يسترجع الجنوبيون بصورة خاصة واللبنانيون عامة، يوم الثامن عشر من نيسان للعام ١٩٩٦، ذكرى مجزرة قانا، بكل الألم الذي يعتصر القلوب حزناً على الضحايا البريئة من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين ذهبوا ضحيّة العدوان الإسرائيلي الغاشم في ذلك اليوم الأسود، وخلف المئات من الضحايا في القصف الإسرائيلي المتعمّد..
وتُذكر في هذه المناسبة، ذكرى لافتة في تاريخ الأمم المتحدة التي عصفت آنذاك لأول مرّة بالتجديد للأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي، لأن تقرير التحقيق حول المجزرة لم يكن منحازاً للجانب الإسرائيلي، وذكر الوقائع كما هي للعدوان الإسرائيلي المتعمّد..
في ذلك اليوم المشؤوم، وفي اليوم الثامن للعدوان الإسرائيلي، الذي أسمته «عناقيد الغضب»، تعمدت قصفاً مدمّراً وعشوائياً ومدروساً لكلّ مناطق الجنوب اللبناني، وإنه تحت تأثير الأرض المحروقة للأسلوب الإسرائيلي العسكري، لجأ المئات من النساء والأطفال والشيوخ إلى المكان الذي تتواجد فيه قوات الأمم المتحدة «اليونيفل»، ظنّاً منهم إنه ملاذ آمن يحيدهم عن استهدافات آلة القتل الإسرائيلية، بحكم تواجد الأمم المتحدة، لكن الاحتلال الذي لم يكن ليراعى أي حرمة للقوانين الدولية، ولا لأي وقائع إنسانية، استهدف في أول إجرام من نوعه في تاريخ الحروب، هذا الموقع وحوّل مَنْ فيه، وكل ما فيه إلى أشلاء وضحايا، يندى لها جبين الإنسانية على مرّ التاريخ..
في هذا اليوم الأسود، الذي تدمع فيه العيون حزناً على هول الجريمة النكراء من جهة، وعلى الأهل والأقارب من جهة ثانية، يذكر أنه شهد الكثير الكثير من المعطيات المحلية على الساحة اللبنانية والعربية والدولية، حيث فتح هذا العدوان الباب واسعاً على ما حدث فيه، وما أعقبه من تداعيات طالت كل الوقائع التي تمحورت حول القضية بكلّ أبعادها..
في هذا السياق، يتذكّر اللبنانيون بكل الفخر والاعتزاز الذي واجهت فيه قوات المقاومة في لبنان، إجرام العدوان الإسرائيلي، بكل بسالة، وحالت بينه وبين تحقيق أهدافه، بالرغم من محاولته تحويل أرض الجنوب إلى أرض محروقة، ليس فيها من قيامة للبشر والحجر، ظنّاً منها واعتقاداً أن هذا العدوان، هو وسيلة لردع لبنان عن الدفاع عن أرضه وشعبه، وإخضاعه لمزايا الخنوع والاستسلام..
لكن، كما كان اللبنانيون على الأرض وجهاً مقاوماً يرفض كل أنواع العدوان ومضاعفاته من كل جوانبه الإنسانية والعسكرية والاقتصادية، فقد صمد في إطار المقاومة السياسية في الأروقة اللبنانية من جهة، والأروقة العربية والدولية من جهة أخرى، حيث قام رئيس الوزراء اللبناني آنذاك (الشهيد) رفيق الحريري، بجولات مكوكيّة بين عواصم العالم قاطبة، ومنها بالذات عواصم القرار، حيث تمّ التوصل إلى «اتفاق نيسان»، الذي بموجبه تمّ وقف النار وآلة الحرب والعدوان الإسرائيلي على لبنان.
يوم المجزرة
الساعة الثانية والدقيقة العاشرة من ظهر يوم الخميس ١٨ نيسان ١٩٩٦ ضربت المدفعية الإسرائيلية الثقيلة حممها على المركز الفيجي لقوات الطوارئ الدولية الذي كان يضم في الأصل حوالى مائة عسكري فيجي، وبات يأوي أكثر من ٥ آلاف نازح من أطفال قانا ونسائها وشيوخها، ومن أهالي الجوار تجمعوا في هنغارين للقوات الدولية.
وتقول روايات التحقيق العسكري، الذي أجراه الموفد الخاص للأمم المتحدة: «جرت في تلك اللحظات ما بين قيادة المركز والقيادة الإسرائيلية اتصالات لوقف القصف على المدنيين العزل، لكن القصف تواصل مستهدفاً «الهنغارين» بالذات، مّا أدّى إلى استشهاد ١٠٢ من المواطنين وسقوط ١٤٠ جريحاً».
مشهد الدم في تلك اللحظات حوّل المكان إلى بحيرة دم. المشهد كلّه صار بحيرة دم وأشلاء مبعثرة. الجنود الدوليون غطوا الجثث بالحرامات، التي كان الضحايا حملوها معهم خلال هروبهم من منازلهم، وإلى جانبهم بعض بقايا مأكولات وأرغفة خبز غطاها اللون الأحمر.
وتحوّلت قانا إلى عنوان للمقاومة ومواجهة الدم والعدوان. فقد أعلن الأمين العام لـ «جامعة الدول العربية» عصمت عبد المجيد على أثر اجتماع «إن الجامعة قرّرت اعتبار ١٨ نيسان من كل سنة «يوم حداد عربي»، تعبيراً عن الغضب العربي من المذبحة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قانا».
وقد غصت قانا بوفود لبنانية وعربية وتحولت إلى محطة لإحياء الذكرى تحت شعار: «في مثل هذا المساء كانوا أحياء»، الذي أطلقته رئيسة «لجنة التربية والثقافة النيابية» النائب بهيّة الحريري، التي دعت إلى «تحويل المناسبة إلى محطة تضامنية عربية تستكمل بإحياء ذكرى توقيع «اتفاق تفاهم نيسان»، الذي أوقف العدوان.
الحركة السياسية
وبدأ لبنان التحرّك، خرج إلى العالم وإلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تحديداً ليرفع صوته وفق مأساته أمام أعين العالم قاطبة.
رئيس الجمهورية إلياس الهراوي طار إلى الأمم المتحدة وخاطب العالم بقوله: «نأتي إليكم حاملين كرامة وطن جريح ذنبه أنه لا يؤمّن بالعنف والقوّة سبيلاً لردع العدوان»، وسأل «بأي منطق تحرق «إسرائيل» مثل هذا الوطن وتقتل مثل أبنائه، وكيف يُمكن القبول بأن تطبق منظمتكم قرارات مجلس الأمن في الشرق الأوسط ضد دولة تحدث القرارات الدولية، ولا تطبق القرار الدولي لمصلحة لبنان، الذي ما اعتدى مرّة وفي وجه «إسرائيل» التي ما انكفأت تتحدّى هذا القرار منذ العام ١٩٧٨ باستمرار جيشها جاثماً فوق أجزاء غالية من أرضنا وباستمرار تعدياتها».
في غضون ذلك، كان رئيس الحكومة رفيق الحريري طائراً من عاصمة إلى آخرى، وخاصة إلى عواصم القرار، محاولاً بكلّ علاقاته وبراعته وحنكته ودرايته، إيجاد مخرج لوقف شلال الدم الجاري في العدوان ودرء تداعياته، حيث أُمكن التوصل إلى اتفاق «تفاهم نيسان، الذي أعلن عنه الرئيس الحريري في القصر الحكومي في بيروت بتاريخ ٢٦ نيسان ١٩٩٦ بحضور وزيري خارجية فرنسا آنذاك هيرفيه دو شاريت ولبنان آنذاك فارس بويز، فيما كان يُعلن عن ذلك في الوقت نفسه في القدس رئيس وزراء العدو الإسرائيلي - آنذاك - شيمون بيريز بحضور وزير الخارجية الأميركي – آنذاك - وارن كريستوفر.
وقد أوقف هذا الاتفاق الخطي الوحيد المعقود بين لبنان و«إسرائيل» بمشاركة سوريا وتوقيع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، بعد اتفاق الهدنة الموقّع في العام ١٩٤٩، العدوان على لبنان، وشَرْعنَ المقاومة دولياً، حيث تمّ تشكيل «لجنة تفاهم نيسان ١٩٩٦» التي عقدت اجتماعات لها في مقر قيادة قوات الطوارئ الدولية في الناقورة.
دموع الذكريات
في هذا اليوم تتحوّل بلدة قانا إلى محجّة لبنانية وعربية لإحياء الذكرى، حيث يتوافدون إليها من كلّ المناطق، مستذكرين لحظات حزينة لضحايا بريئة ومضيئين شموع المشاركة والاعتراض ورفض العدوان بكلّ الأشكال.
هيثم زعيتر - "اللواء" (بتصرف)