حين سمعنا مقولة وزير الخارجية الإيطالي وغيره من الأوروبيين (لابد من تجميد اتفاق الشراكة مع سوريا) تبادرت إلى أذهاننا سريعاً أحداث العام (2009) عندما ذهل ممثلو الاتحاد الأوروبي من تأجيل سوريا للتوقيع على اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية، فسوريا الدولة الوحيدة بين دول حوض المتوسط التي أجلت توقيع الاتفاقية في الأشهر الأخيرة من العام (2009)، كان لها أسبابها المنطقية اقتصادياً في التأجيل حينها، على اعتبار بأن الكثير من البنود التي كتبت في العام (2003) أصبحت غير مفيدة في العام (2009) كون معظمها قد نفذ فعلاً في التحولات التي يعيشها الاقتصاد السوري، على عكس الأسباب التي جمد بموجبها الأوروبيون نفس الاتفاقية خلال السنوات الست المذكورة
بغض النظر عن إمكانية تحقيق هذا التجميد من عدمه، ولتوضيح بعض الحقائق التي يمكن أن تكون خافية عن البعض، ارتأينا التعمق أكثر في اتفاقية الشراكة بحد ذاتها، مع تسليط الضوء على دور أوروبا في الخارطة التجارية لسوريا والتغيرات الجذريّة التي حدثت في تلك الخارطة خلال السنوات الأخيرة.
هل حقاً الشراكة هي لمصلحة دول الجنوب؟
بدايةً لا بد أن نعلم بأن اتفاقية الشراكة من وجهة نظر اقتصادية، إنما هي علاقة مركز بمحيط، علاقة دول غنية بدول فقيرة، بل وأكثر من ذلك علاقة دول رائدة النمو في العالم متكتلة ضمن اتحاد أوروبي، مع دول لا تزال في طور مراحل تنميتها الأولى متفرقة كل على حدة.
فإذا كان أحد أهم أهداف إعلان برشلونة هو تحقيق التوزيع الأمثل للموارد في المنطقة وتحسين مستوى المعيشة فعلينا أن نكون منطقيين بأن هذا الأمر إنما يتطلب الكثير من الموضوعية من قبل الشريك الغني، فالصناعة في أوروبا على سبيل المثال ذات قيمة مضافة عالية جداً نتيجة للتطور التكنولوجي الرائد فيها، بينما الصناعة في سوريا لا تزال في معظمها في قطاعات متدنية القيمة المضافة، ومرتفعة التكاليف، وضعيفة الإنتاجية.
وعليه ومن دون وجود معاملات تفضيلية، فإن الصناعات السوريّة الناشئة سيكون مصيرها الاختناق في النهاية، إذا ما وجدت نفسها ولو بعد عدد قليل من السنوات وجهاً لوجه في ساحة قتال غير متكافئة أمام الصناعات الأوروبية.
وإذا ما أردنا اتفاقية شراكة صحية فيجب أن تقارن مع تلك التجربة التي خاضتها دول مثل إسبانيا واليونان والبرتغال والتي منحت مدة انتقالية طويلة جداً وإعفاءات ومزايا كبيرة ناهيك عن المعونات الدائمة، لكن المشكلة بأن مثل هكذا مقارنات يمكن أن تكون غير منطقية طالما أن الهدف أن تصبح سوريا كمثيلاتها في دول جنوب المتوسط كالمغرب والجزائر لا كتلك القابعة في الشمال.
وعليه فإن إقامة منطقة تجارة حرة بين منتجات سوريّة وأخرى أوروبية، دون المرور بمعاملة تفضيلية للدول الأقل نمواً، سيؤدي في الفترة الأولى وخلال المرحلة الانتقالية الممنوحة التي لن يتجاوز تدريجها الخمس سنوات إلى تزايد في تصدير المنتجات السوريّة إلى أوروبا سواءً تلك الصناعية منها، أو الزراعية، ولكن ومع مرور الوقت، سنرى أنفسنا أمام تنافس غير مشروع بين المنتجات الأوروبية والسوريّة، ولنا في التجربة التركية أكبر مثال على ذلك.
أما الاستثمارات الأوروبية المباشرة، التي نعتبرها الأكثر أهمية من فتح الأسواق، فللأسف فإن الاتفاقية لا تلزم الجانب الأوروبي على القيام بمثل هذا النوع من الاستثمارات، بل تترك الأمر لمبادئ اقتصاد السوق، والذي سيقضي من خلال مبدأ المصلحة إلى قيام مثل هذه الاستثمارات، وهنا نتساءل لما ذا يتم التركيز والتوقيع على اتفاقية منطقة حرة، ويترك أمر الاستثمارات للمصالح؟!
كما نتساءل لماذا أخذت أوروبا لنفسها عشرات السنوات من الحماية على منتجاتها الزراعية عندما كانت تفرض قيوداً كمية على الصادرات السورية إلى أوروبا، والآن تتحدث عن فتح الحدود بعد أن وصلت الإنتاجية الزراعية لديها إلى مستويات خارقة في التنافس؟
بلغة الأرقام:
أما عن التساؤلات التي تطرح اليوم عن الآثار التي ستواجهها سوريا فيما لو فرضت عليها عقوبات اقتصادية من الدول الأوروبية مثيلة لتلك الأمريكية التي استمرت لسنوات، لا بد بأن نقرأ خارطة التبادل التجاري الأورو-سوري والتي تؤكد ما تناولناه أعلاه من علاقة المركز بالأطراف، فالميزان التجاري بين الطرفين خاسر بامتياز لصالح الدول الأوروبية وهو المسؤول تحديداً عن العجز المزمن الذي يعيشه الميزان التجاري السوري خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفي حين ترفض الأسواق الأوروبية استقبال المنتجات السوريّة المصنعة وتنحصر صادراتنا إليها بشكل أساسي في المواد الخام وعلى رأسها النفط، تستورد سوريا قائمة طويلة من المنتجات المصنعة ذات القيمة المضافة العالية، فحسب إحصاءات التجارة الخارجية للعام (۲۰۰۸) استوردت سوريا من دول الاتحاد ما يناهز (۲۴۴) مليار ليرة في حين صدر لها (۲۳۷) مليار، (۲۰۹) مليار منها نفط خام (۸۸ %)، وبالتالي وبإزالة النفط من الميزان التجاري فإن العجز في الميزان التجاري غير النفطي وصل إلى (۲۱۶) مليار ليرة، وهذا الأمر لم يختلف في العام (۲۰۰۹) إذ صدّرت سوريا (۱۴۷) مليار ليرة منها (۱۳۰) مليار نفط خام في حين استوردت (۱۶۸) مليار ليرة ليصل العجز في الميزان الغير نفطي إلى (۱۵۱) مليار ليرة سوريّة.
التبادل التجاري غير النفطي مع دول الاتحاد الأوروبي:
وعليه فان إيقاف اتفاقية الشراكة لن يؤثر على خارطة الصادرات السوريّة لأنها بالأساس لا تتوجه إلى الأسواق الأوروبية، في حين أن النفط يمكن تحويله بسهولة إلى مناطق أخرى أمام اشتداد الطلب العالمي عليه، ناهيك عن أنه وخلال سنوات قليلة وحسب الاستراتيجية السوريّة لصناعة مشتقاتها النفطية لن نرى الصادرات النفطية السوريّة بحجمها اليوم بعد افتتاح مصفاة النفط الثالثة في منطقة الفرقلس والتي ستوفر على الاقتصاد السوري مليارات كثيرة من استيراده للمشتقات النفطية من المازوت والبنزين أمام عجز مصفاتي بانياس وحمص عن إنتاج حاجة الأسواق السوريّة اليوم.
أما في الواردات فلا أعتقد بأن أوروبا ستحاول منع الشركات الأوروبية من تصدير منتجاتها إلى سوريا التي تشكل سوقاً لا بأس به لها، وإن حصل ذلك فهو لا شك أمر قاس على الشركات السوريّة وخاصة تلك التي تستورد الآليات والسلع الأولية من البلدان الأوروبية منها، إلا أن الإيجابية المتوقعة منه تتمثل في زوال العجز المتمثل في الميزان التجاري الخاسر مع الدول الأوروبية عموماً.
نحن بالطبع لسنا مع بقاء السياسة الحمائية إلى ما لا نهاية، لأنها تحمل في طياتها الكثير من العوامل السلبية، لكننا في نفس الوقت مع انفتاح منطقي على دول مشابهة لاقتصادياتنا من جهة، ويحقق الانفتاح معها تكاملاً اقتصادياً مفيداً للطرفين من جهة أخرى.
فمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي تعد سوريا أحد أطرافها الرئيسيين، حققت وستحقق للدول العربية العديد من المزايا الاقتصادية، فهي تحفز نحو تخصص كل من الدول العربية في عدد لا بأس به من الصناعات التي تملك تلك الدول مزايا نسبية في إنتاجها، مقابل تخصص دول أخرى في صناعات أخرى، الأمر الذي يعود بالفائدة للجميع، وما الفائدة التي حققها الاقتصاد السوري من هذه العلاقة إلا أكبر مثال على ذلك، فخلال خمس سنوات استطاعت سوريا عندما وجدت منافسة شريفة مع بلدان مشابهة لاقتصادياتها في مراحل نموها تحقيق نتائج جد ايجابية غيرت معها من خارطة التبادل التجاري لسوريا بشكل جذري، تمثلت في مضاعفة أرقام التبادل التجاري مع البلدان العربية من (۱۲۸) مليار ليرة سوريّة عام (۲۰۰۴) إلى (۳۵۹) مليار عام (۲۰۰۸) و(۲۵۶) مليار عام (۲۰۰۹) في مقابل عجز واضح في التعامل مع باقي التكتلات الاقتصادية في العالم وخاصة الاتحاد الأوروبي كما هو موضح في الرسم البياني المرفق، ناهيك عن أن الطريقة الأفضل للتفاوض في موضوع الشراكة الأوروبية كان يمكن أن تتم من خلال تفوض تكتل إقليمي منظم ضمن منطقة حرة هو الأقطار العربية مع تكتل إقليمي أكثر تنظيماً ضمن اتحاد أوروبي، لكن وللأسف فقد استطاعت هذه الدول الأوروبية أن تجر بلدان جنوب المتوسط العربية إلى شراكاتها الواحدة بعد الأخرى بشكل متفرق مما ضمن لها العديد من المزايا تحت سحر المعونات، ليس أقلها في حل مشكلة الهجرة من جهة، وفتح أبواب الأسواق الموصدة من جهة ثانية.
فراس حداد، موقع: سوریااستبس
تنا – مکتب سوریا