في أول أعماله رئيساً للحكومة في العام ٢٠٠٥ أقدم فؤاد السنيورة، وبتنكر واضح للمقاومة وانجازها التحرير، أقدم على إلغاء عطلة ٢٥ أيار لمناسبة عيد المقاومة والتحرير، ثم جمعت أميركا ما أسمي «جماعات ١٤ آذار»، ودفعتهم الى العمل تحت لافتة رئيسية هي «نزع سلاح المقاومة»: المهمة التي اضطلعت بها هذه الجماعات مقابل وعد أميركي بتثبيتها في السلطة وتمليكها لبنان في سياق منظومة «حراس المصالح الأميركية» القائمة في الخليج بتسميات شيوخ وأمراء وملوك .
وقد بادرت تلك الجماعات لتنفيذ المهمة وأرهقت اللبنانيين بالتغني بالجيش وبمديحه والتأكيد على «حقه الحصري» بحمل السلاح واستعماله على كامل الأرض اللبنانية، وبواجبه هو وحده دون شريك في «الدفاع عن لبنان»، مدعية أنه يملك القدرات التي تمكنه من المهمة. كان ذلك من أجل تبرير رفضها للمقاومة وسلاحها .
لقد منحت تلك الجماعات الجيش هذه الثقة المرهقة على غير قناعة، وبشكل كاد ينطلي على البسطاء، ولكننا كنا نرى ان في سلوكهم و»محبتهم المزيفة للجيش» عملا من نوع «العناق الخانق»، لاننا نعرف أن المكونات الرئيسية لجماعات ١٤ آذار لم تكن يوماً في ود مع الجيش او حتى ارتياح للعلاقة معه، فضلا عن عدم ثقتها به وسعيها الدائم لتدجينه ووضع اليد عليه، كما وضعت اليد على اجهزة امنية قائمة او مستحدثة خلافا للقانون .
فـ»القوات الكتائبية المسماة لبنانية»، ومنذ نشأتها، نظرت الى الجيش باستعلاء وحاولت إلحاقه بقيادتها المليشياوية وتجريده من صفته الوطنية، وعندما استعصى عليها ذلك شنت عليه حربا، ابتدأت باغتيال ضباطه وقادته، وانتهت الى احتلال بعض ثكناته وقتل العسكريين وتدمير عتادهم وسرقة أسلحتهم من أي مكان وصلت اليه. اما المناطق التي منعها الجيش من الوصول اليها او السيطرة عليها فقد دكتها بالمدفعية الثقيلة التي جاءتها مع ذخيرتها من «إسرائيل». وقد أصاب الجيش اللبناني على يد تلك الميليشيا ما لم يصبه من ضرر في أي مواجهة او قتال مع اي طرف آخر عدوا كان ام خصماً.
اما «تيار مستقبل الحريري» فقد امتهن رفض الجيش والتضييق عليه منذ ان تولى السلطة، فحرمه من السلاح والتجهيز، ولما آلت السلطة اليه واستأثر بكل مقابضها في العام ٢٠٠٥ أعاد محاولة وضع اليد، فلما عجز عاد الى سلوك التضييق وإنشاء الاجهزة الاستخباراتية البديلة والدفع باتجاه تهميش الجيش بأي طريقة كانت .
واليوم، وفي معمعة ما يحاولون جعله «الربيع الصهيوأميركي» وتحت تسمية عربية مزيفة، واستغلالا لما يجري في سورية نجد الجماعات ذاتها مضافاً اليها المنتج الجديد – السلفيون - تركز هجومها على الجيش والمقاومة لتحقيق الغايات نفسها اي: نزع سلاح المقاومة وتفكيكها، وتدجين الجيش وتهميشه. ولأن المقاومة ووفقا للظروف الموضوعية والذاتية باتت منيعة تتكسر عند أقدامها موجات الافتراء والعدوان والغدر، فإنهم يركزون الآن على الجيش فتشتد الهجمة عليه وتستغل مناصب وأجهزة رسمية في الدولة للنيل منه الى الحد الذي يطرح السؤال: «هل ان السلفيين و»تيار مستقبل الحريري» و»القوات الكتائبية المسماة لبنانية» مع آخرين أيضاً، بات لهم من التأثير في الدولة ـ رغم انهم خارج الحكومة- ما يمكنهم من إيذاء الجيش دون مساءلة؟ ثم تسكت الدولة وكأنها تقبل أو تساهم بذلك؟
نطرح هذا التساؤل لأننا سجلنا في الأيام الاخيرة سلوكيات لا يمكن أن يتقبلها وطني حريص على دولته وعمودها الفقري جيشها، حيث نستهجن ان:
١) ) تطرح القوى المعادية لمنظومة «القوى الدفاعية عن لبنان» (والمتمثلة بالجيش والمقاومة) تطرح تفكيك الجيش اللبناني بسحب المسلمين السنة منه وتشكيل «جيش لبنان الحر» (استعادة لجيش سعد حداد الذي انشأته «إسرائيل»، ومحاكاة لجيش «سوري حر» يعمل بإمرة الخارج ضد بلده) . تطلق الدعوة هذه ويسمع بها القاصي والداني ولا يتحرك القضاء للملاحقة.
٢) ) تطرح جهات معينة طلبات من قبيل إخراج الجيش من الشمال اللبناني، او استقالة قائد الجيش او إعدام الضباط الذين كانوا ينفذون مهمة عملانية قُتل خلالها أشخاص ينقلون سلاحاً من دون ترخيص واستهدفوا الجيش بإطلاق النار على حاجز أقامه لحفظ الأمن فلم يمتثلوا له.
٣) ) يجري على العسكريين ما لا يصدق من ملاحقة و........ والأشد غرابة والأكثر مرارة على الجيش وكل من تعلق به، ملاحقة بحق عناصر الحاجز الذي أطلق النار على مسلحين لم يمتثلوا له، ملاحقة تتم عبر القضاء بشكل لم يعتده العسكريون الذين ينفذون مهمة عملانية. وهنا ومع تأكيدنا على وجوب تطبيق القانون، ولكن وانطلاقاً من علمنا وخبرتنا في المجال القانوني والعسكري والعملاني، كما هي قناعتنا باستقلالية القضاء ووجوب عدم التدخل في مساره للبحث عن الحقيقة من أجل معاقبة المخطئ، فإننا نؤكد على قواعد وثوابت أساسية:
- ان المسؤول عن تصرف الوحدة العسكرية هو قائدها، فإن أخطأت، فإن القائد هو الذي يُلاحق بالتالي فإن هذا المبدأ يقود الى القول بأننا لا نفهم مطلقاً توقيف كل عناصر الحاجز مع ضباطه، متساوياً في ذلك القائد مع الجندي، كما لو كانت الفصيلة من الجيش «عصابة مسلحة» خارجة على القانون ارتكبت جرماً فاستوجب توقيف كل المجموعة. ان التوقيف بهذا الشكل يشكل سابقة خطيرة على صعيد العمل العسكري، وينعكس حتماً وبشكل سلبي فظيع على معنويات الجيش وقيامه مستقبلاً بمهامه الأمنية .
- اذا كان إطلاق النار تم من دون أمر من القائد، فإن العسكري الذي تخطى قائده يُساءل عن فعله، وبالتالي لا يمكن أن نتصور أن جميع عناصر الحاجز أطلقوا النار على السيارة وأنهم شاركوا في القتل، لأن قواعد إقامة الحاجز تفرض على الأقل تقسيم العناصر الى فئات ثلاث: (توجيه – تفتيش – ومساندة) يطلق النار منها فريق واحد حسب مهمته وموقعه، وبالتالي، فإذا كان مطلق النار تصرف بغير أمر رئيسه، فيمكن الحديث عندها عن توقيفه وحده دون سواه، اي لا يشمل التوقيف الجميع ايضاً.
- ان قواعد الأمن والعمل العسكري تحتم التحفظ على أسماء العسكريين القائمين بمهمة أمنية، لأن إفشاء أسمائهم يعرضهم للخطر ويحملهم شخصياً مسؤولية عمل قاموا به باسم المؤسسة التي ينتمون اليها. وان إفشاء أسمائهم يعتبر جرماً يعاقب عليه القانون، وعلى النيابة العامة ان تبادر الى الملاحقة حتى من غير طلب من قيادة الجيش، لكن لم نر شيئاً من هذا القبيل يحصل الآن، بل العكس هو ما يجري، حيث باتت أسماء العسكريين الموقوفين وانتماءاتهم الدينية والمناطقية على كل شفة ولسان وتداول يومي في الإعلام، ما سيعرضهم مستقبلاً للانتقام.
- وملاحظة أخيرة نسوقها أيضا ونسأل المعنيين: أليس من المستغرب أن يوقف كل عناصر الحاجز الذي تعرض لإطلاق النار رهن التحقيق، ولا يوقف أحد من عناصر الموكب المسلح الذي أطلق النار ابتداء وأجبر الحاجز على الرد؟ ثم أليس مؤلماً أن نقرأ في صحف الأمس ان العسكريين الموقوفين يشكون او يرتابون من تصرف القاضي المحقق معهم؟
أسئلة نطرحها في عيد المقاومة والتحرير حيث نحتفل بانتصار لبنان وتحرير أرضه تحريراً جاء ثمرة جهد جناحي القوة الوطنية - الجيش والمقاومة- ما يفرض التمسك بالقوة التي حررت وحفظت الأرض محررة، حتى لا تضيع دماء الشهداء وجهود المحررين سدى، تمسّك يتنافى مع ما نشهده من سعي للنيل من الجيش. فإذا كنا مطمئنين الى قدرة الجيش والمقاومة على الذود عن الذات والموقع، فإننا نرى ان خطأ جسيما يتشكل في ما يستمر طرحه حول سلاح المقاومة أو ما يجري على الجيش من عدوان يمس معنوياته ويؤثر في أدائه. ولذلك، ومع تقديرنا لظاهرة التعاطف والتأييد الشعبي للجيش نصرة له، فإننا نرى أن النصرة والتأييد وإعادة الاعتبار الفعلية لا تكون إلا عبر ما يلي :
١) ) القرار الحازم بإعلان منطقة الشمال منطقة عسكرية تطبق فيها أحكام حالة الطوارئ ويكلف الجيش وفقاً للمادة ٤ من قانون الدفاع الوطني بحفظ الأمن فيها.
٢) ) التقيد بالقوانين والأعراف العسكرية في مسألة الملاحقة القضائية للعسكريين ووضع حد لتناولهم إعلامياً.
٣) ) إظهار التفاف شعبي شامل غير فئوي حول الجيش حتى لا يتضرر الجيش من حيث نريد أن ننصره.
ان حفظ الجيش في ذاته ومعنوياته وملاحقة من يعتدون عليه واجب وطني، والمسؤولية تقع في ذلك على جميع من يريدون لبنان القوي السيد، بدءاً برئيس الجمهورية ووصولا الى آخر مواطن في أقصى بقعة من لبنان، مسؤولية يجب أن نتحملها جميعاً وبكل شجاعة من أجل لبنان وحقه بالوحدة والحياة، ومذكرين بأن دولة تعاقب جيشها أو تتخلى عنه، هي دولة لا تستحق الحياة بكرامة وحتماً لا تستمر.
المصدر: صحيفة "البناء" - امين حطيط