ثورة الامام الحسين أسست كثيراً من الثوابت الانسانية في التاريخ القديم والحديث والمستقبل
منير الشامي
ستظل الأحداث التي تلت ثورة الامام الحسين بن علي -عليهما السلام- للاجيال المتعاقبة شاهد حال على صوابية الثورة الحسينية ودليل على سمو ثقافتها ونبل مقاصدها، وعلى قداستها وسمو أهدافها، وعلى إنسانيتها ورقيها، فهي ثورة إنسانية شمولية شعارها "طلب الاصلاح في امة جدي " كما اعلن الامام الحسين -عليه السلام ، فانحراف الامة الذي نتج عن سياسة الدولة السفيانية، وما ترتب عليها من فرض ثقافة تضليلية مغلوطة ومغايرة لدين الاسلام بالقوة هدفها التجهيل للناس في دينهم والتضليل لهم عن هداهم وتبديل الحق بالباطل والنور بالضلال والغث بالسمين وهدفها ترسيخ نظام الحكم اﻷموي، وانعكاسها باحلال الدين الأموي بدلا عن الدين الحنيف في قلوب الناس .
وقمع كل من رفضه بقوة الحديد والنار والسيف والمقصلة وقد أشار معاوية إلى هذه الثقافة التجهيلية بعد أن تيقن من نجاحها في الشام بقوله "ﻷءتينه بقوم لا يفرقون بين الناقة والبعير" -يقصد الامام علي عليه السلام -وفي هذه العبارة دلالة على عظمة الجهل الذي ساد ورسوخ المعتقدات الضالة التي غرست في النفوس واستحالة استبدالها أو تغييرها والتي مارسها معاوية منذ توليه على الشام ومن بعده يزيد وتلك الثقافة تطابق الثقافة الوهابية الارهابية التي نشاهدها اليوم.
ما يعني أن الإمام الحسين عليه السلام كان أول من استشعر الوضع الخطير الذي وصلت إليه الأمة من الانحراف والابتعاد عن قيم الدين الحنيف جملة وتفصيلا، ولذلك حمل مسؤوليته أمام الله وتحرك لأداها وكان الدافع الوحيد لخروجه -عليه السلام - في ثورته التصحيحية الشاملة هو إعادة معالم دين جده المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونشر ثقافته الحنيفة وعدالته واعتداله وحفظ جوهره وترسيخ قيمه ومبادئه وأركانه وإعادة الأمة إلى حضيرة انواره وهداه ونسف ثقافة الضلال الأموي والتضليل السلطوي التي سادت وحلت.
وهذا ما يؤكد أنّ ثقافة الثورة الإصلاحية التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام ليست ثقافة ثورة نوعية ، بل ثقافة ثورة شمولية في أصدق وصف لها، وممّا يُصدّق هذا القول المدّة التي احتضنت الثورة ومهدّت لها؛ ممّا أعطى الثورة بُعداً شمولياً لم يكن محصوراً في الإسلام أو العرب، بل الانتشار الواسع الذي كانت علية الثورة، حققت هذه الشمولية التي نتحدّث عنها، ثمّ إنّ ظرفها وزمن ولادتها جعلها ثقافة أكثر عمقاً، فهي ثقافة تراكمية كانت تنمو وتتكامل منذ زمن بعيد قبل إعلانها. فقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام زمن معاوية وسياسته، كما عاصر زمن يزيد، وقبل هذه المدّة كان لديه عليه السلام وعياً عميقاً بالمعنى الشرعي للثورة ولثقافتها الشاملة.
فقد عاش الإمام مع الرسول صلى الله عليه وآله في طفولته وصباه، وكان مشهد المعارضة حاضراً أمامه، وما كان يُعانيه الرسول صلى الله عليه وآله من المشركين أيضاً، ومعاصرته لما بعدالرسول (ص) ...والإمام علي عليه السلام، ثمّ عهد الإمام الحسن عليه السلام الذي نجح في التخطيط السياسي لثورة أخيه الإمام الحسين عليه السلام، هذا دليل اليقظة السياسية المبكرة؛ لذا كان الإمام الحسين عليه السلام متابعاً للإمام الحسن عليه السلام بكلّ خطوة، هذه المتابعة هيأت الشعب المسلم للانتقام من النظام ولو بعد حين، وكانت يقظة الإمام الحسن عليه السلام وحدها كفيلة بصنع القرار السياسي وتحقيق الصلاح الديني.
لقد هبَّ على الأرض ربيعاً ثورياً غيّر كثيراً من المفاهيم، وأسس كثيراً من الثوابت الانسانية في التاريخ القديم والحديث والمستقبل، إلّا أنّ للمسالة وقفة تأريخية قديمة يشهد التاريخ بريادتها للإمام الحسين عليه السلام، تلك هي معركة الطفّ، فالإمام عليه السلام «إنّما خرج لطلب الإصلاح في الأُمّة، وهو ربيب النبوة، فسيرته في النهضة والإصلاح منهج يُقتدى به، وخطابه ومواقفه تشكل معالم هداية لكل حُرّ غيور على مصلحة أُمّته ومجتمعه»
ولعل أهمية الغاية التي خرج من أجلها الإمام الحسين هي ما جعلته يقدر حجم التضحية المناسبة لتحقيقها وكان ذلك الثمن الباهض لا يساوي شيئا في نظره مقارنة بالغاية التي سعى وضحى لبلوغها،وأسس قواعد ثقافتها ونشرها واشهرها للأنسانية كلها على سطح الارض منذ ذلك اليوم وإلى قيام الساعة وأكبر دليل على ذلك أنه خرج وهو يعلم علم اليقين الهدف الذي خرج من أجله والثمن الذي يجب أن يدفعه والمصير الذي توجه ليلقاه ويومه وساعته، وما يؤكد ذلك قوله لأصحابه ليلة عاشوراء والإجابة الخالدة التي سطَّرها أصحاب الحسين عليه السلام, إذ وقف الحسين فيهم خطيباً وبين لهم أن القوم يطلبونه فإذا ظفروا به عليه السلام استغنواْ عن طلب غيره, فقال لهم: (أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي لَيْسَتْ لِي فِي أَعْنَاقِكُمْ بَيْعَةٌ وَ لَا لِي عَلَيْكُمْ ذِمَّةٌ وَ هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا وَ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِه), فاجتمع حوله إخوته وبنوه وأصحابه, وأجابوا بكلمة واحدة! لمَ نبقى من بعدك؟
وكأن لسان حالهم أجمع على تحمل المسؤولية الكبيرة, وأن يقدموا أنفسهم بين يدي الحسين عليه السلام مجزرين ومقطعين من أجل القضية التي تحملها الحسين عليه السلام؛ لتمتزج دماؤهم بدم الحسين الوجيه عليه السلام وليشاركوه في ملحمته فيخلدون بخلوده الكبير وهو ما ناله ونالوه فسلام الله على أبي عبدالله الحسين وعلى أهله وأصحابه ابدا ما بقي ليل ونهار وما تعاقبت الأجيال وتعددت الامصار.
/110