د. علي دربج - العهد
لُغز اكتساح "طالبان" السريع للمناطق الافغانية.. سيناريوهات الصراع المستقبلية
طرح الاكتساح السريع لـ"حركة طالبان" الارهابية، لمناطق واسعة من افغانستان وتطويقها للعاصمة كابول في الايام القليلة الماضية في اعقاب بدء الانسحاب الاميركي من هذا البلد، اسئلة كثيرة حول ما يحدث هناك، وكيف ولماذا تكسب "طالبان" بهذه السرعة، ولماذا تتراجع القوات الأفغانية في العديد من المناطق؟ وما يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل أفغانستان؟
د. علي دربج(*)
طرح الاكتساح السريع لـ"حركة طالبان" الارهابية، لمناطق واسعة من افغانستان وتطويقها للعاصمة كابول في الايام القليلة الماضية في اعقاب بدء الانسحاب الاميركي من هذا البلد، اسئلة كثيرة حول ما يحدث هناك، وكيف ولماذا تكسب "طالبان" بهذه السرعة، ولماذا تتراجع القوات الأفغانية في العديد من المناطق؟ وما يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل أفغانستان؟ وما هي العثرات التي ارتكبتها كل من الحكومتين الأميركية والأفغانية وساهمت في تقدم الحركة؟ فضلا عن تداعيات القتال الدائر، والكارثة الإنسانية التي من المتوقع ان تتفاقم في المدى المنظور، بسبب تاريخ طالبان الحافل بالجرائم والفظائع والمذابح وانتهاكات حقوق الانسان وازدراء المرأة.
بحسب "شبكة سي ان ان" الاخبارية الاميركية في تقرير لها في 13 اب/ أغسطس، أغسطس الجاري،" تحتل "طالبان حاليًا، حوالي 17 من أصل 34 عاصمة إقليمية في أفغانستان ـ تم الاستيلاء عليها جميعًا في الأسبوع الماضي (الوقائع الميدانية على الارض تتغير كل ساعة)، وتتقدم نحو العاصمة كابول"، وذلك بعد هجوم لا هوادة فيه استمر لأشهر في البلاد أدى إلى إرهاق قوات الحكومة الأفغانية.
عمليا ان ما حدث هذا الأسبوع، هو مجرد استمرار لما رأيناه خلال الأشهر الاخيرة الماضية، حيث بدأت طالبان منذ حوالي ثلاثة أشهر، تحديدا في أواخر ايار/ مايو وحزيران/ يونيو المنصرمين، بالزحف والاستيلاء على عدد كبير من الارياف والقرى الافغانية، وكثّفت هجماتها بوتيرة متزايدة في تموز/ يوليو الماضي، ثم شنت حملة هجومية مطلع الشهر الجاري، اجتاحت خلالها البلاد بطريقة لم يسبق لها مثيل منذ تدخل الولايات المتحدة في واحتلال كابول أواخر عام 2001، حيث باتت تسيطر طالبان الان، على اكثر من نصف مقاطعات أفغانستان البالغ عددها 400.
بخلاف ما يعتقده الكثيرون، فإن سقوط المناطق بيد طالبان، لا يرتبط فقط، بالقوة العسكرية او الكفاءة القتالية والتكتيكية لحركة طالبان، (وان كان لا يمكن نفي هذه العناصر كليا)، بل بالطبيعة الجغرافية والمساحات الشاسعة التي تمتد عليها افغانستان، إضافة الى التقسيم الاداري الذي تنتهجه الدولة تجاه المقاطعات، والحضور الهزيل لها فيها، والاهم التأثير النفسي الذي خلقه انسحاب القوات الاميركية من افغانستان، كلها عوامل مكّنت طالبان من الوصول الى ما عليه هذه الايام.
في الواقع، هناك ما يزيد قليلاً عن 400 منطقة (اي مقاطعة) في جميع أنحاء أفغانستان. جميعها تقريبًا لديها ما يسمى بالمركز الإداري للمقاطعة، وهي قرية واحدة تغطي أحيانًا أميال مربعة مجنونة، وتنافس تلك الموجودة حتى في الولايات الأمريكية مثل رود آيلاند.
يوضح كبير محللي مجموعة الأزمات الدولية لشؤون أفغانستان أندرو واتكينز، كيف استولت طالبان على عواصم المقاطعات بالقول: "لأطول فترة، أشارت الحكومة الأفغانية إلى خريطة مركز المنطقة هذه كوسيلة لإثبات سلطتها، في حين أن وجودها أو تأكيد سلطتها الوحيدة في الواقع قد يكون مركزًا للمقاطعة حيث يوجد فيها مبنيان محميان بواسطة قوة عسكرية أو شرطة صغيرة، أو في بعض الأحيان مجرد ميليشيا مجهزة وتدفع من قبل الحكومة. وهذا كل شيء. هذه هي الحكومة الوحيدة الموجودة في تلك المنطقة بأكملها ، لأميال في أي اتجاه".
واضاف "اجتاحت طالبان جميع أنحاء البلاد من خلال هذه المناطق بسرعة. لكن ليس من الدقة القول إن طالبان تسيطر الآن على جميع المقاطعات التي استولوا عليها، لأنهم في كثير من الأماكن لم يشكلوا حكومة ظل. لم يتركوا حامية من مقاتليهم للسيطرة على المنطقة. في بعض الأماكن، كانوا يتسببون في هروب القوات أو الشرطة الأفغانية ، والاستسلام ، والتراجع ، والعودة ببساطة إلى ديارهم".
ويلفت واتكينز الى انه "عندما نرى خريطة أفغانستان مع كل الأراضي ذات الرموز الملونة (انظر الخريطة المرفقة)، فليس الأمر أن طالبان لديها سيطرة كاملة على تلك المساحات الكبيرة. بل أن تلك البؤر الاستيطانية الصغيرة في القرية قد سقطت واحدة تلو الأخرى ، كون لا يوجد أحد في الجوار لمنع طالبان من الإغلاق على المدن.
قد يقول البعض أن السبب في ذلك هو الانسحاب الأمريكي. واذا كان هذا صحيحا ، فهو يعتمد على التأثير النفسي لذلك الانسحاب، وليس العسكري.
منذ أن تم التوقيع على اتفاق السلام، بين الولايات المتحدة وطالبان، اواخر شباط 2020 ، قلّصت الولايات المتحدة حقًا من غاراتها الجوية ضد طالبان. في معظم عام 2020 ، والأشهر الأولى من هذا العام الحالي 2021، لم تكن الولايات المتحدة تقصف طالبان الا كذرّ الرماد في العيون. وقد منحهم ذلك فترة راحة كبيرة، مقارنة بحملة القصف المكثفة التي قامت بها في عامي 2018 و 2019.
كادت الولايات المتحدة أن تبني مظلة مصطنعة للأمن مع عدد الطائرات التي تحلق وعدد القنابل التي تسقط على طالبان في السنوات السابقة ، مما خلق حاجزًا وقائيًا بحيث كانت لا تحتاج قوات الأمن الأفغانية معها للقتال. كلما اقتربت طالبان من الأماكن، كانت هناك دائمًا طائرات أمريكية لإخراجهم.
من الممكن للجيش الأفغاني صدّ طالبان، فهو لديه القدرة على القيام بذلك. لكن السؤال هو ما هو التأثير النفسي لفقدان الدعم الجوي الأمريكي، خصوصا ان لدى الحكومة الافغانية قوة جوية ، لكنها ضعيفة جدا، مقارنة بالقوة الجوية الاميركية، وعدد الذخائر التي كانت الولايات المتحدة تسقطها في السنوات التي سبقت شباط 2020. من هنا لا يمكن لسلاح الجو الأفغاني سد هذه الفجوة.
على الرغم من كل التحديات، تمتلك الحكومة الأفغانية وفقا لموقع الاذاعة الوطنية الاميركية، "قوات خاصة قادرة بشكل لا يصدق، ولديهم القدرة العسكرية التقنية، وغالبًا ما يتم إرسالها للقيام بالقتال في جميع أنحاء البلاد. لكن ما يجب معرفته، هو ما هي الحالة التي تعيشها القيادة السياسية هذه الايام، وتأثير الشعور بالوحدة عليهم، مع بدء الانسحاب الاميركي؟؟؟
فالانسحاب الكامل للدعم الجوي الأمريكي كان بمثابة إشارة للحكومة الأفغانية بأنها متروكة لمصيرها، ومن شأن ذلك أن انعكس تراجعا في معنويات الحكومة الأفغانية، ينما تعززت في صفوف طالبان.
اذ استغلت طالبان حالة الضعف والتردي المعنوي الذي تعيشه الحكومة الافغانية هذا الايام مع توالي الانسحاب الاميركي، واصبحت تتمتع بقدر أكبر من الحرية في التحرك في جميع أنحاء البلاد. لقد تمكنوا من التعافي والتخطيط والاستعداد لهذه اللحظة خلال معظم العام الماضي.
في كل انتصارات طالبان، ثمة شيء مهم هنا يجب الالتفات اليه، وهو على قدر من أهمية استيلاء الحركة على عواصم المقاطعات، وهو أنها بدأت في الاستيلاء على نقاط جمركية كبيرة مع دول آسيا الوسطى التي تحد أفغانستان، وكذلك على نقاط العبور إلى إيران وباكستان. وهذا سيحرم الحكومة من الدخل، ويمكّن طالبان من فرض ضرائب على التجارة لتمويل قتالهم.
لا يمثل الاستيلاء على المعابر الحدودية تحديًا سياسيًا داخليًا لسلطة الحكومة الأفغانية فحسب، بل أيضًا تحديًا جيوسياسيًا لأنه يجبر الدول المجاورة على تحديد ما إذا كانت تريد الاعتراف الفعلي بـ "طالبان" والتعاون معها على الجانب الآخر من الحدود أم لا، بدلاً من مع الحكومة الأفغانية.
وانطلاقا من ذلك كله، وبالنظر إلى المستقبل، هناك ثلاثة مسارات محتملة للصراع في افغانستان:
الاول | الخنق البطيء: كانت الاستراتيجية الرئيسية لطالبان هي احتلال المناطق الريفية التي يصعب على الحكومة الدفاع عنها ، ثم تطويق المدن وزيادة الخوف المحلي والسيطرة على حد سواء. الآن يتم تنفيذ هذه الاستراتيجية على نطاق وطني، مع سيطرة طالبان على المقاطعات بطرق تقطع المدن الكبرى عن بعضها البعض، وتقييد الإيرادات والسلع في العاصمة ، وتطويق العاصمة كابول وعزلها بشكل متزايد وهو ما يحصل الان. توضح خريطة المناطق التي تسيطر عليها طالبان مدى تطويق كابول من الشمال والجنوب والغرب.
تهدف استراتيجية التطويق إلى استنزاف قوة الحكومة بمرور الوقت. الفكرة هي أنه مع وجود ضغط وحرمان كافيين، ستقايض الحكومة طالبان من أجل السلام وتعطي طالبان معظم ما تريد في هذه العملية. ومع ان هذا سيكون انتصارًا لطالبان ، لكنه قد يؤدي إلى بعض توازن القوى الذي يمكن للفئات العرقية والسياسية المختلفة قبوله.
الثاني | نقطة التحول: يتضمن هذا السيناريو وصول طالبان إلى نقطة تحول نفسيّة حيث يبدو أن انتصارهم النهائي لا مفر منه لكتلة حرجة من القادة السياسيين ووسطاء السلطة الذين يغيرون مواقفهم أو يستسلمون بسرعة لتجنب القتال المكلف أو الاضطهاد في ظل نظام سياسي جديد. وقد حدث هذا بالفعل في كثير من الحالات، مع تقارير تفيد عن انقلاب البعض على الدولة الافغانية، واستسلامهم، بشكل يفوق عدد حالات المعارك الضارية. من الناحية التاريخية، هذه هي الطريقة التي تتغير بها السلطة في كثير من الأحيان في أفغانستان. في عام 1996، سرعان ما أصبح ما بدا وكأنه تقدم ثابت ولكن بطيء لطالبان، بمثابة هزيمة للفصائل الافغانية الاخرى، عندما انهارت دفاعات كابول وتمكنت طالبان من التقدم إلى المدينة في غضون أيام قليلة. يبدو هذا السيناريو أكثر احتمالا في ضوء التطورات السريعة الأخيرة لطالبان. ومن شأنه أن يوفر لحركة طالبان أقصى قدر من المكاسب، ومن المرجح أن يؤدي إلى عودة الإمارة التي أعلنوا عنها من جانبهم، أو شيء قريب منها.
الثالث: القفز من الحضيض، وهو السيناريو الأكثر تفاؤلاً، هو أن الحكومة الأفغانية وائتلاف القادة السياسيين المناهضين لطالبان سوف يحفزهم التهديد الوجودي الذي يشكله تقدم الجماعة، للدولة، وبالتالي سيدفعهم الى الاتحاد في شكل أكثر تنسيقاً وحيوية، ويشكلون جبهة معارضة حماسية. بدا أن الرئيس الاميركي جو بايدن يعتمد على هذا السيناريو عندما أشار الثلاثاء الماضي، إلى أن "الولايات المتحدة تواصل تزويد قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية (ANDSF) بالدعم الجوي والموارد الأخرى"، لكنه قال: "يجب أن يرغبوا في القتال. "
الاربعاء الماضي التقى الرئيس الافغاني اشرق غني بقادة في مزار الشريف في محاولة لتجميع الموارد وزيادة الدوافع السياسية لدى الدوائر الانتخابية الشمالية للقتال ضد مكاسب طالبان. القلق هو أن هذا الجهد المبذول في الوحدة السياسية قد يكون ضئيلاً ومتأخراً للغاية. فإذا استطاعت قوات الدفاع الوطني الأفغانية أن تمنع طالبان من الاستيلاء على أكبر المدن وجميع طرق النقل، فستوفر الوقت للقوات الأفغانية للتكيف مع الواقع الجديد للقتال بدون عناصر تمكين من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وهذا من شأنه أن يترك حرب استنزاف طاحنة ، ولكن في الوقت ذاته، من المرجح أن يؤدي إلى نوع من الجمود في ساحة المعركة الذي يجعل مفاوضات السلام المثمرة أكثر احتمالا.
لسوء الحظ ، فإن كل هذه السيناريوهات لها تكاليف بشرية هائلة على الأفغان ومن غير المرجح أن تؤدي إلى الاستقرار في أي وقت قريب. إذا صمدت الحكومة الأفغانية ، فستظل ضعيفة وهشة، وسيتعين عكس زخم طالبان أو إيقافه لفترة من الوقت قبل أن يتم التفاوض على أي تسوية سياسية جادة.
إذا تمكنت طالبان من احتلال افغانستان ، فستواجه تحديات حكم رهيبة أكثر وفي مقدمتها، نفور بعض الجماعات العرقية ، والغالبية العظمى من المواطنين الأفغان من طالبان، إذ انهم لا يريدون العيش تحت حكمهم، وذلك بالنظر إلى الفظائع والسياسات القمعية الأخيرة التي ارتكبتها، علاوة على ذلك افتقار "الحركة" لخطة واضحة أو خبرة في إدارة دولة حديثة، وبالتالي هذا سيحرم طالبان مساعدات كبيرة كانت تنتظرها من المانحين، وينزع عنها الشرعية التي اكتسبتها نتيجة اتفاق السلام مع اميركا.
إن إبطاء زخم حركة طالبان ليس بالمهمة السهلة ـ ولكن لا أحد في المنطقة يريد أن يرى سيطرة طالبان على السلطة أو يستفيد من آثار سقوط كابول. حتى لو استغرق الأمر بعض الوقت لإعادة تجميع القوات المناهضة لطالبان، فإن الثورة المضادة تبدو حتمية ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية متوازنة وشاملة.
(*) باحث ومحاضر جامعي
/110