النفط الإيراني والقرصنة البريطانية بين الأمس واليوم
في عام 1951 صادرت بريطانيا شحنات النفط الإيراني ومنعت تأميم النفط، وبعد 68 عاماً احتجزت ناقلة نفط إيرانية، إلا أن ما سقط هذه المرة هو الهيبة الغربية أمام العزيمة الإيرانية.
شارک :
في عام 1951 أعلن رئيس الوزراء الإيراني، الدكتور محمد مصدق تأميم صناعة النفط ورفض استمرار نهب البريطانيين الثروة النفطية الإيرانية من خلال شركة النفط الأنجلو-إيرانية، فردت الحكومة البريطانية بإبلاغ جميع دول العالم بأنها تعتبر النفط الإيراني ملك لها ومنعت شرائه وإنها ستصادره، كما أمرت سفنها الحربية في مضيق هرمز والمحيط الهندي بفتح النار على السفن التي تحمل النفط الإيراني.
في تلك الأثناء خاطرت شركة إيطالية وحاولت كسر الحصار البريطاني على النفط الإيراني، فاشترت النفط الخام من آبادان جنوب إيران، وانطلقت نحو الموانئ الإيطالية، لكن السفن الحربية البريطانية أوقفت حركتها في المحيط الهندي وصادرت حمولتها النفطية.
وفي عام 1952 أوقفت السفن البريطانية سفينة "روزماري" في ميناء عدن اليمني، والتي كانت تحمل 600 ألف برميل من النفط الإيراني، وقررت محكمة محلية يمنية أن تُصادر النفط الإيراني لصالح البريطانيين.
وبالتزامن مع ذلك أعلنت بريطانيا الحصار ضد إيران، واعتمدت على شركاتها النفطية التي سيطرت على نفط العراق، الكويت والسعودية آنذاك من أجل زيادة الانتاج وتعويض النقص الحاصل بسبب منع بيع النفط الإيراني. وبالتالي ارتفع معدل انتاج النفط في الشرق الأوسط بقرابة 10% سنوياً خلال 1951 و 1952 و 1953.
بعد ذلك ألقى مدير شركة نفط يابانية كلمة حماسية على أسماع مجلس ادارته ومعتبراً الممارسات البريطانية غير قانونية وأقنعهم بشراء النفط من إيران مباشرة، فنفذ اليابانيون الخطوة في الخفاء ولم يعلم أحد نواياهم.
بعد دخول السفينة إلى الخليج الفارسي قرأ القبطان رسالة مدير الشركة التي كشفت الأمر للملاحين وخيرتهم بين الترجل على السواحل العربية أو متابعة المهمة إلى إيران، فقرر الملاحون الاستمرار بالمهمة وتحدي الاستعمار البريطاني.
مرت السفينة اليابانية من وسط السفن الحربية البريطانية وهي تحمل بوليصة شحن غير نفطية، ووصلت إلى آبادان وحملت النفط، ثم عادت بأمان، فيما بقي البريطانيون حائرون لا يعلمون كيف خدعتهم السفينة اليابانية.
وتقدم "مُصدق" بالشكر لليابانيين بأن منحهم الحمولة مجاناً، باعتبار أنها أول شحنة نفطية صدرتها إيران بعد التأميم. فيما رفعت الحكومة البريطانية دعوى قضائية ضد السفينة وتم حجز النفط في ميناء ياباني لأيام، ثم قررت محكمة يابانية عليا إلغاء الحجز وتسليم النفط للشركة.
احتفلت الشركة اليابانية بالانجاز وكسر الحصار، وبدأت التحضير لارسال سفينة أخرى، فبلغها خبر اسقاط مصدق في انقلاب العسكري 1953 الذي خططت له وكالة الاستخبارات الأمريكية والذي أطاح بالحركة الديمقراطية في إيران وعزز الملكية.
بعد 67 سنة، عاد الأمريكان والبريطانيون لمحاولة محاصرة النفط الإيراني، فاحتجز البريطانيون بطلب أمريكي الناقلة الإيرانية غريس 1 بحجة انتهاكها للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي ضد سوريا في خطوة تعيد إلى الأذهان القرصنة الغربية للنفط الإيراني، حيث أنه كان من الواضح أن السفينة الإيرانية ليست متجهة إلى سوريا؛ ولو فرضنا جدلاً أنها ذاهبة إلى سوريا، فالعقوبات تشمل دول الاتحاد الأوروبي وحسب ولا تشمل إيران وغيرها.
رغم أن إيران على مدى 40 عاماً من استقلال قرارها السياسي، حرصت على المحافظة على أمن مضيق هرمز رغم كل ما تعرضت له من اعتداءات من الحرب التي شنها صدام ضد إيران، إلى ما عرف بحرب الناقلات في الخليج الفارسي مروراً باسقاط الأمريكان طائرة مدينة إيرانية عمداً وهذه مجرد لمحات عما واجهته إيران؛ إلا أن الرد الإيراني جاء هذه المرة سريعاً وحاسماً فقررت ألا تغض الطرف عن مخالفات السفن البريطانية لقواعد الابحار في المضيق (حسب ما جاء على لسان وزير خارجيتها)، واوقفت سفينة بريطانية بعد أن ارتكبت الأخيرة عدداً من المخالفات القانونية منها اطفاء الرادار، تلويث البيئة والابحار في مسار مخالف.
الرد الإيراني جاء مختلفاً جداً عن الخطوة البريطانية، فهو أولاً لم ينتهك القانون الدولي بل قام على مسوغات قانونية كما أن القوات الإيرانية أوقفت سفينة تحمل العلم البريطاني وليس علم بنما، كما تعمدت إذلال البريطانيين في طريقة القاء القبض على السفينة عبر استعراض للقوة وتهديد السفن الحربية البريطانية التي كانت برفقة السفينة وتوجيه أوامر لها بعدم التدخل في مهمة الإيرانيين، وهو تهديد لم يأت من فرغ، بل تهديد مدعوم بقوة صاروخية رادعة تقف على الساحل متربصة أي خطأ بريطاني.
في هذه اللحظة انقلب السحر على الساحر؛ فوجدت بريطانيا نفسها محرجة بين نارين، من جهة ارتكبت مخالفة للقانون الدولي واحتجزت سفينة إيرانية في عملية لا ناقة لها فيها ولا جمل بل جاءت تنفيذاً لأمر أمريكي، ومن جهة تخلت عنها امريكا وقال ترامب حلوا مشاكلكم مع إيران بأنفسكم وأحموا أنفسكم.
وبعد أسابيع من النقاشات السياسية والقانونية، وجدت بريطانيا أن لا مفر لها من الأمر سوى الاذعان باطلاق السفينة الإيرانية وانتظار المحاكم الإيرانية لتقرر بشأن السفينة البريطانية التي تحتجزها إيران، فالثبات في الموقف الإيراني واتفاق مواقف الأطياف السياسية الإيرانية المختلفة والاجماع الشعبي للرد على بريطانيا عزز موقف وزارة الخارجية الإيرانية ومنحها اليد العليا من أجل المطالبة باطلاق سراح السفينة الإيرانية من دون أي قيد أو شرط؛ فيما بقي مصير السفينة البريطانية معلقاً بانتظار القرار السيادي الإيراني.
ياسر الخيرو