QR codeQR code

المعرفة و السلطة(1)

نحو عالم بلا دبلوماسية سرية

سمير كرم

11 Dec 2010 ساعة 15:45


أياً كان الرأي الشخصي لكل منا وأي منا في جوليان اسانج والمجموعة المتعاونة معه في عملية فضح اسرار الدبلوماسية الغربية، فإن علينا ان نسلم بأنه قام ولا يزال بعمل ثوري من طراز جماهيري رفيع قد يحدث في حياة الأجيال الحية الآن والأجيال التالية تحولاً هائلاً. 

ربما هناك من يعتبر اسانج خارجاً على القانون، لكن ألم يكن كل الثوار من وجهة نظر النظام القديم الذي ثاروا ضده خارجين على القانون؟ الم تفشل انقلابات وثورات كانت لها اهداف أنبل من تلك التي نجحت ونفذت احكام الاعدام ضد من نفذوها، فأعدموا أو سجنوا أو في أقل التقديرات تم نفيهم الى خارج اوطانهم؟ لعل الفرق الهائل بين ما يفعله اسانج هذه الايام وما فعله اولئك الذين ثاروا على نظام حكم ظالم أنه إنما يقوم بثورة ضد نظام عالمي من العلاقات الدبلوماسية يعمل بكل جدية ودأب على إخضاع الشعوب كل الشعوب لمصالح النخبة الحاكمة في ظل هذا النظام العالمي. بل إن ما يدعو للإعجاب حقاً في ثورة اسانج، او ثورة الويكيليكس العالمية ان اسانج ورفاقه لا ينتظرون ليعرفوا نتيجة ما فعلوا. لقد نجحوا اياً كانت النتائج من وجهة نظر خصومهم سادة النظام العالمي القامع. 

لا حاجة لأحد لأن ينتظر ليعرف اذا كانت اهداف هذه المجموعة الثورية ستتحقق ام لا. إنها تتحقق كل يوم امام اعين من له عيون مفتوحة وعقل مفتوح لرؤية ما يجري. سيبقى اسانج وزملاء له مطاردين من بلد الى بلد ومن مخبأ الى اّخر وحتى إن هو وقع في ايدي اعدائه العلنيين او السريين، فإن ذلك لن يقلل من اهمية ما أداه من اجل نظام عالمي اكثر شفافية ووضوحاً وصراحة، بلا جوانب مظلمة او ابواب مغلقة بالضبة والمفتاح. بل لا بد ان نضيف ان الرجل ورفاقه من قادة هذه الثورة اكتشفوا طبيعة العالم في هذا العصر. لقد ادركوا ان ثورة جديدة ضد النخب العالمية الحاكمة لا تحتاج الى إرهاب ولا الى مدافع ولا متفجرات. 

إنه عصر المعرفة وبالمعرفة يمكن تقويض النظام العالمي الجائر الذي يستبد بالضعفاء من كل نوع: الضعفاء سياسياً، المقموعون داخل بلاد حوّلها النفوذ الخارجي الى سجون، الضعفاء اقتصادياً الذين يموتون جوعاً او مرضاً او حسرة لقلة سبل العيش وأحيانا انعدامها. لقد تحرك اسانج بقواه الثورية المعرفية في المجال الحيوي الذي به يتسم العصر بأدوات إنتاج المعرفة وإنتاج وسائل نشرها وانتشارها. وهاهي الوثائق السرية التي تحكم العلاقات الدولية في عصرنا الراهن تتكشف بنصوصها وأصولها بمئات الآلاف تكاد تقترب من نصف مليون وثيقة لا تغطي سوى فترة زمنية محدودة بهذا العقد الذي نعيش اّخر ايامه. 

من كان يصل خياله غير هؤلاء الثوار بقيادة اسانج ان توجيه هذه الضربات المعرفية الى الدبلوماسية باستخدام سلاح الكومبيوتر وشبكة الانترنيت العنكبوتية وورائهما الصحف المقروءة والمرئية يمكن ان يحدث هذا الزلزال القوي الذي يهز قصور الحكم والحكام في دول النخبة العالمية؟ من كان يتصور ان تصبح الدبلوماسية الدولية هدفاً لثورة المعرفة وأن تؤدي هذه الثورة وهي لا تزال في مرحلتها الانقلابية كل هذا التأثير باتساعه وعمقه؟ كثيرة هي الثورات التي انطلقت في بلد معين لتغير في ذلك البلد او في منطقته، ولكنها أثرت على نطاق اوسع بكثير من حدودها الجغرافية والسياسية. كان هذا حال الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وكان حال الثورة الروسية في بدايات القرن العشرين والثورة الصينية والمصرية بعدها بثلاث سنوات والكوبية على اثرها في منتصف القرن العشرين والإسلامية الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن نفسه.
 
امتد تأثير هذه الثورات الى ما وراء حدودها سياسياً واجتماعياً وثقافياً. لكننا اليوم نشهد ثورة لا حدود لها لتتخطاها. هذه ثورة عالمية الآفاق تتخطى المصالح الإقليمية والقارية لتنشر مقاصدها الى كل بقعة من الارض. والعالم لن يعود بعدها ابداً كما كان قبلها. لا يحتاج المرء لأن يكون قد تعرف تعرفاً مباشراً وجهاً لوجه على اسانج أو أي من رفاقه الثوريين ليدرك ان السابقة الوحيدة في التاريخ العالمي التي يمكن ان تكون قد اوحت لهم بهذه الثورة على الدبلوماسية النخبوية على الدبلوماسية السرية هي ثورة البلاشفة الروسية التي أطلقت نشاطها الثوري من مقر الثوري الذي اصبح وزيراً للخارجية في تشكيلها الحكومي، اعني ليون تروتسكي.
 
لقد انطلقت تلك الثورة في السابع من تشرين الاول ۱۹۱۷ وفي الشهر التالي مباشرة، قرر زعماء الثورة وعهدوا الى تروتسكي بأن ينفذ عملية نشر الوثائق السرية للاتفاقيات الجماعية والثنائية التي شاركت فيها حكومة روسيا القيصرية مع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، دول النخبة العالمية لذلك الزمان. كان هذا اول هجوم ثوري من نوعه على الاتفاقات السرية العالمية، وكان موجهاً ضد شعوب المنطقة العربية المتطلعة الى وعود هذه النخبة، بأن تنال استقلالها بعد ان تنتهي الحرب العالمية الاولى (۱۹۱۴-۱۹۱۸). 

كانت اتفاقات الدبلوماسية السرية تنص على نقيض ما وعدت به الأقطار العربية بشأن الاستقلال وبشأن الوحدة العربية. وفي لحظة لمعان ثوري قررت ثورة البلاشفة فضح هذه الاتفاقات السرية، وكانت تلك بداية ثورات في سوريا ولبنان والعراق والحجاز وفلسطين وليبيا. ذلك ان تلك كانت حدود عمل هذه الاتفاقات وتأثيراتها. وقتها كتب تروتسكي مع مرسوم فض السرية عن الاتفاقات السرية بين سير مارك سايكس الدبلوماسي البريطاني، وفرانسوا جورج بيكو الدبلوماسي الفرنسي: بنشر الوثائق السرية الدبلوماسية من أرشيف السياسة الخارجية للقيصرية، والحكومات البورجوازية المتحالفة معها، لفترة الاشهر السبعة الاولى من الثورة، فإننا ننفذ التعهد الذي قطعناه على أنفسنا حينما كان حزبنا في المعارضة. «ان الدبلوماسية السرية أداة ضرورية للأقلية المالكة التي تضطر لأن تخدع الأغلبية من اجل إخضاعها لمصالحها. إن الامبريالية بخططها الظلامية للغزو وتحالفاتها وصفقاتها للنهب، قد طورت نظام الدبلوماسية السرية لأعلى مستوى. والنضال ضد الامبريالية الذي ينهك ويدمر شعوب اوروبا هو في الوقت نفسه صراع ضد الدبلوماسية الرأسمالية، التي تتوفر لديها اسباب كافية للخوف من ضوء النهار. إن على الشعب الروسي وشعوب اوروبا والعالم كله ان تعلم الحقيقة التي توثقها الوثائق عن خطط التزييف في الخفاء، من جانب رجال المال والصناعيين معاً ومع عملائهم البرلمانيين والدبلوماسيين». 

كان ذلك زمناً مختلفاً مع ذلك تبدو الأهداف من فض السرية عن الوثائق التي خطها دبلوماسيو النخب الحاكمة كما كانت في عام ۱۹۱۷. كأن شيئاً لم يتغير من حيث الجوهر بين اهداف الدبلوماسية السرية في يومنا الحاضر وأهدافها كما كانت قبل ثلاثة وثمانين عاماً. وهو تطابق او حتى تماثل او تشابه يعوضه الفرق الهائل بين سرعة انتشار الوثائق التي فضت السرية عنها حكومة البلاشفة الثورية عام ۱۹۱۷ والوثائق التي تفض السرية عنها آلية ويكيليكس بقيادة اسانج. يعوضه الفرق الهائل بين آلاف المعنيين الذين أمكنهم الإطلاع على وثائق الإمبريالية الغربية في الخمس الاول من القرن العشرين وملايين البشر من كل أصقاع الارض الذين يتابعون اليوم فض السرية عن الدبلوماسية الغربية الاميركية والاوروبية وعلاقاتها مع النخب الحاكمة في البلدان الخاضعة او تلك التي يسعى هؤلاء لإخضاعها. 

ويبدو أنه لا بد من القول بأن الثورة على الدبلوماسية السرية لصالح الشعوب ولصالح علاقات صحية وشفافة بين المستويات الاقتصادية والاجتماعية كافة ما كان يمكن ان تكون حكومية. ليس فقط لأن الحكومات لا تملك وسائل الحصول على الوثائق لتكشفها، انما لأن الثورة لحساب حكومة او حكومات لم تعد تلقى الثقة والاطمئنان من الشعوب ولأن الحكومات ـ بصرف النظر عن درجة تحررها او رغبتها في التحرر ـ لا توفر القدر الذي توفره منظمات معرفية من الشفافية وعدم الرضوخ لمصالح ضيقة. لا ينفي هذا حقيقة ان ثمة حكومات ستتمكن من الاستفادة الفعلية من مئات آلاف الوثائق التي تنشرها ويكيليكس بحكم مواقع هذه الحكومات من حركة التاريخ. لكن اموراً كثيرة ستتوقف على طريقة استجابة كل من القوى التي تمثل في هذه الوثائق ضحايا النظام العالمي الراهن في مواجهة القوى التي تتشبث ـ كما فعلت بعد نشر الثورة البلشفية وثائق الدبلوماسية السرية ـ بدور المستغلين الذين يريدون بكافة الوسائل اللاشرعية الاحتفاظ بمصالح المتفوقين مالياً واستراتيجياً وثقافياً، اي اولئك الذين يتمسكون بدور الهيمنة في عالم لم تعد فيه الهيمنة مقبولة أخلاقياً. لا لن نقول حتى أخلاقياً لأن الواقع العالمي الراهن يكشف عن أحشائه الداخلية ويعري الأساليب اللاأخلاقية التي يلجأ اليها الآخذون بوسائل القوة والضغط بأشكالها كافة. إن العامل الأخلاقي اصبح يلعب دوراً مرئياً اكثر من اي وقت مضى. 

ولهذا نلاحظ على النخبة التي تتصدى الآن لثورة الويكيليكس انها تريد ان ترمي اسانج ورفاقه بصفات غير اخلاقية لكي تجد مبرراً لجرهم الى محاكمات وأشكال من الاضطهاد اقرب لأساليب العصور الوسطى الدينية التي كانت تبتعد عن الاتهامات المباشرة وتقترب اكثر الى افتراءات غير أخلاقية تستميل أفكار البسطاء. ومن المهم ان لا نساق ـ اذا كنا نؤمن بمبادئ الشفافية والمصلحة الانسانية العامة ـ الى إدانة هؤلاء الثوريين مهما اختلفنا مع ميولهم الفردية (ركزت الصحافة العربية كثيراً على امتداح اسانج لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لقوله إنه لا يرى في فض السرية عن الوثائق ما يضر بإسرائيل) فإن العمل الذي يقومون به كمجموعة جدير بالاستمرار (وسيأتي منه ما يكشف حقيقة إسرائيل ودبلوماسيتها السرية). والمهم بعد هذا ان نعي ان اهداف هذه الثورة ليست قصيرة الأجل ولا هي سريعة النتائج. لقد فتحت مئات آلاف من الأبواب نحو عالم بلا دبلوماسية سرية. 

السفير ۱۰/۱۲/۲۰۱۰


رقم: 33682

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/33682/نحو-عالم-بلا-دبلوماسية-سرية

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com