مبكرة جدا في مسار الحركة الصهيونية حتى أن النشيد الصهيوني "هاتيكفاه" -أي الأمل- قد كتب نصه الأصلي اليهودي الأوروبي الشرقي نفتالي هرتس أيمبر دون أن يذكر القدس فيه بوضوح، مكتفيا بتعبير "المدينة التي نزل عليها داود"، وهو تعبير مستوحى من سفر إشعيا في التوراة، لكن الدعاية الصهيونية حذفت هذا التعبير لاحقا لصالح "بلاد صهيون وأورشليم" والرسالة واضحة.

تعبئة متعددة المسارات
يتمدد مسعى صهينة القدس وابتلاعها معنويا عبر جهود تعبئة متعددة المسارات، ومنها المسار الشبكي الذي يشهد جهودا متعاظمة عبر مقاطع وملصقات ومواد متعددة مبثوثة في الشبكات.

ولا تأتي دعاية الاحتلال بشأن القدس في قالب أحادي، بل تتمظهر وتتكيف حسب السياقات والأوساط والخصوصيات، إذ تتكثف هذه الدعاية مثلا باستعمال الإيحاء الديني لدى مخاطبتها الأوساط المسيحية البروتستانتية تعزيزا للخط الصهيوني فيها، وذلك عبر منابر إعلامية وتشكيلات في المجتمع المدني، وبعضها قائم من داخل هذه الأوساط والكنائس ويقوم بالتعبير عن خطاب مناصرة نظام الاحتلال والتعاطف معه، وتتنامى في المقابل مواقف وأصوات من داخل كنائس بروتستانتية تنبذ الاحتلال وتؤيد الحقوق والعدالة في فلسطين ضمن قراءات متعددة لذلك حتى طورت جهودا إعلامية وتحركات نشطة ضد الاحتلال والاستيطان والصهينة.

ولا شك في أن الرواية الدعائية التي يتم تقديمها للعالم هي رواية "تسويقية" وليست أمينة -بالطبع- في تعبيرها عن الرؤى والأطماع الذي تعتمل في نظام الاحتلال نحو القدس، بما في ذلك الرؤى الدينية اليهودية غير المتطابقة أصلا بشأن القدس عموما، والمسجد الأقصى خصوصا. 

رداء وجرافة ومقطع
لم تكن وزيرة الثقافة والرياضة في حكومة الاحتلال ميري ريغيف المعروفة بنزعتها الفاشية وحدها التي باشرت الانخراط السافر في الدعاية الثقافية عندما برزت في مايو/أيار 2017 على البساط الأحمر في مهرجان كان السينمائي الدولي برداء يحمل تطريزا للقدس القديمة بمقدساتها الإسلامية والمسيحية. 

وقد حظي هذا المسعى الاستعراضي بعناية مستمرة من كبار المسؤولين الإسرائيليين الذين لم يترددوا في إلقاء الكلمات على مسامع الوفود العربية التي تقاطرت لإبرام تسويات سياسية مع الجانب الإسرائيلي في جولات كامب ديفد ومدريد وأوسلو عبر التغني المفتعل بما سموها "أورشليم القدس". 

ولم يتأخر داني أيالون نائب وزير الخارجية الأسبق (2009-2013) عن استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لتعميم مواد ومقاطع مكرسة لصهينة القدس ثقافيا حظيت بانتشار واسع، معبرا بهذا عن استمرارية جهود الدعاية الثقافية مع جيل جديد من السياسيين الإسرائيليين.

جرى ذلك في حين كانت جرافات الاحتلال تعمل فوق الأرض وفي أعماقها لتوفير مسرح عمليات الصهينة الثقافية على نحو يحاكي السردية الصهيونية الهشة، فقد تم التوسع في ثقافة المزارات التاريخية والثقافية في القدس المحتلة إلى درجة محاولة تحويل المسجد الأقصى المبارك ذاته إلى مزار صهيوني، بما يرافق ذلك من تعبئة متعددة الأشكال والوسائط، وهي قائمة عمليا في العالمين الواقعي والافتراضي. 

ومن الوسائل التقليدية التي تواصلت بلا هوادة في هذا الاتجاه إقامة المعارض والمتاحف في القدس وفلسطين المحتلة عموما، والمشاركة بمعروضات متحفية عبر العالم، مع ملاحظة أن كثيرا من المقتنيات المعروضة تم جمعها غالبا بأسلوب السلب وغنائم العدوان.

وتباشر إعلانات الترويج الثقافي للقدس أو لفعاليات ومزارات فيها النهوض بقسطها من توجهات الصهينة الثقافية، ومثالها الحملة الدعائية الثقافية الكبرى حول العالم التي حملت عنوان "أورشليم-القدس 3000 سنة" في أواسط التسعينيات من القرن العشرين. 

وتزاحمت الوثائقيات الفيلمية والتلفزيونية ذات المضامين الثقافية لتعزز هذا المنحى، ولا يغيب مفعول المضامين الثقافية المصاحبة والضمنية في سياق أعمال درامية وسينمائية تتضمن إشارات واضحة أو مستترة إلى القدس من منظور احتلالي في بعض الأفلام والمسلسلات والمواد التلفزيونية.

ونشطت الدعاية الآثارية بشكل عز نظيره عالميا لمصادرة تاريخ القدس وفلسطين حتى غدت ملهمة لدول عدة مع توظيف العملات المسكوكة والورقية وطوابع البريد والشعارات الرسومية (لوغو) ومرافق المؤسسات المرتبطة بالاحتلال في العالم (شركات الطيران مثلا) كوسائط لتسلل مضامين الدعاية الثقافية عموما والآثارية خصوصا بشكل طاغ.

وقد أدرك الفاعلون في هذه المنظومة الدعائية مفعول استعمال مواد ثقافية مخصوصة، من بينها مثلا المأكولات والأطباق المنتحلة كالحمص والفلافل مثلا التي تتحول إلى رموز ثقافية لا تكتفي بمصادرة هذه الأطباق بل ونفيها عن أصحابها وثقافات شعب فلسطين وأهالي المنطقة. 

وتلحق بذلك كتب الطبخ المختصة بالقدس، سواء منها التي تأخذ منحى شاملا في الصهينة، أي عبر مصادرة مطبخ القدس ككل، أم تسير في منحى تطبيعي زائف من خلال تقديم مطبخ القدس على أنه مطبخ يهودي-عربي.

الصهينة في الإعلام السياحي
ينطوي الإعلام السياحي المتفرع عن الإعلام الثقافي عموما على تأثير واسع في اتجاهات تعريف الأمم والشعوب بالبلدان والثقافات والروايات التاريخية عنها، وما يزيد من تأثير الإعلام السياحي في هذا الشأن أن مضامينه أقدر على التسلل إلى إدراك الجمهور بقابلية استيعاب نفسية مريحة نظرا لانفتاح السائح وإقباله على المكان وشغفه باكتشافه، ولا تخضع مضامين التثقيف السياحي للتمحيص العلمي عادة، فهي قابلة للتمرير دون استدعاء الحس النقدي بالمنسوب الذي يتوقع مع الإعلام الثقافي والتعريف العلمي والوثائقيات، مما جعل الوسائط السياحية حافلة بالأساطير عموما. 

وعندما تأتي مواد الدعاية السياحية كعادتها مصورة أو مشفوعة برسوم فإنها تهيئ للرسائل التي تتضمنها فرصا أفضل في سلاسة التلقي وجاهزية القبول لدى الجمهور. 

وتأتي الصور والمشاهد التي يشتمل عليها الإعلام السياحي بمواصفات مثالية وحالمة وانتقائية وشديدة التحيز في مواصفات الاختيار والالتقاط، مما يرجى منه أن يغطي على واقع الاحتلال والانطباعات السلبية عنه.
وتتيح مواد الإعلام السياحي امتيازات نوعية في التعبير عن السيادة على المكان والهيمنة على حاضره وانتحال تاريخه، فهي تقوم على استدعاء أشهر المعالم التي تعرف المدينة من خلالها، أي القدس، ونسبتها إلى نظام الاحتلال. 

ولا تأخذ المضامين السياحية في شكلها الظاهر صفة سياسية أو دعائية محضة لصالح نظام احتلال، بل تبدو بشكل عام سياحية أو ثقافية، مما يشحنها بمبررات تبدو معقولة للعرض الواسع في مرافق عامة ووسائل إعلام خلافا للدعاية السياسية المنبوذة عادة، وهكذا لا تستنفر دعاية الاحتلال التي تتذرع بالسياحة جهودا مناوئة لها عادة، ورغم أن هذه المواد لا تأتي في كثير منها منسوبة بصفة مباشرة أو غير مباشرة لنظام الاحتلال بل عبر مؤسسات سفر وشركات سياحة فإنها تتقمص مضامين دعاية الاحتلال بإخلاص واضح ولو جاء ذلك بشكل إيحائي غير مباشر. 

دعاية ترويج السيطرة
تتمظهر دعاية الاحتلال السياحية حول العالم بشأن القدس في أشكال وقوالب متعددة تتصدرها إعلانات الترويج السياحي المباشرة باسم هيئات تتبع نظام الاحتلال أو منشآت ومرافق فيه، أو باسم شركات سياحة وسفر تعمل عبر العالم. 

وتلحق بذلك مواد الإرشاد السياحي على أنواعها، مثل الخرائط والمطويات والتطبيقات الإلكترونية والمقاطع، علاوة على مضامين الإرشاد السياحي المباشر الذي يقوم به مرشدو الاحتلال في القدس وفلسطين والمواد السمعية المعدة لذلك في حافلات الجولات السياحية مثلا، ويقع في هذا الصدد تجاوز المرشدين السياحيين المقدسيين عبر تدابير تهدف إلى احتكار هذه المهمة لصالح المرشدين الإسرائيليين بما يقدمونه من روايات صهيونية منسوجة بعناية.

ولكتب الأدلة السياحية المعدة لرفقة السائح أو لتعريفه بالوجهات السياحية تأثيرات فعالة في هذا السياق، وهي قد تأتي بصفة تطبيقات ومقاطع وأفلام، وكذلك الحال مع المواد الترويجية التي تنتجها وكالات السياحة والسفر، سواء المطبوعة منها أو الإلكترونية، مثل كتيبات الترويج والمواقع والصفحات الشبكية ذات الصلة.

وتلحق بذلك كله مضامين وأبواب "سياحية" في مواقع شبكية التابعة لدعاية الاحتلال بشكل مباشر أو مرتبطة به بشكل أو بآخر، علاوة على وفرة متضخمة من الصفحات والحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة الذكية.

وتراهن أجنحة الاحتلال في معارض السياحة والسفر عبر العالم على استعمال فنون الجذب والعرض وتوظيف شتى المواد الدعائية المتاحة، كما أن القدس المهودة حاضرة في بعض أبواب السياحة والسفر ضمن وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية كما عليه الحال مع برامج ذات صلة تقتطع حصصا في محطات التلفزة عبر بلدان عدة، ومنها محطات معربة كما فعلت قناة "دويتشه فيلله" الألمانية بالعربية التي بثت حلقة تحث على زيارة تل أبيب ومرافقها الثقافية (نوفمبر/تشرين الثاني 2017). 

وتلحق بذلك مجلات مختصة بالسياحة والسفر، ومجلات شركات الطيران المخصصة لمرافقة المسافرين في الرحلات الجوية، ومثلها مجلات شركات نقل المسافرين برا (القطارات) وبحرا، فالقدس عندما تحضر في كثير منها تبدو "إسرائيلية" وليست فلسطينية ولو بصفة إيحائية.

ومع اتساع التشبيك الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي بات السياح أنفسهم فاعلين إعلاميين صاعدين، فهم يتناقلون مواد وصورا وتعليقات وتدوينات من واقع معايشتهم وتصويرهم رحلات سياحية ضبط نظام الاحتلال مسارها ومحطاتها، وأخضعهم لزوايا الالتقاط المفضلة لديه، وجعل رحلاتهم مشفوعة بروايته الدعائية، مما ينعكس على مواد السياح وصورهم وتعليقاتهم وتدويناتهم بدرجة أو بأخرى.

مع ذلك كله فإن معضلة دعاية الاحتلال تبقى مع الحقيقة ومع الواقع الكريه الذي أقامه هو ذاته على الأرض من الجدران والحواجز والتنكيل والغطرسة، وهو ما يرصده ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي أيضا من أنحاء العالم ويفضحونه على نحو متزايد.

ولم تكن الذكرى الخمسون لاحتلال شطر القدس الشرقي مناسبة اعتيادية، مما حرض القائمين على دعاية الاحتلال الثقافية على المبالغة في إظهار هيمنتهم على المدينة فقاموا في يونيو/حزيران 2017 باستعمال الهندسة الضوئية لصبغ أسوارها القديمة بألوان علم الاحتلال. 

كان مشهدا مفتعلا لإظهار اكتمال فعل السيطرة المتغطرس، لكن الرد الحي والنابض جاء بعد أسابيع قليلة من ذلك في هبة باب الأسباط عندما احتشد المقدسيون والمقدسيات خلال صيف 2017 داخل الأسوار وخارجها في مواجهة جماهيرية مدنية مجيدة استغرقت أسبوعين كاملين على مرأى من العالم ومسمع أظهرت للجميع وجه المدينة الحقيقي وألوانها الواقعية.


رقم: 303073

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/303073/صهينة-القدس-بالدعاية-الثقافية

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com