"صحيح انه توجد خلافات فقهية ونظرات عقائدية متباينة بين المسلمين في أمور كثيرة لكنها لا تخرجهم عن كونهم مسلمين حنفاء لله سبحانه، والمشكلة ان هناك من يثير هذه الشحناء الطائفية بين المسلمين "
د.علي رمضان الأوسي
الانتفاضات العربية :المخاوف – الهواجس – التحديات
تنا بيروت
21 Jun 2011 ساعة 2:15
"صحيح انه توجد خلافات فقهية ونظرات عقائدية متباينة بين المسلمين في أمور كثيرة لكنها لا تخرجهم عن كونهم مسلمين حنفاء لله سبحانه، والمشكلة ان هناك من يثير هذه الشحناء الطائفية بين المسلمين "
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(سورة الانبياء: ٩٢)
لا شك ان المطالبة بالحقوق أمر مشروع ولا خلاف في ذلك، بعد أن أحسّت وضاقت ذرعاً الشعوب بظلم الأنظمة والاستبداد الفاحش وتبديد الثروات والاستهانة بالانسان وكل صور الاساءة للانسان العربي والمسلم معاً طيلة عقود من الزمن لم تشهد هذه الانظمة اصلاحات حتى على سبيل المحاولة الاصلاحية فتفاقم الأمر أكثر فأكثر، الى جانب ذلك كان للوعي الاسلامي أثر كبير في حياة الأمة والناس والأفراد.
ويمكننا ان نقف أمام نوعين من هذه الانتفاضات والمطالبات:
١- الانتفاضة العفوية وحركة الناس المدفوعة بفعل الحاجة الحياتية والتطلع نحو الأفضل يدعم ذلك ويسنده تنامي الوعي الديني لرفض الاستبداد والعيش في ظل حياة كريمة.
٢- التحرك التدريجي بفعل التوجيه الخارجي سرعان ما التقى مع تطلعات الناس والشعب للتغيير فهنا تمتزج العفوية بالدفع الموّجه الخارجي.
وكلا النوعين المذكورين تهدده جملة من التحديات التي نخشاها جميعنا لأنها تحديات قد تسرق هذه الثورات أو تحرف مسيرتها أو تنتهي إلى نتيجة تضطر فيها للاستسلام للأقوياء.
ومن هنا ننطلق للحديث عن هذه المخاوف والهواجس والتحديات أمام الانتفاضات العربية القائمة والقادمة أيضاً.
١- التجييش الاعلامي الممنهج وتضخيم الصورة والأصرار على هدف اسقاط الانظمة وكأن هناك توجيهاً اعلامياً ليس لتغطية الاحداث ونشر الاخبار فحسب بل لصناعة الحدث وفبركة الخبر أحياناً، هذه السياسة الاعلامية وراءها حُرَفية اعلامية عالية جندت لها أقوى فضائيتين عربيتين واسعتي الانتشار هما (الجزيرة والعربية) وتتبعهما فضائيات أخرى ولكن على التقسيط.
٢- وقوف دول عربية بشكل سافر على صعيد الدعم اللوجسيتيكي والمعنوي لتصعيد هذه الأحداث وكأن صراعاً كيدياً وثأراً موتوراً يكمنان وراء هذه المواقف الداعمة وهي لا تريد تغييراً منشوداً في هذه البلدان وإنّما لأسباب قد تكون بعضها قاهرة لهم أي لهذه الدول بضغوط الاقوياء أو لأسباب قد تمت بعضها الى الروح الكيدية والثأرية، أو لأسباب أخرى يحسّون من خلالها أنهم سيكونون بمنأى عن أية تغييرات في بلدانهم بل سيحضون بنصيب من النظام الشرق أوسطي الجديد.
٣- التدخل السريع للأمم المتحدة حين تحذر وتبدي عرضها بنقل ملفات هذه المناطق الساخنة الى مجلس الأمن طبعاً هذا ليس دفاعاً عن القمع الحاصل في بعض هذه المناطق وإنما هي سابقة خطيرة ان تدخل هذه المنظمة الدولية تحت هيمنة سياسة الأقوياء فهي غير حريصة على سعادة شعوبنا بقدر حرصها على تمرير مصالح الأقوياء. وهنا نسجل أدانتنا لكل عنف من أية جهة صدر.
٤- الأقوياء وهم الغرب والصهيونية: وهنا تكمن أخطر المخاوف والتحديات حيث شاهدنا دخول هؤلاء في بداية الاحداث وأثناءها مستمرين حتى تحقيق النتائج الأخيرة للتغيير.
نحن لا ندري كيف مستقبل شعبينا في شعب تونس ومصر، فبعد الانتفاضة الشعبية البطلة في البلدين صمت الموقف رغم كل المحاولات الخيّرة لكن الأقوياء لا يريدونها ان تمر لمصلحة أيٍّ من هذين الشعبين وإنما لابد من خارطة طرق شائكة وتشويش وتشويه لتصب المعركة في نهايتها لصالح الأقوياء وهم أناس متمرسون في هذا الطريق ولا يترددون في تنفيذ خططهم وليست لديهم أية خطوط حمر تمنعهم من سحق قيم هذه الشعوب وتطلعاتها أو سلب ثرواتها وغير ذلك.
٥- الطائفية والمشروع الغربي:
هناك مؤشرات كثيرة تكشف عن سعي من يستفيد من إثارة الطائفية في المجتمع الاسلامي، صحيح انه توجد خلافات فقهية ونظرات عقائدية متباينة بين المسلمين في أمور كثيرة لكنها لا تخرجهم عن كونهم مسلمين حنفاء لله سبحانه، والمشكلة ان هناك من يثير هذه الشحناء الطائفية بين المسلمين بنبش التاريخ وتقديس ما لا ينبغي تقديسه من الافكار والتصورات المتباينة مع الآخر، وهنا استفاد الاقوياء باشعال الحرب الطائفية ودق الأسفين البغيض بين المسلمين أنفسهم فراح يصف احتجاجاً ومطالبات ما بالشيعية على اقلية سنية كما في البحرين وراح من جهة أخرى يعمق من وصفه الطائفي للاحتجاجات والمطالبات في سوريا فوصفها بالطائفية السنية على الاقلية العلوية، وكلا الأمرين يستفيد منه الغرب المتربص بالنتائج ويخسر فيه المسلمون هذه المواجهات مهما كانت نتائجها في هذا الطرف أو ذاك.
٦- ان ممارسة انهاء وتدمير البنى التحتية للبلدان المنتفضة كما في ليبيا اليوم بفعل عمليات الناتو يفتح المجال واسعاً لهؤلاء الأقوياء للدخول من الشباك إنْ تعذر عليهم اقتحام الباب لسبب أو آخر، وبالتالي تضطر هذه البلدان للمطالبة بدخول الأقوياء تحت عناوين اعادة الاعمار وإطفاء الديون وتوسعة الاستثمار الاجنبي فيها. وهذه من التحديات التي تواجهها هذه الشعوب المنتفضة.
٧- هناك سياسة ثلاثية الأبعاد مارستها أمريكا بشكل خاص وحلفاؤها أيضاً حين يريدون اقتحام هذه البلدان وهي سياسة تبتني على:
١- ترويض الشعب من خلال زيادة معاناته اليومية.
٢- تطويع القوى والكيانات بتعقيد المستقبل السياسي لها والتفتيش عن حلفاء لهم بين هذه القوى.
٣- تركيع الأنظمة بأضعافها أو اسقاطها وقد تكون هذه الانظمة مستحقة لهذا المصير ولكن يجب ان يكون على ايدي شعوبهم فحسب.
وهذه أساليب الاستعمار الجديد وقد مارسوها في بلدان مختلفة ولا زالوا هم عليها لأنهم يؤمنون بجدواها وتأثيرها.
٨- الملفت للنظر ان هذه الاحداث في المنطقة العربية انطلقت بعد نشر وثائق ويكلكس المشبوهة المصنّعة أمريكياً، وهذا الالتقاء كما أشرنا: ان بعضه مقصود وبعضه الآخر عفوي لأن الشعوب المحرومة سئمت الظلم والاستبداد وحان التغيير ولكن ليس على المقاس الغربي، الذي أسس لتجنيد دول في المنطقة مع حلفاء كبار ودعم لوجستيكي موسّع وتجييش إعلامي مبرمج.
٩- لابد من التفكيك بين مطالب وحقوق الناس والشعوب وبين الانسياق في المخطط الغربي عن قصد او عفوية.
١٠- ان تسليح هذه الانتفاضات سيسيء لها ويسقطها وهذا التسليح يسرّع في ضربها والقضاء عليها وهناك وجه تبرير للانظمة بعنوان الدفاع عن النفس وغير ذلك.
١١- إنّ الوعي الديني هو الذي اختار أيام الجمعة للنهضة والاحتجاج السلمي من غير تدمير للمؤسسات وثروات البلاد وقتل الناس من أي طرف كانوا، وهذا هو النهج الصحيح والسليم بشرط ان لا يتأثر بالعامل الخارجي ولا التدخل الدولي او الاقليمي او النفعي والمصلحي وغير ذلك. وان الحفاظ على هذه الهوية سيبقي الروح الاسلامية المعتدلة والناصحة والسلمية سائدة على هذه الاحداث دون ان تنجر الجماهير الى سياسة العنف المرفوضة.
١٢- هناك صمام أمان لهذه الثورات والانتفاضات ان تحقق مستقبلاً واعداً لشعوبها وذلك من خلال انتهاج سبيل الوحدة والتقريب منهجاً لهذه الثورات والنأي بعيداً عن التوتر الطائفي والحيلولة دون نفوذ أعداء هذه الرسالة والأمة من خلال الطائفية المقيتة ونهج الفرقة والاختلاف والنبز واللمز في المقدسات والرموز والعقائد والاعتبارات لدى كل الأطراف، فمائدة الحوار هي الكفيلة بتقارب وجهات النظر لا سيما بلحاظ ظروف التحدي والمواجهة مع أعداء الأمة.
١٣- العراق:
قد يسألني البعض أليس العراقيون هم من بدأوا بأدخال الاحتلال الى بلادهم؟
وجوابي على ذلك:
إنّ الشعب العراقي انتفض عام ١٩٩١ قبل ثورات الشعوب العربية وكاد ان يسقط النظام الصدامي البائد على يد الشعب لكن أمريكا غيّرت سياستها فسمحت له بضرب الشعب باطلاق طائراته بشكل وحشي فتغيرت المعادلة لصالحه.
بقيت القوى العراقية المعارضة تعمل ضمن مشروعها في تغيير النظام وكان المشروع مبنياً على ان الشعب هو الذي يسقط السلطة والنظام وهو قادر على ذلك كما في ١٩٩١ والأمر الآخر ان يكون للعامل الدولي والاقليمي دور الداعم ليس إلا لا سيما بعد فرض منطقتي الحظر الجوي في الشمال والجنوب.
لكن الادارة الامريكية كان لها رأي آخر فهي التي أدارت عملية الاسقاط، وهنا نظر العراقيون الى الفراغ السياسي الذي ستخلفه هذه الاحداث فهل ستأتي أمريكا أيضاً بدكتاتور آخر كما جاءوا بصدام عام ١٩٦٨ فقررت قوى المعارضة العراقية والاسلامية منها بشكل خاص ان يسدّوا الفراغ السياسي ويعملوا على اخراج الاحتلال حسب القرار ١٤٨٣ الصادر عن مجلس الأمن وان يؤسسوا بأنفسهم مجلساً للحكم ودستوراً وانتخابات لكن ذلك كله لم يكن يرضي المحتلين فأعاقوا وقتلوا ومنعوا ولا زالوا حتى استمرت الحالة الى هذا اليوم رغم وجود الحكومة العراقية بيد العراقيين أنفسهم لكنهم – أي المحتلين – يزيدون من معاناة الناس وإعاقة العملية السيادية للبلد.
فهم – أي المحتلون – يفعلون المستحيل لأجل البقاء وتمرير مشاريع وتحقيق مصالح وهذا ما نخشاه ونخاف منه على أهلنا في كل هذه البلاد المنتفضة فهي هواجسنا ومخاوفنا الحقيقية عليها ولا يهمنا إلا وحدة شعوبنا الاسلامية المتطلعة للحرية والعدالة والرفاه الحياتي.
رعاكم الله جميعاً ووفقكم لأقامة هذا المؤتمر الرائع الذي يتطلع الى اجواء الوحدة الاسلامية بين المسلمين في كل مكان.
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(سورة آل عمران: ١٧٣).
شكراً لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(كلمة ألقيت في المؤتمر السنوي الخامس لمنتدى الوحدة الاسلامية المنعقد
تحت عنوان: (التغيير المنشود من أجل انهاض الأمة)
(١٧-٢٠ حزيران ٢٠١١ – لندن)
رقم: 53925