يستحضرنا، في مثل هذه الايام، وقابلها، وتحديدا في ٢٥ أيار ٢٠١١، الفخر الذي كنا نعيش من جراء تحرير معظم الارض اللبنانية التي كانت تقع تحت احتلال العدو الاسرائيلي. بدأت رحلة الانتصارات والترجمة العملية للعقيدة الوطنية الجديدة التي ارسيناها والمرتكزة الى ثلاث معادلات اثبتت انها تقع موقع الخيارات الاستراتيجية الوطنية الصائبة، الا وهي معادلة «قوة لبنان من قوته»، ومعادلة «الشعب والجيش والمقاومة»، ومعادلة «لبنان وسوريا معاً اقوى»، تلك المعادلات التي تعرضت ولا تزال لأعتى الحملات والمؤامرات اليائسة.
ان المعادلة الاولى اسست للبنان الممانع والمقاوم بدلاً من لبنان الحيادي تحت شعار «الهدنة» الذي سخر منه العدو الاسرائيلي على مدار الزمن، وظل لبنان متمسكا به، سراباً بين يديه، مردداً مقولة اطلقها من كان يدّعي ان استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي انما اتى من صنع يديه وحزبه الميمون: «ان قوة لبنان من ضعفه».
لم يبق احد في العالم الا وتطاول على لبنان، إلاّ ان ذروة التطاول كانت اغتصاب العدو الاسرائيلي واحتلاله ردحاً من الزمن ارض لبنان والسعي الى شرذمة شعبه والاعتداء عليه وتدمير بناه التحتية وصفع كرامته الوطنية وزرع الخلايا الارهابية وشبكات التجسس والتنكّر للقرارات الدولية، لا سيما القرار ٤٢٥ الذي بقي عقوداً حبراً على ورق، حتى تحقق التحرير بالدم.
اما المعادلة الثانية، اي معادلة الشعب الأبي والجيش الوطني الباسل والمقاومة الرائدة، فهي معادلة ارسيناها على ارض الواقع منذ كنا في قيادة الجيش، منطلقين من اقتناع راسخ بأن ابطال الجيش وبواسل المجاهدين انما تولدوا من رحم واحد، هو هذا الشعب الذي قرر ان ينتفض على ذاته وخنوعه بفعل حقنات التخدير التي كانت طبقة سياسية حاكمة بأكملها تحقنه بها، الى حد الهلوسة بأن لبنان «سويسرا الشرق» عصي على الاذى والتأذي، في حين انه ينام على فراش واحد مع ذئب مفترس. نعم، ان انجاز التحرير في ٢٥ ايار ٢٠٠٠ على يد مجاهدي المقاومة وابطال الجيش اللبناني، الظهير الصلب، انما يرصع تاريخ لبنان الحديث في سابقة لم يعهدها كما لم تعهدها اية دولة عربية في صراعها الدموي المرير مع اسرائيل.
نحن لا ننكر ان جيوشا عربية قاومت، وفي ذهننا الجيش السوري البطل في حرب ١٩٧٣، على سفوح جبل الشيخ ومرتفعاته، الا اننا نقول ان الانجاز اللبناني هو في تلاحم نادر بين مقاومة شعبية وجيش مهني حاضن، ادى الى الانتصار الكبير، والى تأسيس مرحلة من الانتصارات تمّ تتويجها في صدّ عدوان تموز- آب ٢٠٠٦، حيث انسحب «الجيش الذي لا يقهر» ذليلاً تحت ضربات المقاومة.
اما المعادلة الثالثة، ففيها ايضا مكمن من مكامن قوة لبنان، ذلك ان التجارب المريرة دلّت ان لبنان معرّض الى اكثر من انتكاسة، بل الى ازمة كيان، اذا ما ادار ظهره لسوريا، او سمح بأن يكون الخاصرة الاضعف لها بأن يصبح ممرا او مقرا لمشاريع فتنوية او امنية تستهدفها، في حين ان لبنان المرتكز الى سوريا بقيادة الاسدين، لم ينل من هذا الارتكاز الا كل منعة واستقرار.
ان ما يحدث في سوريا من احداث امنية من جماعات مسلحة تطلق النار على قوى الامن والجيش والمدنيين الابرياء ـ على عكس ما حصل في معرض الثورات العربية الاخرى، حيث كان الشعب العمود الفقري للانتفاضة، في حين انه هنا ملتف حول قيادته في سوريا ـ لا يستهدف فقط سوريا بل خط الممانعة والمقاومة الذي واسطة عقده لبنان. لذلك، لا يمكن فهم ما جرى في ارنون في حينه على يد شباب لبناني مدني اعزل وما جرى في مارون الراس لبنان ومجدل شمس جولان سوريا منذ ايام على يد شباب مدني فلسطيني اعزل ايضاًَ، خارج هذا الاطار من ان ما اخذ بالقوة انما يسترد بالقوة، ولا بد ان يستجيب القدر طالما ان طالب الحق ينادي به ولا يستكين لغاصبه.
لعل اسطع مثال عن اهمية هذا الانجاز التاريخي لعام ٢٠٠٠ هو ان الامم المتحدة عجزت عن تنفيذ قرارات مجلس الامن ذات الصلة ضد العدو الاسرائيلي، وان الولايات المتحدة الاميركية، كما سائر رعاة هذا العدو، انما هم على خط دائم من الانصياع له، حتى ان رئيس الولايات المتحدة استدار دورة كاملة على ذاته، في ذروة نشوة انتصاره على ارهاب بن لادن كما اعلن بفخر، فعدّل في موقفه من حدود ١٩٦٧ لدولة فلسطين في غضون يومين، فهزمت «ايباك» الدولة العظمى التي تجرأت على اغضاب اسرائيل فسارعت الى الاعتذار منها. الا ان لبنان اقوى من «ايباك»، اقوى جماعات الضغط اليهودية الاميركية المؤيدة لاسرائيل، ذلك ان لبنان ذاق طعم الانتصار واستعادة الكرامة الوطنية، ولا يمكن لأية جماعة ضغط ان تنال من وحدة شعب وجيش ومقاومة.
ما قاله اوباما عن تعهده بالحفاظ على تفوق العدو الاسرائيلي العسكري النوعي، لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون، ذلك ان اوباما نفسه اقر بأن مصير اسرائيل مهدد اذا لم تذهب يوماً مذهب السلام، الذي نريده نحن سلاما شاملا وعادلا وحافظا للكرامة والحقوق الوطنية والقومية، في حين يريدونه هم سلام الاستسلام. نفر الرئيس الاميركي من المصالحة الفلسطينية وذّكّر «حماس» بأنها منظمة ارهابية يدعو ميثاقها الى تدمير «اسرائيل»، وانها يجب ان تعدل هذا الميثاق وان تعترف بحق «اسرائيل» في الوجود، اي ان تذوب في تيار الاستسلام كي تسلم. ثم نقل تحذيره الى «حزب الله» في موقف مذهل لجهة الانحياز، منددا بما أسماه «الاغتيال السياسي» الذي يمارسه الحزب، ومسفّهاً لمحكمة توسلها وهزلت بعد ان تم كشف النقاب عن أهدافها، ومتهماً الحزب بأنه يسعى الى فرض ارادته من خلال الصواريخ والسيارات المفخخة، فيتهم هو بالمباشر كأنه سلطة اتهام، ويشيح طرفه عن تقرير «غولدستون» الذي عاد عنه تحت الضغط واضعه، وعن مجازر العدو الاسرائيلي ضد المدنيين، وعن جرائم حربه...
الا ان هذا كله لا ينفع، على ما اقر به الرئيس الاميركي ذاته في المناسبة ذاتها، من انه من الصعب الحفاظ على دولة «اسرائيل» يهودية وديموقراطية في ظل العامل الديموغرافي والتقدم التكنولوجي، ونفاد صبر العالم من تعثر عملية السلام... على الرئيس الاميركي ان يركن الى حدسه وحسه، وان يتفلت من قيود «اسرائيل»، ذلك انه يعرف ان زمن الهزائم قد ولى في هذه المنطقة من العالم، بفعل خط المقاومة والممانعة، والثورات العربية الشعبية التي اطاحت بأنظمة الاستسلام والتخاذل.
ذكرى اردناها، وليس منّة من احد، بل لنحتفل معاً في عيد وطني شامل بإنجاز عظيم هو فاتحة انتصارات لبنان على العدو الاسرائيلي وعلى ذاته، فغدت الذكرى ذكرى تحرير، وغدا التحرير تحرير الذكرى من رواسب الوهن والضعف والاستسلام.
صحيفة "السفير"