وكالة أنباء التقريب (تنا)
لا غرابة في أن يعيش فيدل كاسترو في عالم الحرب الباردة وموازين قواه ودور الإمبريالية فيها، أو أن يعيش في أوهام العقد الأول بعد انتهاء الحرب الباردة، فيحسب أمريكا الدولة العظمى الوحيدة القادرة على إسقاط الأنظمة على طريقتها مع دول حلف وارسو سابقاً.
ولا غرابة في ألاّ يلتقط، كما يجب، ظاهرة المقاومات في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان حين لم تعد من النمط اليساري المعهود. فهكذا فعل الكثير من اليسار في الغرب في البداية وبعضه ما زال متخبطاً أمام ظواهر المقاومات الجديدة لا سيما ذات القيادة الإسلامية.
ولكن هذه الغرابة تظل مفهومة لبضع سنين في البداية. أما أن تستمر حتى اليوم وتمتد لينسحب التخبط نفسه في التعامل مع الثورتين الشعبيتيْن في تونس ومصر، ثم لينفجر موقفاً مقلوباً على رأسه أمام الثورة الشعبية المليونية في ليبيا، فيرى كاسترو أمريكا وراء ثورة الشعب، ويرى القذافي ونظامه يمثل القوّة الثورية المناهضة لأمريكا، ولم يكن قد تابع ما ذهب إليه القذافي من استسلام لأمريكا بعد سقوط بغداد ۲۰۰۳.
ثم يصرّ على هذه الرؤية المتخلّفة المتخبطة حتى البلاهة، وحتى الانقطاع التام عن الواقع العالمي والإقليمي والعربي الشعبي الجديد إلى حدّ ذهب به (بكاسترو) إلى أن يسمّي ثورة الشعب "الاضطرابات في ليبيا" التي "ستنكشف أبعادها ومن حركّها بعد إجراء التحقيق فيها لاحقاً"، وحذر بأن ذلك استهدف التمهيد لتدخّل أمريكا والناتو لاحتلال ليبيا.
حقاً إنها لكارثة فكرية وسياسية جعلت كاسترو يعمى عن متابعة الصمت الأمريكي المتواطئ مع القذافي، والذي دخل الفضيحة مع تقدّم الثورة الشعبية، والتفاف عشرات الملايين من الجماهير العربية حولها ضدّ قيادة أوغلت في المساومة مع أمريكا والاستسلام للغرب واستباحت الشعب في الاستبداد والفساد.
على أن ما فيه غرابة أشدّ فذلك الالتباس الذي أحاط بموقف الرئيس الفنـزويلي الثوري هوغو شافيز، حيث وقف على الأرض التي وقف كاسترو عليها فعمي عن رؤية أين الثورة وأين الشعب من جهة، وأين القذافي وأمريكا والغرب من جهة أخرى. فأطلق تصريحاً ملتبساً محرَجاً يُفهم منه "أن القذافي يواجه حرباً أهلية" (يقصد ثورة بيضاء).
إن شدّة وضوح الصورة في الثورات الشعبية التي اجتاحت نظاميْن ورئيسيْن مُرتهنيْن لأمريكا في تونس ومصر، وتجتاح الآن القذافي ونظامه المتحالف علناً مع النظاميْن والرئيسيْن الساقطيْن المذكوريْن. وأخذت تضرب في عدد من البلدان العربية الأخرى، يجعل من موقفيْ كاسترو وشافيز فضيحة نظرية ومنهجية وسياسية.
إذا لم يصحح هذا الخلل بأسرع ما يمكن فإن كلاً من كاسترو وشافيز ومن قد يتأثر في موقفهما سيجدون أنفسهم خارج التاريخ الجديد للمقاومة والممانعة والثورات الشعبية. بل سيجدون أنفسهم يعمون عن رؤية خنادق أمريكا والعالم الإمبريالي الرأسمالي العولمي الذي أخذ بالتراجع وفقدان السيطرة والتدحرج نحو الانهيار، وذلك في حين يظنون أنهم اكتشفوا المؤامرة الأمريكية وراء الثورات الشبابية الشعبية المليونية العربية.
كما أن الثورة المندلعة من مصر في خمسينيات القرن الماضي كانت فاتحة لعهد الثورات وحركات التحرّر الشعبية، عربياً وعالماً ثالثياً وقد دفنت الاستعمار القديم فإن الثورات الشبابية الشعبية المليونية المندلعة في البلاد العربية ابتداءً من تونس ومصر والماضية الآن بقوة منتصرة بليبيا، ستكون فاتحة الثورات الشعبية وتغييرات عربياً ورأياً عاماً عالمياً وانتفاضات مماثلة لتعميق تصدّع أمريكا وتدهور سيطرتها العالمية بل ومؤذناً ببدء نضال عالمي لتغيير النظام العالمي الإمبريالي-العولمي وإقامة نظام عالمي أكثر عدالة في مصلحة الشعوب.
إن الثورات الشعبية التي تجتاح بلاد العرب اليوم هي ثمرة ما حققته المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان من انتصارات، وهي ثمرة لصمود الدول التي واجهت أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة بما كان يفترض بكاسترو أن يرى فيها أجمل أيام حياته وتحقيقاً لحلم عالمي عاش من أجله، بل كان يُفترَض بشافيز الذي افتتح عهد الثورة الشعبية، ولو من خلال صناديق الاقتراع، في أمريكا اللاتينية، بأن يرى في الثورة ضدّ مبارك وزين العابدين والقذافي تعزيزاً لما يناضل من أجله. بل دعماً له أمام هجمة مضادّة يتعرّض لها في فنـزويلا. فهذه الثورات ستزيد من خلخلة موازين القوى العالمية في غير مصلحة أمريكا.
إذا كان كاسترو قد أصبح شائخاً آفلاً يعيش في عالم الستينيات من القرن الماضي، ولم يعد باستطاعته التقاط الظواهر الجديدة للثورة العالمية ضدّ الإمبريالية، فإن شافيز وهو من جيل الظواهر الجديدة لهذه الثورة لا يحق له أن ينتكس بموقفه السياسي وهو يرى القذافي يتهاوى بعد أن عقد الصفقات المشينة مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وانقلب على كل ما كان يرفعه من شعارات في السابق.
إن سقوط القذافي ونظامه لا يختلف قيد أنملة عن سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك ونظامهما. فهذه ضربات على يافوخ أمريكا والكيان الصهيوني والعولمة. أما التصريحات التي راح يطلقها الساسة في أمريكا وأوروبا فهي انحناء أمام عاصفة الرأي العام التونسي-الليبي-العربي العام، بل العالمي العام، وهي محاولة للالتفاف على ثورات فاجأت أولئك الساسة وتهيئة للثورة المضادّة عليها. فكيف يُخدع بها كاسترو وشافيز؟