مراجعات فقهية وسياسية لمواكبة المتغيرات ٥
الأسس الفكرية والنظرية للسلفية:
حاكمية الله والعودة للماضي وتكفير الآخر
تنا ـ بيروت
28 Feb 2012 ساعة 14:56
مراجعات فقهية وسياسية لمواكبة المتغيرات ٥
بدأت «السفير» اعتبارا من الحادي والعشرين من الجاري نشر سلسلة تحقيقات حول تنظيم «القاعدة»، وما أثير مؤخرا بشأنه لبنانيا، كان أولها حول سيرة التنظيم العالمي، والبقية تناولت أرشيف هذا التنظيم في القضاء والأمن في لبنان، وعرض تجارب تنظيمات اسلامية مثل «مجموعة الـ١٣» و«فتح الاسلام».
اعتباراً من هذه الحلقة (الخامسة)، تبدأ «السفير» تسليط الضوء على ملف الحركات السلفية في لبنان، وتتضمن التحقيقات المقبلة، عرضاً لواقع مجموعات ومظاهر سلفية في البقاع والشمال والجنوب وبعض المخيمات الفلسطينية.
السلفية لغة: نسبة الى السلف، وعند ابن منظور في لسان العرب: مادة سلف، السالف: المتقدم، والسلفية الجماعة المتقدمون. والسلف عند الرازي في مختار الصحاح: الماضي والمتقدم.
وأما على الصعيد الاسلامي، فقد برزت عدة تفاسير لمصطلح «السلفية» و«السلفيين». وإن كان التفسير الاكثر انتشارا هو ما اصطلح على تعريف السلفية، «بأنه الاتجاه الذي يدعو الى الاقتداء بالسلف الصالح واتخاذهم قدوة ونموذجاً في الحاضر» حسب تعريف الدكتور انور ابو طه.
اما الشيخ زهير الشاويش، فيعرّف السلفية قائلاً: «السلفية طريق في المعتقد والفقه، مفادهما: الرجوع الى ما كان عليه الجيل الأول – السلف الصالح - من العقيدة والعبادة والاخلاق والسلوك».
ويتفق معظم الباحثين على ان بدايات السلفية تعود الى الامام أحمد بن محمد بن حنبل (توفي سنة ٢٤١هـ)، ثم اعاد تجديد السلفية شيخ الاسلام احمد بن تيمية (توفي ١٣٢٨م)، وقد ألّف كتاباً صار مرجعاً لكل السلفيين، «هدفه تنقية الرسالة المحمدية من كل شائبة»ـ حسب توصيفه ـ وحمل عنوان «السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعيّة».
واما في العصور الحديثة، فكان أبرز أئمة السلفية الامام محمد عبد الوهاب (١٧٠٢-١٧٩٢م)، وهو مؤسس التيار الوهابي السلفي الذي انطلق من عمق الجزيرة العربية في مسقط رأسه نجد، والذي تعاون مع آل سعود ما أدى الى نشوء المملكة العربية السعودية.
والى جانب هؤلاء المؤسسين، برز العديد من العلماء والفقهاء الذين تبنّوا السلفية منهجاً عقائدياً وفقهياً، وساهموا في نشر أفكارها ومعتقداتها في معظم بقاع الأرض.
ويمكن تلخيص أهم المبادئ والاسس التي تستند اليها المدارس السلفية بحسب ما اوردها انور ابو طه في بحثه عن السلفية بما يلي:
١- التنزيه في التوحيد ونفي التشبيه وتأكيد كافة اشكال التوحيد من الربوبية والالوهية والاسماء والصفات.
٢- رد الخلق والافعال الى تقدير الله وعمله ومشيئته وقضائه وقدره، والقول بالاصطفاء للجنة والنار فضلاً وعدا.
٣- اثبات حصول الامور بشكل عيني وتجسدي كالاسراء والمعراج، الحوض، الشفاعة، الميثاق، القدر، اللوح، القلم، العرش، الكرسي، عذاب القبر والصراط والميزان واشراط الساعة.
٤- اثبات الايمان والاسلام لاصل القبلة، فلا يكفّر احد منهم بذنب ما لم يستحله.
٥- تقديم الشرع على العقل، والتسليم بنصوص الكتاب والسنة وتفسيرها بلا تأويل او هوى، ورفض التأويل الكلامي وذم علم الكلام.
٦- البراءة من اصحاب الاهواء والمذاهب المخالفة مثل: المشبّهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم ممن «خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة، اذ هم ضلال اردياء».
٧- في مسائل الطاعة والخروج على السلطان والجماعة، يقولون: لا نرى الخروج على ائمتنا وولاة امورنا وان جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعة، ونرى طاعة الله عزّ وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، فنتبع السنة والجماعة ونتجنب الشذوذ والخلاف والفرقة.
٨- حسب السلف، الايمان بعدالة جميع اصحاب الرسول وعدم التبرؤ من احد منهم والخلافة للخلفاء الأربعة على الترتيب.
وقد عمد دعاة السلفية الى مواجهة العديد من الظواهر الاسلامية ووصفها بأنها «بدع» و«خارجة عن الدين الاسلامي»، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، من خلال ما أورده الدكتور الشيخ عبد الله الحلاق في بحث له عن السلفية، الآتي:
١- مسألة التوسل بالنبي محمد: يرى السلفيون أنه يجوز التوسل بالنبي في حياته ولا يجوز ذلك بعد مماته. ويرى من يخالفون السلفية ان التوسل بالنبي جائز في حياته وبعد مماته.
٢- مسألة السنة الحسنة والبدعة:
يرى السلفيون ان البدعة هي «الحدث في الدين بعد الاكمال، او ما استحدث بعد النبي من الاهواء والاعمال، او ما حدث على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله».
لكن علماء المسلمين يقسمون البدع الى قسمين: بدعة حسنة وبدعة سيئة.
٣- مسألة تكفير الاشاعرة:
يطلق بعض السلفيين الكفر على الاشاعرة بالجملة التي يسمونها الفرقة الضالة التي سوّل لهم شياطينهم انهم اهل سنة وجماعة حتى يوقع المساكين في شباكهم، مع ان بعض علماء السلفية يرفضون تكفير الاشاعرة.
٤- مسألة تكفير الصوفيين:
يهاجم بعض الدعاة السلفيين الصوفية ويكفرون اتباعها ويصفونها بصفات سلبية ومنها:
أ- ان الصوفية قائمة على القبور وفي القبور وحول القبر.
ب- ان كل من اخذ حقا من حقوق الله وجعله على نفسه فهو طاغوت، ويشمل المشرعين والحكام وشيوخ الطرق والكهان والعرافين، وكل من تابعهم على ذلك فهو عابد للطواغيت.
ت- اما شيوخ الصوفية، فقد هبوا للدفاع عن معتقداتهم ومكاسبهم التي كانت تدر عليهم النذور وغيرها من الاشارات التي يرفضونها على العوام.
٥- مسألة تكفير الشيعة الامامية:
وقد برز ذلك في العديد من الكتب والاقوال المنسوبة لعلماء السلفية، وان كان بعض علماء السلفية المتأخرين قد نفوا تكفير الشيعة.
وقد جرى تقسيم المدارس السلفية الى عدة مدارس، كما برز العديد من التيارات السلفية الجديدة، ومن مدارس السلفية: السلفية التاريخية – السلفية المدرسية- السلفية النهضوية - السلفية الوطنية - السلفية الحركية - السلفية الجهادية - السلفية التحريرية - السلفية العلمية - السلفية المحدثة - السلفية المدخلية - السلفية السرورية.
وفي حين ان التيارات السلفية المدرسية والعلمية والتاريخية تركز على الجوانب العقائدية والفقهية والعلمية، فإن التيار السلفي الجهادي كان الابرز خلال العقود الاخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، وقد اسس لهذا التيار بعض القيادات الاسلامية ومنهم: ابو الاعلى المودودي في باكستان في كتابه الشهير «حاكمية الله»، وفي مصر سيد قطب في كتابه الشهير «معالم في الطريق»، ليستكمل بعد ذلك من خلال العديد من قادة السلفية الجهادية في مصر وافغانستان والمملكة العربية السعودية والجزائر الذين ثبتوا الدعوة للجهاد ومواجهة الحكام ومواجهة الحكام الجائرين، وان كان بعض هؤلاء قد عمد لاحقاً لاجراء مراجعات فكرية وفقهية لما طرحه.
وابرز ما تطرحه السلفية الجهادية من افكار كما لخصها الدكتور انور ابو طه، هي الأتية:
١- الحاكمية الالهية: اي ان الحكم لله عز وجل وعلى المسلمين الالتزام بحكم ما انزل الله والجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والبراءة من المشركين.
وهذا المفهوم يركز على مفهوم التوحيد (توحيد الربوبية الالهية وتوحيد الاسماء والصفات).
٢- جاهلية المجتمعات: وهو توصيف للواقع الاجتماعي والسياسي المعاش، فعصرنا هو عصر الجاهلية والمجتمع الحالي قائم على الجاهلية، ولذا يجب الابتعاد عنه ومواجهته تمهيدًا لاقامة المجتمع الاسلامي، وعلى هذا الاساس يتم ايضاً تقسيم العالم الى دار الاسلام ودار الكفر.
٣- الجهاد المسلح وسيلة تغيير: لقد اعتمدت السلفية الجهادية خيار الجهاد المسلح وسيلة من اجل مواجهة الحاكم الكافر او المجتمع الجاهل، وبعكس المنهج الاصلاحي للاخوان المسلمين اعتبرت الحركات السلفية الجهادية ان عملية التغيير لا تتم الا بالعمل المسلح والقتال، سواء ضد الحكام او ضد القوى المحتلة، وهذا ما برز في العديد من الحركات السلفية الجهادية في مصر والجزائر وليبيا وافغانستان والجزيرة العربية ولبنان والعراق.
٤- الفرقة الناجية: ترتكز العديد من الحركات السلفية على منطق «الفرقة الناجية» والتي تستند الى الحديث الشريف: «فقد روى الترمذي عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتِيَنّ عَلَى أُمّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النّعْلِ بِالنّعْلِ حَتّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِي أُمّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرّقَتْ عَلَى اثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلّةً كُلّهُمْ فِي النّارِ إِلاّ مِلّةً وَاحِدَةً، قَالَ ومَنْ هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
وعلى ضوء هذا الحديث، تعتبر كل فرقة او كل مجموعة انها هي الصحيحة وغيرها ليس صحيحا، بغض النظر عن صحة الحديث ونسبه وكيفية تفسيره.
من خلال هذا الاستعراض، يمكن القول ان التيارات السلفية بمختلف اتجاهاتها تقوم على عدة اسس تضعها غالباً في مواجهة الآخرين (الا اذا حصلت مراجعات او اعادة نظر في النصوص او على صعيد الأداء الميداني كما بدأنا نشهد مؤخرًا).
ومن هذه الاسس:
١- العودة الى الماضي او التاريخ واعتباره الاساس في الحكم على المسائل.
٢- الاولوية للنص على العقل ورفض التأويل.
٣- تكفير الآخر او مواجهته فكرياً وعملياً وجهادياً.
٤- احتكار الحقيقة، وعدم الاستعداد للحوار مع الآخرين لاعتبارهم «كفّار او مشركين».
٥- وصف كل مظهر حديث بالبدع كونه لم يكن مستعملاً في عهد الرسول والصحابة.
٦- صفاء العقيدة والدفاع عن التوحيد، ووصف اي مظهر من مظاهر الارتباط بالأئمة والاولياء والصالحين وزيارة القبور بالشرك.
٧- عدم القبول بأية حاكمية الا حاكمية الله عز وجل، وعلى ضوء ذلك رفض المشاركة في الانتخابات وعدم القبول بالديموقراطية والتأكيد على العودة لشرع الله (طبعا حصلت تغييرات لدى بعض الجماعات السلفية مؤخرا من خلال قبولها بالانتخابات، وان كان علماء السلفية يؤكدون على ضرورة الالتزام بالشرع من قبل النواب المنتخبين من المؤمنين).
لا بد من القول ان بعض التيارات السلفية بدأت تشهد مراجعات فكرية وفقهية وعملية، واعادة الاعتبار لفقه الاولويات او الاعترف بضرورة مواكبة المتغيرات، مما دفع بعض التيارات السلفية للمشاركة في الانتخابات او الاستعداد للحوار مع التيارات الاخرى، سواء كانت تنتمي لمذاهب اهل السنة او الشيعة، مما يعني انقلاب السلفيين على مبادئهم وافكارهم الاساسية. كما ان بعض المشايخ السلفيين والوهابيين عمدوا لاصدار فتاوى تسمح للحكام بتجاوز بعض الفتاوى والاحكام الفقهية كالاستعانة بالجيوش الاجنبية.
ونحن نشهد يوما بعد يوم مراجعات وتغييرات فكرية وفقهية وسياسية لدى الجماعات السلفية، ولعل مشاركة بعض الجماعات السلفية في الحكم والانتخابات البرلمانية ستساهم في تغيير افكارهم وارائهم، وهذا ما برز مؤخرا في لبنان ومصر وليبيا ودول الخليج.
قاسم قصير-جريدة السفير ٢٧-٢-٢٠١٢
رقم: 85236