"عدوان تموز.. دمار إسرائيلي واجهه صمود أسطوري "
ونحن في شهر تموز الذي «يغلي فيه الماء في الكوز» يجري الغليان في كل القضايا والأمور، محلياً على مستوى كل المناطق، وعربياً على مستوى كل الدول أو أكثر أو أغلبها، وعالمياً على مستوى كل الدول ذات الاهتمام وذات المصالح والمشارب وذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة التي تتأثر سلباً أو إيجاباً بما يجري ويطال قضاياها واهتماماتها..
خمس سنوات تكون قد مضت في مثل هذه الأيام على ما أطلق عليه «حرب تموز» تيمّناً بإسم الشهر الذي حدثت فيه وأقدم فيه العدو الإسرائيلي على عدوانه أو حربه، التي استمرت ٣٣ يوماً بالتمام والكمال، واستعمل فيه كل أنواع الأسلحة المدمرة والفتاكة، وقام فيه بتدمير كل الجسور في لبنان من أقصاه الى أقصاه، في محاولة لقطع أوصال الاتصال، وألغى فيه قرى بكاملها تقريباً ما بين الجنوب والبقاع، وحاول فيه بشتى الوسائل الضغط والتأثير باستهداف ألوف اللبنانيين وتشريد عشرات الألوف منهم لكسر شوكة المقاومة والقضاء عليها، قبل أن يتوقف العدوان ويندحر الاحتلال جاراً وراءه أذيال الخيبة والفشل، كما هي العادة في كل الحروب، بل والإعتداءات التي قام بها وتنوّعت ما بين اعتداء أو اجتياح منذ ما بعد الاجتياح الكبير الذي قام به في حزيران من العام ١٩٨٢، ووصل فيه الى العاصمة بيروت، فاحتلها في أول ظاهرة من نوعها يتم فيها احتلال عاصمة عربية، بعد القدس، قبل أن يُجبر تحت ضربات المقاومة على الإنحسار الى منطقة الجنوب، ومن ثم الى ما كان يسمى «الشريط الحدودي» قبل الاندحار تحت وطأة المقاومة في ٢٥ أيار ٢٠٠٠، شبه نهائي تقريباً من كل أراضي الجنوب – بإستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا..
ولكن العدوان الإسرائيلي، الذي شن تحت ذريعة أنه رد على أسر المقاومة للجنديين الإسرائيليين أيهود غولدفاسير والدا ريجيف، عاد لاحقاً قادة العدو واعترفوا بأن خطف الجنديين لم يكن هو المبرر، بل إن الحرب كان مُعداً لها قبل فترة من الوقت..
وقد أقر تقرير «لجنة فينوغراد» الإسرائيلي الذي صدر في أوائل شهر كانون الثاني من العام ٢٠٠٨، بالهزيمة الإسرائيلية خلال الحرب، ودعا الى التحضير للحرب المقبلة دون أن يتم تحديد زمانها أو مكانها..
وبين العدوان قبل ٥ سنوات واليوم، ما زال «الاحتلال المدفون» الألغام التي زرعها المحتل قبل اندحاره في العام ٢٠٠٠، وآلاف القنابل العنقودية التي نشرها خلال العدوان، تهدد حياة المواطنين وتحصد المزيد من الضحايا..
وكان بارزاً نجاح مخابرات الجيش اللبناني و«شعبة المعلومات» في قوى الأمن الداخلي بالتعاون مع الجهاز الأمني في المقاومة بتوقيف عشرات الشبكات العميلة مع «الموساد» الإسرائيلي، حيث اعترف هؤلاء بما مدوا به العدو من «بنك معلومات» استخدم العديد من أهدافه، وبقي لديه الكثير منه، وهو ما شكّل صفعة قوية عبر أعداد العملاء الموقوفين الذين فاق عددهم ١٥٠ شخصاً، ومن مختلف المناطق والطوائف وفي شتى المجالات والنواحي..
لعل التاريخ في هذا الوقت يعيد الى الذاكرة فصول الحرب التي قام بها العدو الإسرائيلي في شهر تموز من العام ٢٠٠٦، وحاول كما هي العادة استعمال أقوى أنواع الأسلحة من طيران ومدفعية للقتل والتدمير والتشريد، الذي طال أيضاً منطقة الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، في محاولة هذه المرة للقضاء على المقاومة، لكن بعد ٣٣ يوماً من الحرب المدمرة، انكفأ الاحتلال أيضاً كما هي العادة مندحراً يجر أذيال الخيبة والفشل..
فقد توقفت الحرب لأن «إسرائيل» فشلت في أن تحقق أي هدف من أهداف النيل من المقاومة، ولكن بعد أن اتخذ «مجلس الأمن الدولي» قراراً بإرسال تعزيزات لقوات «اليونيفل» التي كانت منتشرة في الجنوب، إثر العدوان الإسرائيلي في آذار من العام ١٩٧٨، ليصل عديدها الى ١٥ ألف جندي من ٣٥ دولة، شاركت لتكون مع قوات الجيش اللبناني قوة فصل بين الحدود اللبنانية وحدود الأرض الفلسطينية المحتلة من قبل «إسرائيل»، وذلك بناءً لقرار «مجلس الأمن» ١٧٠١، الذي حاول فيه المجلس إرساء الهدوء على الحدود، ومنع التعديات الإسرائيلية على لبنان ما بين وقت وآخر..
واليوم، في هذه الذكرى الخامسة التي تصادف مع حلول شهر تموز، ذكرى حلول عدوان أو حرب تموز، ما هي الصورة على أرض الواقع الذي يجري فيه غليان كل الأمور، في كل المواقع داخلياً في لبنان، وعربياً حيث الإنتفاضات تجتاح تقريباً غالبية الدول العربية، أو على الأقل الدول المحيطة بـالكيان الإسرائيلي من جهة، وذات التاثير الفاعل من جهة ثانية، وعالمياً حيث يُشكل لبنان عضواً مؤثراً في «مجلس الأمن الدولي» وتطرح فيه الدول أوراقها على المكشوف إزاء غاياتها ومصالحها وحيثيات نفوذها من جهة، وتأثيرها بمصالح «إسرائيل» واهتماماتها.
ولعل المثير للغرابة والدهشة، هو أن «إسرائيل» التي انسحبت للمرة الأولى في العام ٢٠٠٠ مما كان يُسمى الشريط الحدودي، وبعد حرب تموز في العام ٢٠٠٦ استبقت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانيتين تحت الاحتلال حتى الآن..
ويُمكن القول أن الكثير الكثير من الأمور، إذا لم تكن كل الأمور، طرأت عليها التغييرات والمتغيرات، كما شهد لبنان ويشهد، وكذلك المنطقة التفاعلات على كل المستويات وفي كل الحقول.
تداعيات جريمة اغتيال الرئيس الحريري
فبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في ١٤ شباط ٢٠٠٥، الذي ولّد انقساماً في الرأي بين اللبنانيين فيها بين ما يُسمى جماعة ١٤ آذار و٨ آذار، شهد لبنان انتخابات نيابية أفرزت أكثرية نيابية لصالح قوى ١٤ آذار، ولكن ذلك لم يمنع من تأليف حكومة وحدة وطنية لدرء أخطار الإنقسام على لبنان، بعد تدخل بعض الدول العربية، حيث تم في قطر توقيع اتفاق الدوحة (٢١ أيار ٢٠٠٨) الذي انبثقت بموجبه حكومة الوحدة الوطنية، لكن الظروف والمتغيّرات في المعطيات أرخت بظلالها على هذه الحكومة، فاستقالت ضاربة بعرض الحائط اتفاق ما سمي «س. س» - أي التوافق ما بين السعودية وسوريا بعد الزيارة المشتركة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري الدكتور بشار الأسد الى لبنان، في محاولة لتعزيز أواصر الاتفاق ونزع فتيل التنازع بين اللبنانيين، مما أعاد جو الإفتراق الى أجواء التنازع، وتغيير الموازين النيابية بين ١٤ آذار و٨ آذار، وهو ما اعتبرته قوى ١٤ آذار «إنقلاباً» أدى الى إقالة حكومة الوحدة الوطنية وتأليف حكومة مدعومة من قوى ٨ آذار.
هذه التغيّرات، أفرزت مجموعة من المتغيرات على الساحة اللبنانية، فرفعت قوى ١٤ آذار الصوت مطالبة بوضع سلاح المقاومة بأمرة الدولة وتحت جناحيها، حتى يكون أداة فاعلة في الحركة السياسية اللبنانية ومتغيّراتها، كما حصل ويحصل، وهذا طبعاً ما أبرز على السطح نتوءات للإنقسام السياسي، وجعل من القضية المحورية في لبنان بما يعرف بالموقف من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي انشئت بموجب القرار ١٧٥٧ الصادر عن «مجلس الأمن» (٣٠ أيار ٢٠٠٧) في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعدد من النواب والسياسيين والمثقفين بعد ذلك، أحد أبرز وأخطر الإنقسام في لبنان، فيما ترى قوى ١٤ آذار التأثير المطلق للمحكمة الدولية ترى قوى ٨ آذار اعتبار المحكمة وسيلة أميركية - إسرائيلية لتطال المقاومة في لبنان.
وتواجه الآن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المتحالفة مع «جبهة النضال الوطني» برئاسة النائب وليد جنبلاط ونواب ٨ آذار – أي المعارضة السابقة، حيث نالت الثقة بـ ٦٨ صوتاً نيابياً، تواجه اليوم هجوماً حاداً ومعارضة شديدة من الموالاة السابقة التي باتت معارضة من ٦٠ نائباً، على الموقف من التضامن مع المحكمة الدولية، وتأثير مضاعفات ذلك على لبنان سياسياً واقتصادياً، على اعتبار أن موقف حكومة الرئيس ميقاتي، والنص الرمادي غير الواضح تماماً من الموقف من المحكمة، الذي ورد في البيان الحكومي الذي تقدمت به الى مجلس النواب لتنال الثقة على أساسه. هذا ما وسّع من دائرة الفجوة بين الفريقين السياسيين ووضع الأمور على فوهة بركان يغلي كما الماء في الكوز في هذا الشهر «تموز».
في هذا الوقت، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان القرار الإتهامي حول جريمة اغتيال الرئيس الحريري، الذي صدر بعد عدة مرات من تداول الإعلان عن ذلك، سواء في تسريبات محلية أو حتى عالمية، ليذكر بالتحديد إتهام ٤ كوادر في «حزب الله».
ولم تكن تنقص لبنان «زيادة الطين بلّة» ليزداد الإنقسام حدة من جهة، وبما يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور من جهة أخرى.
تقليص قوات «اليونيفل»
في هذا الوقت، الذي تقفز فيه الأمور على «حد السكين» أعلنت بعض الدول المشاركة في قوات «اليونيفل» على تقليص مشاركتها نتيجة تأزم الأوضاع في لبنان، وبعد الاعتداء الذي تعرّضت له دورية للكتيبة الإيطالية في محلة الرميلة – شمالي صيدا، مما أدى الى جرح ٦ جنود منها (٢٧ أيار ٢٠١١) ذلك أنها إذا لم تكن لتقولها مباشرة، فإن مجرد الإعلان عن خفض عديد مشاركتها يفسر بشكل لا يدعو للشك من تأثرها بالأوضاع في الداخل اللبناني. وليس من الطبيعي والعادي أن تُحاول كل من إيطاليا وألمانيا وأسبانيا خفض مشاركتهم، وخلق بلبلة واضحة المعالم في دور قوات «اليونيفل» في الجنوب اللبناني، بالرغم من اعتبار قوى ٨ آذار لهذه المسائل محاولة ضغط على الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي من محاولات التهرّب من المحكمة الدولية الخاصة في لبنان.
وثالثة الأثافي في هذا السياق «إسرائيل»، التي كانت دائماً وأبداً، وخصوصاً في هذه الأيام التي تستذكر هي أيضاً آثار حرب تموز في العام ٢٠٠٦، وتعلن صراحةً ووقاحةً أنها مستعدة لتدخل بإعتداء جديد يطال واقع الحياة اللبنانية، حيث أنها لم تكن لتتوقف عن إجراء الإستعدادات اللازمة من خلال المناورات العديدة التي أجرتها في الداخل الإسرائيلي، وأخرها في شهر حزيران الماضي مناورات «تحول - ٥» في محاولة – كما أعلنت – أنها «تواجه آلاف الصواريخ على «إسرائيل» من «حزب الله» في لبنان أو غير مناطق من غير بلدان أخرى في المنطقة».
وقد أرخت هذه التهديدات التي لا تتوقف عند حد معين، بظلالها على الوضع اللبناني الواقف أصلاً على شوار الإنقسام الداخلي، ولا يحتاج أي إهتزاز.
هذا الوضع المترجرج على كل المستويات، وفي كل النواحي والمجالات، لم يكن ينقصه إلا «الرقص حنجلة» إزاء الوضع العربي المتفجر، في ظل الإنتفاضات الجارية في العديد من بلدان الوطن العربي، حيث يتأثر لبنان تلقائياً بكل هذه التطورات، وبالذات وبالأخص ما يجري في الجارة القريبة سوريا، حيث العلاقات مترابطة ومتشابكة ومتداخلة، وحيث الحدود الواسعة بين البلدين عرضة لمداخلات كثيرة.
خوف وقلق
وفي هذا الوقت من شهر تموز، الذي يفترض فيه اللبنانيون أن يكون وقت الذروة في موسم الصيف، يتساءل المواطنون على اختلاف ميولهم وارتباطاتهم عن مصير الموسم الذي يتهدد بكل بساطة ولا اجتهاد، بالضياع، خاصة بعدما ألغى ما يفوق ٩٠% من حجوزات المصطافين الى لبنان، وصرف النظر من اللبنانيين في الخارج عن المجيء الى لبنان لزيارة الأهل وقضاء الإجازة، وسط الجو القاتم الذي يعكس حالة الإنقسام القائم في البلاد.
ولعل اللبنانيين يستذكرون ولم يكن ليغيب عن بالهم ما واجهوه في تموز من العام ٢٠٠٦ خلال الاجتياح المشؤوم، الذي قامت به «إسرائيل» بالاعتداء على لبنان، وهي الآن تهدد وتتوعد في أجواء أعلنت عن استعداداتها التامة وجهوزيتها لحرب جديدة، الله سبحانه وتعالى وحده يعلم مدى تأثير ما تحمله من قتل وتشريد وتدمير.
ولهذا، يضع المواطنون بلا استثناء، على مختلف انتماءاتهم، أيديهم على قلوبهم خوفاً وتوجساً مما يُمكن أن تحمله الأيام المقبلة بما تحمل من كل أصناف التوقعات السيئة، وسط هذا الجو القاتم المدلهم بكل ما تحمل الكلمة من معاني داخلياً ومحلياً في المحيط، ولا بل عالمياً حيث المصالح والاهتمامات.
صحيفة "اللواء"