QR codeQR code

الأمن القومي الإيراني يبدأ عند باب المندب

طهران: الأمر لي

تنا ـ بيروت

10 Jan 2012 ساعة 7:46

حسمت إيران خيارها بالمواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، بدءاً بمنطقة الخليج الفارسي، حيث مدت البحرية الإيرانية ذراعها إلى باب المندب، وحيث بات خروج القوات الأميركية يحتل موقع القمة في جدول الأعمال الإيراني. على الأقل هذا ما دلّت عليه تصريحات القيادات العسكرية الإيرانية وما أظهرته المناورات التي اختتمت بها طهران العام ٢٠١١ وتلك التي من المقرر أن تدشن بها العام ٢٠١٢


تبدو إيران هذه الأيام كمن يستعجل فرض معادلات جديدة في المنطقة، وفي صراعها مع الغرب، لعل الأكثر أهمية ووضوحاً فيها ما يجري في الخليج، حيث تسعى الجمهورية الإسلامية إلى إخراج القوات الأميركية من مياهه ودوله، مستغلة في ذلك لحظة ضعف أميركية استثنائية تعمل على تثميرها جيوسياسياً، مدعومة بلحظة تفوّق لمحور الممانعة إنما هي تتويج لأكثر من ثلاثة عقود من التخطيط ومراكمة القوة وتحقيق انتصارات بالنقاط حان وقت صرفها بتعديل نوعي في التوازنات الاستراتيجية.

حراك إيراني يبرر للبعض وصفه بأنه مغامرة كبرى، وللبعض الآخر التقدير بأنه ربما يستدرج حرباً عالمية، خاصة وقد بدا جلياً أن طهران لا تناور في هذا الأمر، بدليل الرسالة التي حمّلتها لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو الخميس والتي أرفقتها في اليوم التالي بالإعلان عن مناورة كبرى جديدة تمتد من هرمز إلى باب المندب وبحر عمان في شباط المقبل، مرفقاً بالإعلان عن بدء مناورة برية تحت اسم «مناورات شهداء الوحدة» قرب منطقة خواف على بعد ٦٠ كيلومتراً من أفغانستان «تهدف إلى ضمان أمن الحدود الإيرانية». 

ومن يتابع الشأن الإيراني يدرك أن المعنيين في طهران يقرأون في الحراك الأميركي المستمر منذ أشهر، مستوى من الأداء يعكس حالاً من الضعف يرجح أن الإمبراطورية الأولى في العالم لم تشهد مثيلاً له في تاريخها. إرهاصات هذا الضعف بدأت تظهر منذ أواخر عهد الرئيس الأميركي جورج بوش، في أعقاب هزيمتي تموز ٢٠٠٦ وغزة ٢٠٠٨، ونجاح طهران في تكريس هيمنتها على العراق في ٢٠٠٩، والاعتراف الضمني بالهزيمة في أفغانستان في ٢٠١٠، وانكسار الحريرية في لبنان في ٢٠١١، وحرص واشنطن على تجنب أي مغامرة عسكرية في سوريا، فضلاً عن الاستماتة الأميركية منذ أشهر طويلة للدخول في مفاوضات ثنائية مع الجمهورية الإسلامية تنجم عنها رزمة من التفاهمات حول المنطقة. ذلك كله، معطوفاً على أزمة اقتصادية تبدو بنيوية تجتاح أميركا والغرب عموماً، وجيش أميركي استُهلك في حربي العراق وأفغانستان وبات بحاجة إلى سنوات من إعادة البناء التي تعرقلها معضلتا السيولة والمديونية، مع نزعة تملكت في الإدارة ذات طابع انكفائي عنوانها «بناء الأمة» على قاعدة «أميركا أولاً». 

لكن تطورات الأسابيع الأخيرة كانت حاسمة في تأكيد التقديرات الإيرانية ولعل أبرزها ثلاثة:
١ ــ الانسحاب الأميركي من العراق بالشكل الذي جرى فيه، من دون حتى محاولة كسر إصرار رئيس الوزراء نوري المالكي على رفض التمديد لأي قوات وحصر عدد الخبراء ببضع عشرات، ورفض إعطاء أي حصانة لأي منهم.
٢- طريقة التعامل الأميركي مع طائرة الشبح التجسسية التي أسرتها إيران، والمعروف أنها الأحدث والأكثر تطوراً في الترسانة الأميركية. فقد بات معروفاً أن مركز القيادة العسكرية الأميركية في أفغانستان طلب إذن البيت الأبيض لتنفيذ مهمة هدفها تدمير الطائرة وهي بحوزة الإيرانيين، فكان الجواب بالرفض على قاعدة أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عسكري إيراني يمكن أن يتدحرج نحو حرب.
٣ ــ ضعف رد الفعل الأميركي في خلال احتكاكات عسكرية حصلت بين الجانبين في الخليج، وبينها إسقاط طائرات تجسس أميركية وإرسال طائرات تجسس إيرانية لتصوير الأساطيل الأميركية، ومعها ما قيل في الإعلام الإسرائيلي نقلاً عن مصادر أوروبية عن نجاح طهران في تعطيل قمر اصطناعي أميركي.

مناورات الولاية ٩٠ البحرية

ولعل الحدث الاكثر أهمية في هذا الإطار تلك المناورات البحرية التي أجرتها إيران في الأيام الأخيرة من العام الماضي. صحيح أن ربطها بالحظر النفطي الذي يعمل الغرب على فرضه على إيران كان العنوان الذي روّجت له طهران، خاصة مع إعلان نائب الرئيس، محمد رضا رحيمي، في الأيام الأولى للمناورات، عن أن «ولا قطرة نفط» ستمر عبر مضيق هرمز إذا فرضت المزيد من العقوبات الغربية على إيران بسبب برنامجها النووي.
إلا أن المناطق التي شملتها المناورات (من ٢٤ كانون الأول ٢٠١١ إلى ٢ كانون الثاني ٢٠١٢)، وما جرى خلالها من تجارب وأحداث والتصريحات التي رافقتها إنما تشير إلى خلفية ونتائج أبعد بكثير من مخزون نفطي لن يصعب تصريفه في السوق الآسيوية المتعطشة لهذه المادة الحيوية، من دون تجاهل حقيقة أن حظراً كهذا لا شك في أنه سيؤذي إيران.

من هرمز إلى باب المندب

فقد جاءت المناورات، في المقام الأول تكريساً لإعلان طهران، على لسان المرشد علي خامنئي، الخروج إلى المحيطات، بل «إننا مستعدون وقادرون على الذهاب بأي مهمة إلى المحيط الأطلسي» على ما أفاد قائد البحرية الإيرانية حبيب الله سياري. صحيح أن الإعلام، ومعه تصريحات قادة القوات المسلحة الإيرانية قد ركز على مضيق هرمز الخاضع لسيطرة الحرس الثوري، إلا أن اللافت كان امتداد المناورات حيث غطت قوات الجيش النظامي الإيراني المنطقة الممتدة من المضيق على طول شواطئ شبه الجزيرة العربية إلى خليج عدن وباب المندب وشمال المحيط الهندي.

ولا يحتاج المرء إلى أكثر من نظرة على الخريطة ليتبين أن منطقة المناورات شملت المعبرين الأكثر حيويّة في العالم: الأول مضيق هرمز حيث يمر نحو ٤٠ في المئة من النفط العالمي، وباب المندب، وهو المدخل الثاني للبحر الأحمر في مقابل قناة السويس. وبالتالي، فإن الرسالة الأولى لهذه المناورات أن إيران قادرة على إغلاق أهم شريانين بحريين في العالم وبالتالي وقف عجلة الاقتصاد الدولي وشل حركة التجارة بين الشرق والغرب، فضلاً عما يحمله انتشار البحرية الإيرانية على سواحل السعودية واليمن من رسائل إلى كل من الرياض وصنعاء. المعنى الآخر لذلك أن الأمن القومي الإيراني أصبح يبدأ من عند باب المندب وليس عند المياه الإقليمية الإيرانية.

جزء من جغرافيتنا الدفاعية

هذا جزء مما تستبطنه المناورات. لكن كان واضحاً أن إيران أرادت التركيز في رسالتها العلنية على مضيق هرمز الذي تصفه «إدارة معلومات الطاقة الأميركية» بأنه الأهم عالمياً، لكون نحو ١٤ ناقلة نفط خام تمر يومياً عبره محملة بنحو ١٧ مليون برميل. «لقد أصبح مضيق هرمز مضيقاً إيرانياً، جزءاً من جغرافيتنا الدفاعية». الكلام لقائد الجيش الإيراني عطا الله صالحي. 

وتنطلق المقاربة الإيرانية لهذا المضيق من خلفية قانونية ترى إلى الخليج، المتنازع على تسميته بين العرب والفرس، يُعدّ بحيرة مغلقة، مثله مثل بحر الخزر، وبالتالي فإن حفظ أمنه مهمة الدول المتشاطئة عليه. وتستند إيران في مقاربتها هذه إلى تقرير صدر في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عن لجنة تابعة للأمم المتحدة عُرفت باسم لجنة أولف بالمة، نسبة إلى رئيس الوزراء الأسبق للسويد. تقرير خلص إلى نتيجة، بعد دراسة معمقة لطبيعة الخليج، أنه بحيرة مغلقة. بناءً عليه، ترى إيران أن من حقها، بحسب القانون الدولي، طرد السفن الحربية الأميركية التي تجوب الخليج.

خليج بلا أميركيين

هذا في القانون، لكن بحساب موازين القوى ونتائج الصراع، ترى طهران أن «الجلاء الأميركي عن العراق يجب أن يكون مقدمة للجلاء الأميركي عن منطقة الخليج»، على ما تفيد مصادر إيرانية معنية لمّحت إلى أنه «يجب عدم استغراب أن تطلب طهران في مرحلة قريبة خروج الأسطول الأميركي الخامس من البحرين». 

ولعل التصريح الإيراني الأكثر أهمية ودلالة في هذا الإطار ما جاء على لسان نائب القائد العام لحرس الثورة العميد حسين سلامي: «إن قدرات أميركا الجيوسياسية والسياسية تنهار تدريجياً... مواجهة ايران مع الأعداء تغيّرت من المستوى الاستراتيجي الى المستوى العملاني، حيث يتغيّر نظام التوازن العالمي لصالح الثورة الاسلامية ونواجه تغييراً أساسياً في الجغرافية السياسية في العالم». 

يعني ذلك بحسب مصادر وثيقة الاطلاع أن «المعركة مع الاستكبار (اقرأ الولايات المتحدة) كانت تُخاض بصورة غير مباشرة. صحيح أن إيران من كان يديرها، لكنها لم تكن في الواجهة. هذا ما جرى على سبيل المثال في لبنان وفلسطين والعراق والبحرين واليمن وحتى في سوريا. أما اليوم، فقد قررت إيران أن تتصدر المشهد وأن تكون المعركة مباشرة بدءاً بالخليج». 

مصادر إيرانية معنية كشفت عن أن «إيران نقلت رسالة عملانية بالغة الأهمية أكدت في خلالها ليس فقط قدرتها على إغلاق مضيق هرمز بل استعداد الآخرين للانصياع لقرار إيراني بهذا الشأن»، موضحة أنه «في آخر يوم من العام الماضي، أبلغت إيران المعنيين أنها ستجري تجربة صاروخية في إطار مناوراتها المعلنة، في منطقة معينة تشمل مضيق هرمز، وأن على حركة الملاحة أن تتوقف في هذا المضيق لساعات، بين الساعة كذا إلى الساعة كذا. عند حلول الموعد المحدد إيرانياً، توقفت الملاحة في المضيق بشكل مطلق. انتظر الإيرانيون، من دون أن يجروا أي تجربة، إلى حين انتهاء المدة التي حددوها، قبل إبلاغ المعنيين أنهم قرروا إرجاء التجربة وأنه باستطاعة السفن الإبحار في المضيق مجدداً».

قيادة وتحكّم

من هنا تصبح المناورات بحد ذاتها والأسلحة الجديدة التي تمت تجربتها فيها العنصر الأقل أهمية وإثارة رغم خطورتها على المستوى العسكري. ولعل أهم إنجازين حققتهما القوات المسلحة الإيرانية في هذا الإطار كانا حصانة القيادة والتحكم من الاختراق، وصواريخ جديدة عصية على السيطرة. في الملف الأول، يعرف الإيرانيون بوجود مجموعة من سفن الإشارة الأميركية المنتشرة في الخليج ومهمتها التقاط بث سفن العدو وبوارجه والعمل على فك الشيفرة التي يعمل من خلالها وبث موجات كهرومغناطيسية للتشويش على اتصالاته. 

في هذه المناورات، نجح الإيرانيون في الحؤول دون أي تشويش من هذا النوع، وقد تثبتوا من أن السفن الأميركية المذكورة فشلت في فك شيفراتهم العسكرية والالكترونية. أما بالنسبة إلى الصواريخ التي جُربت، فلم يكن طول المدى ولا دقة الاصابة ولا حجم التدمير العناصر المهمة في تلك المناورات، وإنما التثبت من مناعتها ضد أي تشويش أميركي أو محاولة أميركية للتحكم بها وتغيير مسارها، على غرار ما فعله الإيرانيون بطائرة التجسس الأميركية. 

ولعل أهم أنواع الصواريخ التي جربت في هذه المناورات صاروخ أرض-بحر من نوع «قادر» ومداه ٢٠٠ كيلومتر، وهو حديث جداً ومجهز برادار مدمج فائق الدقة تم تحسين مداه وجهازه الذكي الذي يمنع رصده مقارنة بالأجيال السابقة. وهناك أيضاً صاروخ «نصر» المضاد للسفن والذي يبلغ مداه ٣٥ كيلومتراً، وصاروخ أرض-أرض أطلق عليه اسم «نور» بمدى يبلغ ٢٠٠ كيلومتر أيضاً، وهو مشتق من صاروخ سي-٢٠٨ الصيني الذي يراوح مداه بين ١٢٠ و١٨٠ كيلومتراً. 

ويؤكد قائد البحرية في الحرس الثوري الاميرال علي فدوي، الذي أوضح أن المناورات التي تجري الشهر المقبل ستركز مباشرة على مضيق هرمز، أن «الجمهورية الاسلامية الايرانية تسيطر اليوم بنحو كامل على المنطقة وتتحكم في كل الحركة فيها».

حدود القوة

الانسحاب الأميركي من العراق بهذه الطريقة كان حاسماً في قرار إيران تصعيد المواجهة مع أميركا والانتقال بها من المستوى الاستراتيجي إلى المستوى العملياتي. كان بمثابة اعتراف أميركي لا لبس فيه باستنفاد أوراق القوة. والدليل على ذلك عقلي وليس حسياً. ذلك أنه لو كانت الولايات المتحدة لا تزال تمتلك أياً من أوراق القوة لكانت استخدمتها، لكونها تعلم علم اليقين التداعيات السلبية الاستراتيجية عليها وعلى حلفائها في المنطقة من انسحاب كهذا.

ومع ذلك تبقى هناك نقطة معينة من التنازلات أو الخطوط الحمراء التي لا يمكن للولايات المتحدة السماح بتجاوزها، بغض النظر عن حجم الضغوط وحال الضعف، ولو كلفها ذلك حرباً انتحارية. نقطة كهذه تُعرف اصطلاحاً بحدود القوة التي أظهرت إيران على مدى العقود الثلاثة الماضية أنها تقيسها بميزان من ذهب. نتيجة اختبار إن كان هذا الميزان لا يزال صالحاً يبقى رهن الاسابيع والأشهر المقبلة. 

المصدر : "الأخبار" - إيلي شلهوب (بتصرف)


رقم: 78500

رابط العنوان :
https://www.taghribnews.com/ar/article/78500/طهران-الأمر-لي

وكالة أنباء التقريب (TNA)
  https://www.taghribnews.com