"لقد قدمت هذه المحكمة لقوى ١٤ آذار الذخيرة اللازمة لحروبها من أجل السلطة طوال السنوات الخمس الماضية، ومكنتها من استثمار مطلب «العدالة» لأغراضها السياسية، فاحتكرت السلطة، وفازت في الانتخابات النيابية "
طلال سلمان
"الحكم لا المحكمة .."
تنا بيروت
5 Jul 2011 ساعة 23:23
"لقد قدمت هذه المحكمة لقوى ١٤ آذار الذخيرة اللازمة لحروبها من أجل السلطة طوال السنوات الخمس الماضية، ومكنتها من استثمار مطلب «العدالة» لأغراضها السياسية، فاحتكرت السلطة، وفازت في الانتخابات النيابية "
أنجزت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مهمتها الاستثنائية الخطيرة بإصدار قرارها الاتهامي (الأول)، وفقاً لما كان يطلبه ويتوقعه الفريق السياسي الذي «ناضل» من أجل قيامها، متخطياً مختلف العقبات الدستورية والتشريعية.
لقد قدمت هذه المحكمة لقوى ١٤ آذار الذخيرة اللازمة لحروبها من أجل السلطة طوال السنوات الخمس الماضية، ومكنتها من استثمار مطلب «العدالة» لأغراضها السياسية، فاحتكرت السلطة، وفازت في الانتخابات النيابية ذات القانون المستعاد من الماضي البعيد، بأكثرية عددية مكنتها من الاستمرار في الحكم حتى نهاية السنة الماضية حين أُسقطت بالضربة السياسية القاضية بينما رئيسها سعد الحريري يدخل للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
ها هو القرار الاتهامي يحاول تعويض الخسائر، ولو متأخراً بعض الشيء عن الموعد الافتراضي الذي تجوّل بين أيلول الماضي وبدايات العام الحالي وشباط وآذار حتى صدر في اللحظة الفاصلة: مع نجاح الحكومة الجديدة في صياغة بيانها الوزاري يوم الجمعة الماضي الذي يؤهلها لتولي السلطة بعد إحراز الثقة (المضمونة) في المجلس النيابي.
هي اللحظة المنتظرة لمباشرة الرد على الانقلاب المضاد بانقلاب جديد يعيد السلطة إلى «أهلها» بقوة المحكمة الدولية التي أُنشئت بالطلب، وتم تفصيلها على مقاس اللحظة السياسية التي أنهت عصراً وافتتحت عصراً جديداً في التاريخ السياسي الاستثنائي لهذا البلد الصغير الذي كثيراً ما خدمت أوضاعه الخاصة جداً والفريدة في بابها قرارات دولية مصيرية تتجاوز حدوده الجغرافية الضيقة إلى العالم العربي من حوله، من دون إغفال واقع الاحتلال الإسرائيلي والعمل الدؤوب لطمس الأساسيات في القضية الوطنية الفلسطينية.
ليس كثيراً في عمر الشعوب أن يستغرق التحقيق الدولي خمس سنوات أو يزيد، قبل أن يعطي القرار الاتهامي الأول من سلسلة قرارات اتهامية ستتكفل بنقل لبنان ـ نهائياً ـ من موقع محدد على خريطة السياسة العربية والدولية إلى موقع آخر، مختلف جداً، بحيث يمكن وصفه بالانقلاب، في طبيعة الدور الذي كثيراً ما كان أكبر وأوسع وأشد تأثيراً من حجم هذا الوطن الصغير وإمكاناته الذاتية.
ثم إن الأوضاع السياسية التي كانت قائمة في الدول العربية من حول لبنان، لا سيما في سوريا، قد تحوّلت وتبدّلت بعدما عصفت التطورات بالاستقرار الذي كان سائداً، بقوة توافقات دولية معينة، وبغياب مطلق للشعوب عن دائرة التأثير.
بهذا المعنى يمكن الافتراض أن القوى الدولية التي أنشأت المحكمة الدولية، متغاضية عن عدم توفير «الشرعية» المطلوبة لها لبنانياً، قد رأت في تشكيل الحكومة بعد مفاوضات مضنية وجهود استثنائية للتوافق بين أطرافها متعددي التوجه على بيانها الوزاري، اللحظة المناسبة لمباشرة «الانقلاب» بقوة السلاح الذي لا يفل: القرار الاتهامي، المعروف مضمونه قبل خمس سنوات، والمنشورة تفاصيله في الصحف والفضائيات ـ بالأسماء والصور التشبيهية ـ قبل سنتين.
لذا، لم يكن القرار الاتهامي مفاجئاً لأحد، لا في مضمونه ولا تفاصيله، وإن اقتصرت المفاجأة ـ سياسياً ـ على توقيت تسليمه للقضاء اللبناني، وبأمل أن يشكل «عبوة ناسفة» لحكومة المعارضة السابقة، تمهّد لانقلاب شامل يعيد الحكم إلى المعارضة الجديدة التي حكمت خمس سنوات طويلة بقوة التحقيق الدولي ثم المحكمة الدولية.
إنه «البلاغ الرقم واحد»، كما أوحى البيان الذي أصدرته قوى ١٤ آذار، أمس، وتولى قراءته بطل التحوّل السياسي في البلاد، عبر قيادته لحرب المحكمة الدولية من فوق رأس رئيس الجمهورية والمجلس النيابي آنذاك، مستفيداً من مناخ الحزن والاستنكار الشامل الذي أعقب الجريمة الشنيعة التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ثم توالت حلقاتها تباعاً طوال شهور طويلة من الإرهاب المنظّم.
إنه الحكم لا المحكمة..
فالمحكمة دولية، أنشأها قرار دولي استثنائي صدر عن مجلس الأمن، خصيصاً، مستبعداً اللجوء إلى المحكمة الدولية القائمة فعلاً، والتي رفضت الولايات المتحدة الأميركية أن توقع على اتفاقيتها، حتى تمنع احتمال استفادة ضحايا احتلالها وإرهابها في دول عدة من إمكان محاسبتهم أمامها... فواشنطن، كما تل أبيب، تحاسب (بالكسر) ولا تحاسب (بالفتح)..
هذه، إذن، اللحظة الفاصلة: فلينزل القرار الاتهامي كسلاح مدمّر، سياسياً، إلى الميدان!
ولقد قرأت قوى ١٤ آذار القرار الاتهامي على أنه أمر بالهجوم الشامل على الحكومة جميعاً، مع التركيز على رئيسها الذي انتقل من موقع إلى آخر، موفراً للانقلاب المضاد فرصة النجاح، ولكن إلى حين، كما يفترض كتاب البلاغ الرقم واحد للانقلاب على الانقلاب.
نحن إذن أمام معركة سياسية جديدة بأسلحة توفر ذخيرتها الشرعية الدولية مغلفة بدعوى البحث عن الحقيقة والاقتصاص من عصبة الأشرار الذين نفذوا اغتيال الرئيس الشهيد.. فلا يربطن أحد بين مَن قرّرت المحكمة الدولية اتهامهم وبين تفاصيل الوضع السياسي في لبنان وفي المنطقة، فذلك يعبّر عن الاستهانة بالعدالة الدولية.
لكن الحقيقة أن الأمر يتصل، أولاً وأخيراً، بالحكم وليس بالمحكمة.
والقرار الاتهامي هو ـ كما فهمه اللبنانيون بمختلف توجهاتهم ـ هو البلاغ الرقم واحد للانقلاب الذي ما زال نجاحه حتى هذه اللحظة، احتمالاً غير مؤكد الإنجاز، والذي سنشهد تفاصيل جولاته في الأيام القليلة المقبلة، في المجلس النيابي وربما في الشارع الذي كان دائماً شوارع تتقاطع ولا تتلاقى فلا تشكل نهراً واحداً، وإن كان يمكن استدراجها للتورط في حروب أهلية تدمّر البلاد والعباد وتحرق لبنان الأخضر، من دون أن تبكيه «الدول» أو تبادر لإنقاذه، لأنها تهتم بمصالحها أولاً وأخيراً..
.. ولبنان، في أحسن الحالات، معبر محدود، لهذه المصالح التي كثيراً ما حوّلته إلى أرض محروقة.
نقلاً عن صحيفة "السفير"
رقم: 55535