يشتمل الكيان اللبناني على جملة تنوعات دينية وطائفية ومذهبية إضافةً الى إحتضانه لشرائح واسعة ومتنوعة من الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية والتربوية والإجتماعية..ويشكل هذا التنوع قاعدة مهمة جداً ووعائاً جامعاً يمكن أن يجري في داخله عملية تفاعل كبيرة بين هذه المكونات وبإتجاهات متعددة..
وكما انه يمكن لهذا التنوع أن يكون نعمة على لبنان، بحيث تظهر هذه التنوعات مكنونات أفكارها وعقائدها ومواقفها بما يفتح المجال الثقافي والفكري والسياسي على آفاق رحبه وواسعة تطلق حال لقائها نتاجات نوعيه بتلاوينها المختلفة، يمكن أن يشكل هذا التنوع نقمة على اللبنانيين، حين يتحول الى مادة خلاف وإختلاف يؤدي الى إنحسار الفضاء الديني والثقافي العام الى تحيزات طائفية ومذهبية عصبية تنغلق دوائره على ذاتها أو تنفتح هذه الدوائر بطريقة سلبيه على بعضها البعض.
وحتى يكون التنوع نعمة لا بد من ان تتوفر جملة شروط لازمة، تدفع بهذه الدوائر الصغرى للإلتحام بالدائرة الدينية والثقافية الكبرى، وهنا لا بد من التأكيد على ان توفر مناخات الحرية من شانه ان يدفع هذه المكونات المتنوعة الواحدة باتجاه الاخرى بحيث تتحول الى مساحة حيّة للتعدد ضمن دائرة الوحدة.
ومن أهم شروط التنوع داخل الوحدة، أن تعترف هذه المكونات بتلاوينها كافة بعضها بالبعض الاخر، وأن تسود حال من الثقة المتبادلة فيما بينها، وأن تجتمع على ثوابت تشكل قواسم مشتركة وضمانة جامعة لعدم تحول هذا التنوع الى إختلاف، الذي يؤدي بدوره الى نزاع وربما صراع.
ومن هذه الثوابت المشتركة الضامنة لحفظ الإطار الوحدوي الوطني والديني الذي يؤدي تلقائياً الى الوئام السياسي والإجتماعي والأمني فضلاً عن الثقافي والفكري، هو التوافق على مبادىء اساسية جامعة منها واهمها، أن اللبنانيين لاي جهة انتموا هم سواسية في الوطن والمواطنية، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وأن ليس لأحد منهم إمتياز إنساني أو سياسي أو إجتماعي على الآخر، وأن العدالة هي الحاكم لعلاقاتهم فيما بينهم، فلا يكون هناك فئات تحظى بإمتيازات وتستأثر بمقدرات الوطن وأخرى مُستبعده ومنبوذه تلتقط فتات الطوائف الاخرى، ولا يكون هناك مواطنون أو طوائف مصنفة من الدرجة الأولى وأخرى مصنفة من الدرجات الأدنى، وأن تكون الدولة التي تسعى الى تأمين الوحدة والوئام ممثلة للجميع وموضع إحترام وتقدير الجميع..
هذا من جهة، ومن جهة اخرى، لا بد من أن يكون هناك إتفاق على هوية لبنان ودوره، فقرائتنا للتاريخ اللبناني يحيلنا باستمرار الى إستنتاج مؤسف وحيد وهو أن الإختلاف على هوية لبنان ودوره كان دائماً محل خلاف واختلاف، وأن هذا الخلاف سرعان ما كان يتحول الى نزاع أو صراع، وخاصةً عند تبدّل موازين القوى بين فئاته وأتباع أديانه وطوائفه..
نحن نعتقد أن ما تقدم من شأنه أن يخلق من تنوع لبنان الثقافي والديني حال غنى وتماسك، وأن يشكل هذا الغنى والتماسك حالة ممانعة تحول دون إنقسامه على ذاته، وأيضاً تحول دون دخول عوامل خارجية على جسمه تسهم في خلخلته وإنقسامه وتفتته.. بل أكثر من ذلك، من شأنه ان يجعل التعاطف الخارجي مع أفرقائه، عاملاً مساهماً في مضاعفة غنى الحياة الدينية والثقافية وحتى السياسية المتنوعة، خاصة اذا خضعت هذه التعاطفات او التداخلات للمصالح اللبنانية المشتركة.
وبمطلق الأحوال، فإذا تعذر على اللبنانيين تحقيق شروط التنوع داخل الوحدة، فإن منطق الإيمان بالوطن والدين والعيش المشترك يقتضي أن ننظم خلافاتنا ونديرها بطريقة تحفظ جمهور الوطن ومؤسساته وإنجازاته، فتنظيم الخلاف يجب ان يقوم على قاعدة تعزيز ما نتفق عليه والتحاور حول ما نختلف عليه، فما نتفق عليه نضيفه الى رصيدنا الوطني والديني والثقافي والإنساني، وما نختلف عليه نذره في دائرة البحث والنقاش الى حين الوصول به الى القواسم المشتركة، ولا نجعله مادة خلافية متفجرة تحيل إيجابيات التنوع الى مادة مشتعلة تحرق من خلالها ما نتوافق عليه..
يقال أن لبنان رسالة الى العالم، هو رسالة بتعايش وتفاعل تنوعاته الدينية والثقافية، ويكون رسالة الى العالم عندما تحرص كل مكوناته على الاجتماع حول كل الإيجابيات الموجودة داخل هذه التنوعات، ومن هذه الإيجابيات المشتركة، قيم الأديان السماوية التي يلتزمها أبناءه ويدينون بها وهي كثيرة جداً، ويمكن أن تشكل ضامن لتعايشهم ووئامهم، وأيضاً قيم التجربة المدنية الإنسانية التي أنتجها البشر فيما بينهم لتحقيق تلاقيهم وإجتماعهم الإنساني..أن سيادة هذه القيم من شأنها إشاعة المحبة والتسامح والتكافل والتضامن بين أبناء الوطن اللبناني الواحد، اما إذا سادت القيم السلبية، بحكم إنعدام الثقة وسوء الظن والطوية بين اللبنانيين بعضهم إتجاه البعض الآخر، فإن اللبنانيين سيغلّبون عندها القيم السلبية من حقد وبغضاء، وأن يتسلح كل منهم بما يستعين به على الآخر تهميشاً وإلغاءاً، وقد رأينا كل ذلك فيما مضى، ونرى مثله اليوم، وبالتالي فإنه بدل أن يكون التنوع الديني والثقافي غناً للجميع، فسيتحول الى نقمة تعمّ الجميع دون إستثناء.
وهنا على اللبنانيين أن يختاورا الصورة التي يجب أن يقدمونها عن أنفسهم لأجيالهم وللعالم أجمع، هل هي صورة الوطن المتنوع، والمغتنية وحدته الوطنية بهذا التنوع، أم هي صورة الوطن المتخلف الذي يحوّل تنوعه الى عصبيات تتعامل فيما بينها للهيمنة والإستئثار والتهميش والالغاء؟..
* باحث اسلامي