حديث التقريب .... إن الجسوم تخفّ بالأرواح
إن الجسوم تخفّ بالأرواح
حديث التقريب
بعث لنا أحد تلاميذ الإمام السيد علي الخامنئي بالخاطرة التالية ننشرها لما فيها من ارتباط بوحدة الدائرة الحضارية الإيرانية العربية، ولما فيها أيضًا من إضاءة بشأن دور الأدب في التقريب، وهو الذي نتابعه في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية تحت عنوان: «التقريب الأدبي» يقول:
سمعت سيدنا الأستاذ ينشد يومًا بإعجاب كبير وتأثّر بالغ هذين البيتين:
ثَقُلــــــتْ زُجاجـــــاتٌ أتَينَكَ فُرّغًا حتـــــى إذا مُلئــــــــت بطيبِ الــراح
خَفّت وكادَت أن تطيرَ بما حَوَتْ إنّ الجســــــــومَ تَخــــــــــــفّ بـــالأرواح
سألته عن الشاعر فلم يتذكره، لكنّ الذي استوقفني هو تفاعله الشعوري المتوهّج مع الأبيات.. كيف يكون لفقيه وقائد كبير في العقد الثامن من عمره يحمل مسؤوليات كبيرة تنوء بالجبال أن تكون له مثل هذه القدرة على الدخول في التجربة
الشعورية العاطفية للشعر؟!
ثم إنّ جودة البيتين حفّزتني لمعرفة الشاعر، وكان عطاء الحافزين مقالاً أختصره فيما يلي:
* التفاعل مع الشعر الجيّد، ودخول التجربة الشعورية للشاعر يحتاج إلى يقظة في الشعور وإلى عاطفة إنسانية متوهّجة.
* يقظة الشعور وتوهّج العاطفة لا يرتبط بالسنّ فقد تجد شيخًا يتميز بهذه الصفة وقد تجد شابًا متبلّد الإحساس.
* الفقهاء الكبار والقادة الكبار يفوقون غيرهم في هذه اليقظة وفي هذا التوهّج، وهم إما شعراء أو متذوقون للشعر في أسمى درجات التذوّق.
* أصحاب المسؤوليات الكبرى أحوج من غيرهم إلى هذه الحالة الشعورية، لأنها الحالة التي تجعل الكائن البشري إنسانًا يتعامل مع الأمور بإنسانية وبقلب ينبض بالعاطفة. وبدون ذلك يتحوّل الموجود البشري إلى جلمود صخر خال من الرحمة، وإذا تولّى في الأرض سعى ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل.
* إنّ الحركة الثقافية التطويرية المنتجة للحضارة وراءها دائمًا يقظة الشعور. من هنا كان للإحيائيين دائمًا اهتمام بهذا الإيقاظ عن طريق الأدب أو الفنّ. ولما كان الدين الحقّ يستهدف «الإحياء»: ﴿لما يحييكم﴾، لذلك كانت النصوص الدينية في ذروة النصوص الأدبيّة. من هنا لا يمكن لمن يتعامل مع هذه النصوص وعلى رأسهم الفقهاء إلاّ أن يكونوا على درجة عالية من الذوق الأدبي.
* * *
بعد هذا وصل بحثي عن قائل البيتين إلى أنه الأديب الأندلسي أبو علي إدريس بن اليماني.
* ولد في جزيرة يابسة أصغر الجزر الشرقية (شرق الأندلس)، وتوفي سنة 470 هجرية.
* مدح آل حمّود وهم الذين أسسوا دولة موالية لآل البيت في الأندلس.
* هو شاعر جليل ومكثر ومطيل نجد في شعره الوجداني عذوبة، وفي مدائحه تقليدًا للمشارقة.
* لم يكن بعد ابن درّاج الأندلسي من يجري مجراه في متانة التركيب وعلوّ النفس.
* له في «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسّام الشنتريني ترجمة وافية، نقل فيها بعض أشعاره، ومنها هذان البيتان، وقصائد ومقطعات نذكر منها وصفه الرائع لحمامة:
وُرقًا مطوّقةُ السوالفِ سُندسًا
تشدو على خُضرِ الغصون بألسنٍ
وكأن أرجلها القواني أُلبست
وكـــــــــــــــــــأنها كُحِلت بنـــــــارِ جوانـــــــــــــــــــــــــــحـي
لم يحكِ صنعتَها حياكةُ حاكِ
صَبَغت ملاثمها بلا مسواك
نعلاً من المرجان دون شراكِ
فتـــــــــرى لأعينــــــــــــــــــــــها لـــــــــــــــــــــــهيبَ حشــــاكِ
* يروى أن المعتضد بن عباد صاحب اشبيلية 434 - 461 (وربّما كان أصله إيرانيًا) سأل شاعرنا أن يمدحه بقصيدة يعارض القصيدة السينية التي مدح بها ابن حمود فقال له: «أشعاري مشهورة وبنات صدري كريمة، فمن أرادَ أن ينكِحَ بـِكْرَها فقد عَرَف مَهرَها».
* * *
وبعد فإنّ في البيتين من لطافة المعنى وخفّة الموسيقى ما يُشعر بأنّ الإنسان يطير ويحلّق حين يردّدهما. وفيهما إشارة إلى ثقل الإنسان وانشداده بالأرض وبالمال والمتاع حين يكون خاليًا من الروح.. أي حين يتحول إلى «طين» خالٍ من «نفخة روح ربّ العالمين». لكنه يحلّق ويطير ويسمو ويتكامل حين يتحرر مما يقيّد حركته وانطلاقه من الإصر والأغلال وفضول العيش.
والراح في البيت هي الخمر، وهي في مثل هذا النوع من الشعر رمز لحالة النشوة التي يخرج فيها الإنسان من ذاتيته وأنانيته. لأن الأنانية هي الصنم الأكبر الذي يعيق الإنسان عن الحركة نحو الكامل المطلق سبحانه، وهي العائق الأكبر اليوم أمام وحدة الأمة الإسلامية وأمام التقريب بين المذاهب والقوميات في العالم الإسلامي.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
/110