QR codeQR code

الوحدة الوطنیة السلاح الأقوى لمواجهة التحدیات

5 Mar 2011 ساعة 16:21

کتب المطران السوری "یوحنـا ابراهیـم" فی مقاله فی موقع "کلنا شرکاء" ان الوحدة الوطنیة هی السلاح الأمضى والأقوى لمواجهة کل التحدیات.


وکالة انباء التقریب (تنا) – دمشق ۵/۳/۲۰۱۱
و نقل مراسل وکالة انباء التقریب فی سوریا عن المقال ان الإنسان بشکل عام، أیاً کان دینه أو مذهبه أو انتماؤه، له الحق فی العیش الکریم فی المجتمع، لأنه یحمل هُوِّیة الانتماء إلى الوطن، الذی یعطیه الحق فی أن تمارَس حقوقه على أکمل وجه. والانتماء إلى الوطن فی الترتیب، یأتی الأول بین کل الانتماءات الأخرى، ولکن فی الوقت ذاته یبقى إخلاص المواطن للوطن هو المقیاس الذی یقوی الرابط بین الاثنین.
إن دساتیر الأمم والشعوب عادة هی التی تنظم حقوق المواطنة، ولکن لا ترتقی هذه الحقوق إلى المستوى المطلوب، إلا إذا ارتبطت بالإخلاص، والوفاء، والعطاء غیر المحدود تجاه الوطن.
من هنا فالمواطن الذی ترتبط جذوره بالوطن، ویشعر بأن کل ذرة من ترابه یتفاعل مع حیاته وینمو فی داخله، یکون على وعی تام لمواجهة کل التحدیات التی قد تجابه وطنه أو تعمل للقضاء علیه أو تفتیته أو تشویه سمعته.
والتاریخ هو الشاهد على أن المواطنة الصادقة کانت من أهم دروب حمایة الوطن. ففی کل الغزوات والاحتلالات التی مرت على وطننا مثلاً، قبل وبعد الإسلام، کان الوعی المفرط عند المواطن هو الذی یقف حاجزاً بینه وبین العدو. خاصة وأنه فی منطقتنا عامة، وفی وطننا بشکل خاص، لم تهدأ مخططات المحتلین لیس لاستبعاد الإنسان والاستیلاء على خیراته وطاقاته فحسب، وإنما لدک أسوار الحضارة التی کانت تجری فی عروق أبناء الوطن الواحد.
فمن الرومان إلى البارثیین فالساسایین وأخیراً البیزنطیین کانت هنالک مواقف مشرفة یبدیها المواطن للوقوف فی وجه التحدیات، ومقارعة الاستعمار، والقضاء على نهمه لابتلاع الوطن وما فیه من کرامة واستقلال وحریة.
وبعد الإسلام لم یقف المحتلون مکتوفی الأیدی، فمخططاتهم الخسیسة کانت الحافز على بث روح التفرقة بین أبناء الوطن الواحد، وفی هذا المجال لا تنسى بلادنا حملات الفَرَنجة التی أرادت أن تستغل العامل الدینی للتشکیک بهُوِّیة المواطن، وتمزیق مفهوم الوحدة الوطنیة، الذی کان ینادی به المواطن الشریف.
إن مبدأ الدین لله والوطن للجمیع کان ممارَساً على أرض الواقع أثناء هذه الحملات التی دامت من سنة /۱۰۹۶ م/ حتى /۱۲۹۱ م/ وهی السنة التی سقطت فیها عکّا وکانت آخر حصن للفرنجة فی الشرق.
إن الوطن: القیمة والسلوک، له أسس ومبادئ إذا غابت عن ساحة الفکر زعزعت هذا المفهوم، أهمها هو : حریة المعتقد، أی لا ینبغی أن تکون العقیدة شرطاً أو قیداً لحقوق الإنسان فی الوطن الواحد، لأنها یجب أن توفر العدالة والمساواة للإنسان فی مجال حریة ممارسة الشعائر الدینیة، وهذه الحریة التی ینادی بها الإنسان فی کل مجتمع، هی من أهم ما منحه الله للإنسان. بعد ذلک تأتی حریة التعبیر، أی حریة الرأی، وحریة الفکر. کل هذه الحریات تشکل أساً لبناء المواطن الصالح، ویعطی قیمة للوطن، ویوجه المواطن إلى سلوک متمیز بالإخلاص والوفاء.
عندما منح الإسلام الحریة الکاملة أشار إلیها بالآیة الکریمة التی تقول : لا إکراه فی الدین (سورة البقرة الآیة : ۲۵۶)، أی أن لکل مواطن الحق فی اختیار عقیدته فی وطنه بعیداً عن کل إکراه، وهذه قیمة لا یعرفها إلا من یمارسها على أرض الواقع. لأنه عندما لا تضمن الشریعة حریة المعتقد، للإنسان کأنها تحرمه من الحریة التی هی ثمرة مسؤولیته.
ومن ثمار حریة المعتقد التعددیة فی الدین والمذهب، وهذه التعددیة هی حمایة لحقوق الإنسان، أی حق المواطن فی التملک، وحق المواطن بما یحتاج إلیه من وسائل صحیة واجتماعیة التی تدخل ضمن حیاته المعیشیة، حق المواطن فی العمل، وحق المواطن فی بناء الأسرة، على أسس تربویة صحیحة، وأخیراً حق المواطن فی العطاء. وإذا کانت کل هذه الحقوق متوفرة، سیبقى المواطن صالحاً حراً متمتعاً بحریة الذات، انطلاقاً من أن الإنسان هو المحور. لهذا نرى أن الإسلام عندما جاء إلى هذه البلاد بدأ یشدد على مکانة الإنسان فی المجتمع وضرورة احترامه ککیان خلقه الله وجعله خلیفة على الأرض.
لو راجعنا قراءة العهدة العمریة لوجدنا أن الخلیفة الراشدی عمر بن الخطاب، وهو یمنح المسیحیین أماناً وضماناً لهم وما لهم، کان یرید أن یؤکد بأن مد جسور التآلف والقربى بین المسلمین والمسیحیین سیسجل أروع صفحات الإخاء فی الوطن الواحد، الذی یتمیز بالقیمة والسلوک، لقد أعطاهم أماناً لأنفسهم، ولکنائسهم، وصلبانهم، وقال للمسلمین أنه لا تُسکن کنائسهم، ولا تُهدم، ولا ینقص منها، ولا من حیزها، ولا من صلیبهم، ولا شیء من أموالهم، ولا یُکرهون على دینهم، ولا یُضار أحدهم.
وإذا عدنا إلى الرابط الثقافی بین المواطنین أی أبناء الوطن الواحد، ومفهوم الوطن، لوجدنا أن هذا المجال کان واسعاً منذ بدء دخول الإسلام إلى المنطقة. أحد المؤرخین بعد دراسة تاریخ الحضارة الإسلامیة کظاهرة غربیة لا نظیر لها فی حضارات أخرى، أدهشه العدد الکبیر من رجالات غیر مسلمین ذوی نفوذ فی جهاز الحکم الإسلامی، فکثرة عدد العمال والمتصرفین غیر المسلمین فی الدولة الإسلامیة، کانت ظاهرة تستحق أن یتوقف عندها المنصف، وهذه قیمة من قیم الوطن الواحد المتماسک.
إن المسلمین الأولین فی زمن الخلفاء لم یقتصروا فی معاملة أهل العلم من النصارى المنظورین، على مجرد الاحترام، بل فوّضوا لهم کثیراً من الأعمال الجسام، ورقّوهم إلى مناصب فی الدولة.
أما فی بلادنا فبعد أن استتب الأمن، واستقرت الأحوال، بدأ التفاعل الحقیقی بین الثقافات الموجودة على الأرض مثل : الثقافة الفارسیة، والثقافة الیونانیة، والثقافة السریانیة، والثقافة الهندیة، وکان على العرب المسلمین أن یبنوا بناءً متیناً لمفهوم الوطن من خلال هذا الرابط الثقافی الذی یعنی التبادل التام بین الثقافات دون إحراج، فکما کان عند العرب شعراء نصارى قبل الإسلام، وقد سجلوا صفحات ناصعة فی تاریخ الأدب العربی، أفرد لهم الأب لویس شیخو مجلداً ضخماً (۱). هکذا نرى أن الشعراء المخضرمین قد زاد عددهم، مثل : أکثم بن صیفی، وعبدالمسیح بن بُقیلة، والحُرقَة هند بنت النعمان، وسمعان بن هبیرة وغیرهم، أما شعراء الدولة الأمویة فعددهم لا یقل عـن الذین سبقوهم مثـلاً عنـدنا: أعشـى بنی تغلب، وأعشى بنی ربیعة، ومرقس الطائی، وحُنین الحیری، وأشهرهم الأخطل التغلبی الذی یعترف مؤرخو الأدب العربی، أن الأخطل التغلبی هو الأول بین شعراء النصرانیة بعد الإسلام، بجودة شعره، ومتانته، وغزارته، وتفننه، وکما یقول العلاّمة الأب لویس شیخو : وقد اتفق على ذلک کل أرباب النقد على اختلاف نزعاتهم، وأدیانهم، ومواطنهم، والمعروف أن الأخطل قد اتصل بالخلفاء الأمویین مثل : یزید بن معاویة، وعبدالملک بن مروان، وهشام، والولید بن عبدالملک، وکان یدخل علیهم وعلى صدره صلیب، وکان یجاهر بدینه حتى أنه عُرف بذی الصلیب، وهو صاحب القول الشهیر :
وإذا افتقرتَ إلى الذخائر لم تَجدْ ذخراً یکونُ لصالح الأعمالِ
وإذا توقفنا عند الحرکة العلمیة فی العصر العباسی لوجدنا أن نقلة العلوم والمعارف من النصارى فی صدر الإسلام، والعصر الأموی من الیونانیة أو السریانیة إلى العربیة، قد فتحت باباً جدیداً لتمتین الوطن بکل ما للکلمة من أبعاد.
فالمواطنون السوریون من مسلمین ومسیحیین مثلاً بعد العهد العباسی وقفوا مع بعضهم بعضاً ضد الطغیان، والفساد، والجهل، وحاربوا فی خندق واحد ضد کل أنواع الاحتلالات والغزوات، واشترک المسلمون والمسیحیون مع بعضهم فی رفع معنویات الوطن من خلال المراکز العلمیة التی دفعت أعداداً هائلة من المفکرین للوطن الواحد. منها المدارس الخاصة، التی کانت جزءاً لا یتجزأ من هذه النهضة التی فتحت أبواباً واسعة للتلاحم المسیحی الإسلامی، إلى جانب المؤسسات التربویة الأخرى التی کان یُشرف علیها المسلمون.
المطلوب أن تبقى هذه الصفحة ناصعة فی عالمنا الیوم، فالتحدیات التی نواجهها الیوم خاصة ونحن على مشارف تغییرات جذریة لأنظمة سیاسیة عرفتها لعقود طویلة، هی أکبر بکثیر من التحدیات التی واجهتها الأمة العربیة ماضیاً، الیوم مثلاً نسمع بنغمة حمایة الأقلیات تأتینا على طبق من ذهب من بلاد الغرب، وکأننا بحاجة إلى من یحمینا، فنحن کلنا فی حمایة الله ولن یتزعزع فیها أی شیء طالما أن الوحدة الوطنیة هی السلاح الأمضى والأقوى لمواجهة کل التحدیات. فالمشترک بیننا کمواطنین هو أکثر بکثیر من هذا الذی یفکر به أعداؤنا أنه یفرقنا. وسنبقى أمناء على رسالة الأجیال التی علمتنا بأن الوحدة الوطنیة هی خشبة الخلاص لوطننا الحبیب من کل المطبات والثغرات التی یخترعها لنا الأبعدون.
والقیمة والسلوک، فنلاحظ أن الحریات الدینیة فی سوریة واضحة، أولاً : مساواة المسلم والمسیحی فی کل مجالات الحیاة، وخاصة فی الدستور. فغیر المسلمین فی سوریة وهم فی أغلبیتهم من المسیحیین یمارسون حقوقهم وواجباتهم بکامل الحریة، لا بل عندما ینشأ حی جدید یلاحظ فیه وجود جامع وکنیسة، وتمنح الدولة الأرض مجاناً لاستعمالها من قِبَل الطوائف المسیحیة، و نرى أن الإعفاءات التی تعطى کإمتیازات للجوامع تمنح أیضاً للکنائس، وتکفی الإشارة إلى أن المناسبات الدینیة للمسیحیین والمسلمین تجمع بین أتباع الدیانتین تحت سقف واحد، مثلاً صوم رمضان، وأعیاد الفطر، والأضحى، والمیلاد، والفصح والقیامة.
فلولا الحریات الدینیة فی سوریة الوطن، لعاش المسیحیون فی قوقعة، وبقوا منعزلین ومهمّشین فی المجتمع، ومن الجدیر ذکره أن عیدی المیلاد والقیامة هما من الأعیاد المعترف بهما کمناسبات دینیة ذات طابع وطنی فی سوریة کلها، وهما عطلة رسمیة لکل المواطنین وتعطل دوائر الدولة، والجامعات، والمدارس الرسمیة والخاصة.
إن موضوع التربیة هو مسؤولیة الوطن. ومع هذا فنرى أن المدارس التابعة للدولة، والمدارس الخاصة تعمل ضمن توجیه وزارة التربیة، ویعیش المنتسبون إلى هذه المدارس تحت سقف المواطنة، وضمن مفهوم التعددیة والتنوع، فی إطار الإجماع من أجل مجتمع متماسک متحد یتطلع إلى أن یسود التصوّر المتکامل للحریة وحقوق الإنسان، وهنالک تطور جدید فی سوریة وهو أن السلطة فیها سمحت بإنشاء جامعات خاصة، وهذه خطوة جدیدة رائدة نحو حریة العمل من أجل تأسیس أجیال مؤمنة بالعلم والفکر والعطاء والحریة.
إن القناعة بوجوب وجود ثقافة التعددیة والتنوع، هی عند کل الأطراف، لأنها مبنیة على ثقافة وحدة المجتمع، وتماسک أبنائه وقدراتهم على العیش المشترک الإیجابی والفعّال. فثقافة التعددیة فی الانتماءات الدینیة والمذهبیة والخلفیات التاریخیة واللغویة والثقافیة والفکریة، تشبه الفسیفساء المتعددة الألوان، التی تجذب النظر للتمتع بها.
وشعار : الدین لله والوطن للجمیع، یؤکد على أن المجتمع الذی یؤمن بالتعددیة، یحقق مساحة أکبر لقبول الآخر، واحترامه، وتقدیره. وقبول الآخر لا یعنی التخلی عن المبادئ أو المعتقدات أو الثقافات أو غیرها، ولکن یعنی الإیمان الحقیقی والصادق، بحق الآخر بالوجوب والتعبیر، ومن الضرورة أن یدعم دستور کل دولة ثقافة التعددیة.
ومن هنا یرى أکثر من فریق مسیحی ـ إسلامی، أن الحوار الجاد المسیحی ـ الإسلامی هو تعبیر عملی عن القیِّم الدینیة التی تؤسس لمعانی التعددیة والتنوع، والتعارف وکرامة الإنسان المطلقة، وقیِّم العدل والحق، والإحسان، والمودة، والمحبة، والرحمة، وعمارة الأرض.
لقد حاولت بعض التیارات المعادیة التی تقف وراءها بعض الدول أن تجعل من دمشق عاصمة مُباحة، مثلما حصل فی عواصم عربیة أخرى مجاورة،و لکن تلک الجهات المغرضة التی خططت لاجتیاح بلادنا فی فترة من الفترات الماضیة، عرفت أمرین، أولاً : أن سوریة لا تُقارن بالدول المجاورة، وثانیاً : أن سوریة لا تملک آبار نفط غنیة، ولا اقتصاد هائل، ولا معادن منتشرة فی أرضها، ولکنها أقَّرت بأن سوریة قویة، وقوتها فی وطنها، وشعبها المتمیز بالوحدة الوطنیة، لهذا حتى فی فترة فکَّر الغزاة بأن عزل سوریة سهل المنال، ثم تغیر الحال فبدل أن تحتل بلادنا وتقصفها بالطائرات، وترسل إلیها الدبابات، والجیوش الغازیة، أرسلت لها السفراء، وغذتها بالوفود التی کانت تزور سوریة وتعود إلى بلادها وهی تحمل شهادة حیة، مؤکدة بأن الوحدة الوطنیة هی القوة الأکبر فی سوریة.
أما فی الداخل، فالذی نراه جمیعاً، أن حالات سلبیة أخذت تنمو فی الآونة الأخیرة منها : الفقر، والبطالة المقّنعة، وتلوث البیئة، وتزاید عدد السکان، والفساد، والأمیة، والتسول، وظاهرة أطفال الشوارع الذین نراهم على الأرصفة، وفی الحدائق، وفی مواقف السیارات، وقرب المطاعم، وندفعهم نحن لعدم الاکتراث بهم، والنظر إلیهم، لکل أشکال الانحراف، لهذا یتعاطى کل منهم التدخین، والکحول، والمخدرات، بل تطور الأمر بهم لیصل بعضهم إلى الأجرام، نحن نتحدث عنهم، ولکن لیس بإمکاننا أن نلومهم، لأنهم ضحایا مجتمعیة واقتصادیة لم ترحمهم، ولم تترک لهم فرصة للخیار أمام الظروف التی یعیشونها. وکل هذه الحالات وغیرها تعرفها السلطة، ویعرفها المجتمع.
فالوطن : القیمة والسلوک، یدعونا الیوم أکثر من أی وقت مضى لکی نعمل معاً بجهد وإیمان لخلق جیل لمستقبل أفضل من الذی سبق، جیل جدید حتى أفضل منّا، لأنه التنمیة تحتاج إلى من یؤمن بها، فإذا کنا نفکر بإبعاد الحالات السلبیة المذکورة، یجب أن نضع معاً العلاج الصحیح لها، منها : تنظیم الأسرة، والمشارکة فی التنمیة، والعمل من أجل بیئة ملائمة لحیاة أفضل، ودعم الاقتصاد الوطنی، وأخیراً العمل من أجل المحافظة على الأمن الاجتماعی الذی هو جزء من تقالیدنا.



رقم: 41625

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/41625/الوحدة-الوطنیة-السلاح-الأقوى-لمواجهة-التحدیات

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com