أطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشارة إمامة الباقر قبل أن يلد (عليه السلام) حينما قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: (يا جابر إنّك ستعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي اسمه اسمي، يبقر العلم بقراً فإن رأيته فاقرأه منّي السّلام)
ويطول العمر بجابر ويلتقي بفتى في بعض سكك المدينة، فيتوسم فيه هيأة الإمام الذي وعد به رسول الله وحمله أمانة السلام عليه ويقف مذهولاً وهو يتأمل الشبه بينه وبين جده النبي وكأنه يرى رسول الله، فلم يستطع صبراً على سؤاله:
ــ يا غلام من أنت ؟
ــ أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
ــ يا بني إقبل ... فاقبل ... ادبر .. فادبر. فقال جابر: شمائل رسول الله ورب الكعبة.
ثم قال له: يا بني رسول الله يقرؤك السلام
فقال الإمام الباقر (عليه السلام): على رسول الله صلى الله عليه وآله السلام مادامت السماوات والأرض وعليك يا جابر بما بلغت السلام
فقال له جابر: يا باقر أنت الباقر حقاً أنت الذي تبقر العلم بقراً.
يُلاحظ في هذه المحاورة الأدب الجم والأخلاق العظيمة التي تحلّى بها الإمام (عليه السلام) وهو صغير، ولا غروَ على من وُلد ونشأ وترعرع في بيت الوحي والنبوة أن يكون بهذا المستوى العالي من التربية، وهو ما جعل جابر يلزم الإمام ولا يفارقه حتى فارق الحياة بعد أن وجد فيه شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخلاقه يتجسّدان أروع تجسيد، فكان يأتي إليه فيجلس بين يديه فيعلمه الإمام وربما غلط جابر فيما يحدث به عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيرد عليه ويذكره فيقبل ذلك منه ويرجع إلى قوله وكان يقول: يا باقر يا باقر يا باقر أشهد بالله إنك قد أوتيت الحكم صبيا.
فالنبي هو أول من أطلق عليه لقب الباقر وقد جمع شرف النسب النبوي القرشي من جانبيه فهو ابن علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين، فأمه هي الصديقة الطاهرة فاطمة بنت الإمام الحسن (عليهما السلام) التي يقول فيها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (كانت صدّيقة لم تدرك في آل الحسن مثلها).
يقول السيد محسن الأمين: (أنّ محمّد الباقر هاشميّ من هاشميين وعلويّ من علويين فاطميّ من فاطميين، لأنّه أوّل من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين).
كانت حياة الإمام الباقر (عليه السلام) مدرسة فكرية، تربوية، أخلاقية جسد فيها مفاهيم الإسلام الحقة في وقت طغى على الأمة الانحراف السلطوي الأموي، وقد ترك الإمام الباقر (عليه السلام) تراثاً إنسانياً ثراً على جميع الأصعدة العلمية والفكرية والفلسفية والتربوية.
يقول الشيخ محمد حسن آل ياسين: (كان تراث الإمامة الذي خلفه الإمام الباقر (عليه السلام) للأجيال من بعده شامخاً بالغ الشموخ في تلألئه ولمعانه، ورائعاً فائق الروعة في أسلوبه ومحتواه، بل يصح أن يعد ــ بحكم كونه جوهر الإسلام ــ ولباب الشرع ــ أسمى ما ورث المسلمون من فكرهم الديني النقي الأصيل عظمة وسعة وعلو شأن ورفعة مقام)
وقد جسد (عليه السلام) الإسلام في جميع أقواله وأفعاله، ووضع بأقواله ووصاياه نظماً وقواعد اجتماعية تضمن للمجتمع العيش بمنتهى الرقي والسلام والطمأنينة والمحبة. وهذه مقتطفات من أقواله في مواضيع اجتماعية مهمة:
رسم (عليه السلام) خطة المجتمع الناجح بالعمل وترك الكسل والضجر فلا يمكن أن تتقدم المجتمعات إلا بالعمل كما أن الكسل والخمول والفراغ تؤدي إلى الفقر والعوز والفاقة ومن ثم إلى ارتكاب الجرائم.
يقول (عليه السلام): إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل شر، من كسل لم يؤد حقا، ومن ضجر لم يصبر على حق)
ويتجلى هذا المعنى أكثر بقوله: (الكسل يضرُّ بالدين والدنيا)
فكان (عليه السلام) يريد مجتمعاً إسلامياً مثالياً خالياً من الضغائن والأحقاد والخصومات فكان دائماً يقول:
(إن المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء به الظن).
ويقول: (إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب وتورث النفاق)
ويقول: (سلاح اللئام قبيح الكلام)
ومن وصاياه في زرع المحبة بين الناس والحث على السلام والتعاون والإخاء قوله:
(إن الله يحب إفشاء السلام)
وقوله: (ليُعن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه).
كما حث (عليه السلام) على صلة الأرحام والتزاور فقال:
(صلة الارحام تزكّي الأعمال، وتُنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتُيسِّر الحساب، وتنسئ في الأجل).
وقال: (عليكم بالحب في الله، والتودُّد والمؤازرة على العمل الصالح).
وضرب (عليه السلام) أروع الأمثلة في إداء الأمانة وتجنب الخيانة بقوله:
(لو أن قاتل علي بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على أمانة لأديتها إليه).
وقال: (عليكم بالورع والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً كان أو فاجرا).
ومثلما كان (عليه السلام) يأمر ويحث الناس على التحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة فإنه كان ينهى ويحذر من التعامل بالسلوك المشين والصفات الرذيلة فكان يأمر بكف الألسن وينهى عن التنابز وإيذاء الناس بالكلام البذيء فيقول:
(كفى بالمرء عيباً أن يتعرف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه، أو يعيب الناس على أمر هو فيه لا يستطيع التحول عنه إلى غيره، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه).
وقال في صفة هي من أبشع الصفات التي تصاب بها المجتمعات: (المتكبر ينازع الله رداءه).
وقال: (ما عرف الله من عصاه)
قال من وصيته لجابر الأنصاري: (يا جابر أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كذبت فلا تغضب، وإن مدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع).
ونختم هذه الوصايا ببيتين للإمام قالهما في معنى طاعة الله وتجنب معصيته:
تعصي الإلهَ وأنتَ تظهر حبَّه *** هذا لعمركَ في الفعالِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صـادقـاً لأطعته *** إنَّ الـمحبَّ لمن أحبَّ مُطيعُ
محمد طاهر الصفار
/110