"كم كانت الكلفة من الدماء، لمحاربة بن لادن. لقد قتل مئات الألوف من العرب... قبل قتل بن لادن. من يسأل؟ هل نقول لأميركا شكراً لأنها قاتل قتل قاتلاً؟ "
الكاتب نصري الصايغ
"قاتل قتل قاتلا... لمن نقول شكراً؟ "
وكالة أنباء التقريب (تنا)
6 May 2011 ساعة 1:12
"كم كانت الكلفة من الدماء، لمحاربة بن لادن. لقد قتل مئات الألوف من العرب... قبل قتل بن لادن. من يسأل؟ هل نقول لأميركا شكراً لأنها قاتل قتل قاتلاً؟ "
I البداية والنهاية... وما بينهما أسامة بن لادن، في ذمة بحر العرب. بات ممكناً القبض عليه، ومحاكمته سياسياً، من دون الالتفات إلى أصله ودينه ومذهبه وثقافته. كان قائداً ميدانياً، احتل مساحة لم يبلغها أحد من قبل. تفوّق في صناعة الحدث اللامعقول. بلغ مرتبة فريدة. بندقيته قاتلت في كل مكان. أطلقت الرصاص في وجه السوفيات. نسف بن لادن الأبنية والسفارات في آسيا وأفريقيا. بلغ ملاهي بالي. وصل إلى نيويورك، فسجدت ناطحتا سحاب له، وجثت الولايات المتحدة على خوفها.
أسامة بن لادن هذا، منبت سلفية وهابية وابن تربية اخوانية (قطب ـ عزام) وصناعة نظام ملكي سعودي. حليف معسكر العالم الحر بقيادة الـ«سي آي أي» افغانستان، وطئ التاريخ الحديث، ملتحفاً جاهلية دينية، وتخلفاً مذهبياً، وتعصباً هذيانياً، زارعاً الدمار والخراب، متوجاً نضاله بسياسة ممارسة الرعب، الذي يمكن أن يأتي من كل الأماكن.
ما بين بدايته، مقاتلاً في صفوص «العالم الحر»، ونهايته قتيلاً بقرار سيادة «العالم الحر»، حساب سياسي. وهو في أبسط قواعد الحساب، ليس لمصلحة الأمة، أو لمصلحة شعوبها. من أراد ان يرثي أسامة بن لادن، هو حر. هذه المساحة هنا، لرثاء حال الأمة التي جلب عليها بن لادن كل الويل الأميركي والإسرائيلي.
ما بين بدايته ونهايته، قصة مأساة معلنة، كنا ضحاياها، وكانت أميركا فائزة في وضع خواتيمها المجزية لها... إسرائيل، تفرك يديها فرحاً بغزارة مستوطناتها، وما تيسّر لها من ابتعاد بن لادن عنها، حيّاً وميتاً.
II لحظة الانهيار إنه طقس للقيلولة. الهدوء مستقر في غرفة الجلوس. الشاشة تنقل صوراً وتهمس كلاماً رتيباً عن... ثم ينقطع السياق، وتظهر طائرة عملاقة وتصطدم ببرج... يعلو الصوت قليلاً. يحتل الذهول المكان. تتسمر العيون في المشهد. النار تندلع ثم تندلع ولا تتوقف... بالفعل، انه حادث مؤسف... ثم... تصطدم طائرة اخرى ببرج توأم. ويتغيّر العالم. البرجان يحترقان، يتداعيان، الناس ترمي أجسادها في الهواء، الدخان يعتلي. الغبار يغزو. والذهول تحوّل إلى رعب.
ولا اعرف كيف اجتاح فرح عامر من في غرفتي. وكيف رتلت التلفونات أصوات الانتصار: «شوف. وصلنا على أميركا. ضربناها على راسها»... وكلام من هذا السخف المريض. كادت الأنخاب ترفع لتشرب كأس الانتصار. ولم يكن حال من في منزلي مختلفاً عن حال ملايين العرب، الذين شعروا، ان هذا الانتقام، تستحقه الولايات المتحدة الأميركية، عقاباً لها، ولما ترتكبه من سياسات إجرامية في العالم العربي.
استثنيت نفسي من الفرح. شعرت بخوف صار رعباً هلعاً، صار وسواساً... أخذت حبوباً مهدئة كي أصمد قليلاً. كي لا أجثو على ركبتي وأتهالك. صدقاً، كدت أفقد كل شيء... عرفت بالبداهة، اننا سنكون الضحية النموذجية.
كنت على موعد ذلك المساء، مع مجموعة من الكوادر العلمية والسياسية والنقابية في الضاحية الجنوبية. اتصلت بالحاج واعتذرت عن المشاركة في نقاش حول: «لبنان بين بيانين». أو لبنان، ما بين بيان المطارنة الأول، وبيانهم الثاني. أصّر الحاج بعد قليل، على ضرورة الحضور لمناقشة الحدث الجديد. اعتذرت. لأني بلا رأس يفكر، وبلا قدمين تحملان جسداً متهاوياً. شجعني قليلاً، فنزلت عند رغبته متثاقلاً.
وفوجئت في مكان الاجتماع بتبادل التهاني. الكل فرح بما جرى. هذه هي إرادة إلهية، وإلى ما هنالك من أدعية ورجاءات وصلوات. غير أني ثبتّ على خوفي ورعبي. وبررت انهياري الوشيك، بما يلي:
أ ـ الأمة في حالة نهوض وصعود. المقاومة أنجزت تحرير الجنوب (إلا قليلاً) وانعكاس الانتصار على الأمة والشعوب العربية، أقوى من انعكاس أي عقيدة او دين او مذهب. هذه مقاومة أنجزت أكثر مما صلّت، ولو انها صلّت ولم تنجز، لكنا أحلنا ثوابها الى الله... لا إلى الشعوب.
ب ـ الأمة في حالة نهوض جديد. الانتفاضة (الأقصى) تتدحرج ككرة الثلج. إسرائيل في مأزق. أوروبا في مأزق، والعرب، انظمة لم تصل إلى الخذلان، وشعوب تؤيد وتدعم وتهتف... لم يسمع يومها، أن العرب، سنة وشيعة. كان الصوت المرتفع يعلن انتماءه للمقاومة والانتفاضة.
وعليه، فإن نكبة نيويورك التي أسقطت برجين، ستسقط عندنا دولتين: العراق وافغانستان. وستسقط مقاومتين، في لبنان وفلسطين.
كنت مقنعاً لثلاثة من الحضور، أما الباقون، فشجعوني بالدعاء و«الصلاة على محمد وعلى آل محمد».
بعد عام، اتصل بي الحاج في ١١ أيلول ٢٠٠٢، في الوقت الذي كان العالم يتذكر نكبة البرجين، ليقول لي: بكل أسف، صدقت توقعاتك، وبكل حزن، لم تصدق توقعاتنا... فبن لادن، جلب على أمتنا كل هذا الويل. III ماذا نقول لبن لادن؟ ليست سيرة ذاتية أبداً. بل سيرة مختصرة لحال انهيار الأمة وما حولها ومن فيها، بعد ١١ أيلول. قبل هذا التاريخ، جال كولن باول في دول المنطقة، ليقنعها بضرورة تغيير النظام في العراق. لم تكن مهمته سهلة. فالإدارة الأميركية الجديدة، بدعم من المحافظين الأصوليين الجدد، (السلفيون المحدثون) كانت قد وضعت الخطط لتغيير قواعد العمل السياسي في المنطقة العربية.
أـ احتلال العراق. (بذريعة أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية).
ب ـ إلغاء عملية التفاوض، وفرض السلام بالقوة، بعد فشل محادثات كامب ديفيد الإكراهية.
ج ـ مكافحة الإرهاب.
بعد انهيار البرجين، أخذت أميركا «حق» تحديد الفاعل. ووقف العالم إلى جانبها. قالت بن لادن، لم يناقشها أحد. ثم أخذت حق الإجابة، بمفردها، من الأسئلة التالية: كيف حصل ذلك؟ لماذا حصل ذلك؟ وما العمل؟
وعليه، اجتاحت افغانستان. قتلت من الأفغان ما لا يُحصى من البشر. تعامل العالم بجبن الهمجية الأميركية. قتلوا سجناء بالمئات في سجن في هلمند. أبادوا قرى. قصفوا افغانستان ومدنها براً وبحراً. أعادوها إلى ما قبل الجاهلية، فيما كان بن لادن، يفر من مغارة في طورا بورا، الى مآوٍ في جبال باكستان.
عاش بن لادن، وماتت افغانستان، ولم تعد الى مسارها، إلا عندما فشلت أميركا، في تطويع الشعب، بعد تطويع الحجر.
وعليه، فقد ارتكبت أميركا جريمة غزو العراق. دبّجت مضبطة اتهام مزورة. اجتاحت العراق، (الصدمة والرعب). دمّرته. ألغت دولته. سرحت جيشه. أفلتت مذاهبه. حمت ذئابه. نهبت ثرواته. رملت نساء. يتمت أطفالاً. لوثت بيئته. هجرت وقسمت ولم يرتكب هولاكو او جنكيزخان أمراً، إلا وفعلته وأضافت إليه اشنع منه.
ماذا نقول: شكراً بن لادن؟!
وعليه أيضاً وأيضاً، اعتلت إسرائيل منصة الحرب على الإرهاب، التي تطوعت فيها أوروبا برمتها، والعرب عن بكرة أبيهم وأجدادهم، لتحاسب «القاعدة» في فلسطين، (الانتفاضة). ودشن ارييل شارون، حربه على «بن لادن» فلسطين أبو عمار، بأن اعتقله في المقاطعة، مدمراً البنى التحتية للسلطة في غزة والضفة، ومجتاحاً، بعملية السور الواقي، البلدات والمخيمات... هل تذكرون مخيم جنين؟
ماذا نقول؟ شكراً بن لادن؟!
وعليه، ابتزت أميركا الدول العربية، هددتها بتهمة الدكتاتورية. قالت لها، أنت أصل البلاء. فكرك ومذهبك ودينك، أصل الكارثة. خافت أنظمة الاستبداد العربية وركعت. سجدت وصلت للإله المتوحش الجديد، المقبل على ظهر دبابة، لإقامة ديموقراطيات حديثة. يومها، باع النظام العربي الرسمي، جلد الإسلاميين. مقابل الانخراط الكامل بالحرب ضد الإرهاب... أي حزب الله والمقاومة وفلسطين... وإيران.
ماذا نقول لبن لادن: شكراً!
وخارت قوى الحركات الإسلامية، المعتدلة قليلاً أو المتطرفة قليلاً. أرادت ان تتبرأ من الجريمة. حمت نفسها ونأت عن المواجهة، خوفاً من ان يتصيّدها النظام العربي الرسمي. انكفأت الأحزاب والحركات الإسلامية، ونسجت علاقات «ود كريه»، بينها وبين النظام الرسمي العربي.
فماذا نقول لبن لادن؟ شكراً!
ماذا بعد؟
قالت أميركا بصوت مرتفع: لا عرب بعد اليوم. فتبدد العرب: لا جامعة تؤويهم، ولا منظمات يلجأون إليها، ولا علاقات ثنائية. العرب قضية أميركية، وليسوا قضية عربية. سلموا أمورهم للرب الأميركي الجديد. تلا عليهم السياسة، فنفذوها، كأنها آية من كتاب الله.
ماذا بعد؟
أفتت الولايات المتحدة الأميركية «بالفتنة العظمى». الهلال الشيعي، ليس بدعة من عبقرية ملك الأردن. الخطر الشيعي، ليس من سمات الذكاء المتدني عند حسني مبارك. «تسونامي» التشيّع بين أهل السنة، كذبة راجت، ولم يعد المسلمون مسلمين. هكذا أرادت واشنطن. الإسلام شأن يخصها. قالت: كونوا سنة ضد الشيعة. أطاع أهل الفتنة، وقميص الدم يجوب بين العواصم. العراق فتنة، لبنان فتنة، الخليج فتنة. والهدف: استجداء العنف، ليكون اللغة الوحيدة بين السنة والشيعة، فيكون الدين عند أميركا: إسرائيل، ويكون المذهب في واشنطن، النفط.
ماذا نقول لبن لادن: شكراً على ما صنعته يداك؟! لقد قتلت أبرياء في برجي التجارة وفي الطائرات، وفي افريقيا، وفي افغانستان، ولم تصب جندياً أميركياً. ولا أذيت الترسانة العسكرية الأميركية وحلفاءها بغبار من سلاحك المصوّب في الاتجاه الخطأ، لقد استدرجت أميركا، وأعطيتها صكاً سياسياً مبرماً لتقتل دولاً وشعوباً وقضايا... وهي لا تزال في هذا الصراط المستقيم إلى ممارسة المذبحة.
IV قاتل قتل قاتلاً قليل من العدالة ضروري، ليستقيم العالم قليلاً. ليس بن لادن وحده قاتلاً، ولا هو بدأ القتل. الولايات المتحدة الأميركية، ليس لها إلا دبلوماسية واحدة في عالمنا العربي: القتل. انها تقتل فقط. انها تدعم من يقتلنا فقط. ما ارتكبه بن لادن في مساره السياسي القتالي، ليس سوى نقطة في بحر من قتلتهم أميركا، ومن قتلتهم إسرائيل. العراق معلق على موته الصاعق وموته البطيء. لبنان لم يكف عن نزفه بعد. إسرائيل تعتدي وأميركا تلقفها اعتدة وأسلحة ودعماً. فلسطين تنزف أرضاً وبشراً. وحدها أميركا وقفت مؤيدة جدار العار والفصل العنصري في فلسطين. وحدها أميركا تقصف بيوت الآمنين من المدنيين في افغانستان وباكستان واليمن وليبيا. وحدها تقتل، مدنيين وعزلاً. وقلما تقتل جنوداً في المعارك.
إحصاءات الجريمة تضع أميركا في الطليعة. لنتذكر فقط هؤلاء: ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، جورج بوش (الأب والابن) كولن باول (كذاب الأعم وحفار القبور) لنتذكر جورج تينيت (وخارطة الطريق إلى الدم في فلسطين) لنتذكر دونالد ريغن... وحملته على باناما ونيكاراغوا.
قليل من العدالة ضروري، ليستقيم العالم قليلاً.
فهذا الأسمر الأميركي، ذو السحنة السوداء، لا يفترّ ثغره عن أسنان بيض، إلا عندما يمارس سياسة البيض. انه يرتكب، بقراره اصطياد الإرهابيين بواسطة طائرات من دون طيار، في أي مكان في العالم (نحن في الطليعة)، جريمة قتل كل يوم.
كم كانت الكلفة من الدماء، لمحاربة بن لادن. لقد قتل مئات الألوف من العرب... قبل قتل بن لادن. من يسأل؟ هل نقول لأميركا شكراً لأنها قاتل قتل قاتلاً؟
V الثورات العربية ضد بن لادن وأميركا بعد الحادي عشر من أيلول، توجه الكاتب الفرنسي المختص بالدراسات الإسلامية، جيل كيبل، إلى بلاد العرب والمسلمين ليقطف ردود الفعل الأول. زار مدناً وعواصم عربية، ونقل القصة التالية من السعودية: «ثري سعودي عاش حياته في بريطانيا، على الطريقة البريطانية، ووفق التقاليد الترفيهية الإنكليزية. كان شبه انكليزي، لولا أصله ودينه غير المعلنين دائماً. ولما اقترب من نهاية حياته، أوصى بثروته الى ثلاثة، علماً ان له ولدين فقط. يروي الابن لجيل كيبل، ان والده أوصى لبن لادن، بثلث ثروته، وهو لا يعرفه. ويفسر الابن تصرف الوالد، بأن بن لادن أشعره بكرامته، في عالم وبلاد، تتعامل مع العرب والمسلمين، وكأنهم خردة.
لسنا شعوباً تصنع بن لادن.
لسنا شعوباً تصنع أنظمة استبداد.
نحن، في الزمن الراهن، شعوب تصنع حياة حرة كريمة. تريد أنظمة ديموقراطية. تونس نموذج. مصر نموذج آخر. الانتفاضات الشعبية السلمية البريئة الطيبة العبقرية، هي البديل عن بن لادن، وعن أميركا معاً... بن لادن القوي جداً، هزمته أميركا وهزمانا أيضاً. نحن ضحاياهما.
الآتي من الأيام، يتبين أن الثورة الديموقراطية العربية، ستنهي حقبة بن لادن، وحقبة القبضة الحديدية الأميركية.
أليس هذا كثيراً علينا!
صحيفة "السفير"
رقم: 48654