وكالة أنباء التقريب(تنا)
كشف خبير مصرفي بارز عن الدور الكبير الذي لعبته الأزمة المالية العالمية في تبصير الغرب، خاصة أوروبا وأميركا، بضرورة الاستعانة بتجربة المصرفية الإسلامية في معالجة آثار هذه الأزمة, وتحسين أداء النظام المالي بما يتوافق مع هذا التوجه.
وقال ديفيد داود، المسؤول الدولي عن التمويل الإسلامي في مركز «ديلويت» للمعرفة التمويلية الإسلامية في العالم، في حوار خص به «الشرق الأوسط»: إن الولايات المتحدة بدأت تهتم بالمصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي، وإنها استدعت مجموعة من المفكرين المتخصصين في هذا المجال, للاستفادة من قوانينه ومعاييره في تقويم الوضع المالي المتأزم فيها بسبب انهيار وضعها الاقتصادي نتيجة الأزمة المالية العالمية, خاصة أنها أعلنت عن إفلاس ١٢٩ بنكا حتى الآن وربما يتزايد العدد مستقبلا.
وأقر داود بعدد من التحديات التي تقف حجر عثرة أمام تطور المؤسسات الاستثمارية المالية الإسلامية بالشكل المطلوب, من أهمها: كيفية تطوير البنية التحتية لهذه الصناعة، والإطار التنظيمي لسد الثغرات في مجالات الأداء، والتشغيل وتطوير المنتجات والكفاءة البشرية, للوصول إلى أفضل الممارسات لدى المؤسسات المالية الإسلامية.
واستطاعت دول منطقة الخليج، بموجب ذلك, أن تغطي الفجوة الاستثمارية, مما نتج عنه نوع من التوازن, على عكس ما هو عليه الحال في أميركا، التي أصابتها الأزمة المالية العالمية في مقتل.
كما أن الصكوك استطاعت، خلال خمس سنوات, أن ترتفع إلى مائة مليار دولار, وظهر الاهتمام بذلك جليا في عدد من المؤسسات السعودية, أهمها شركة «سابك» بالسعودية و«الشركة السعودية للكهرباء», وأثر ذلك بدوره في صناعة الصكوك وشرائها على مستوى المؤسسات الحكومية والخاصة، وحتى الفردية.
غير أنه لا بد من الإشارة إلى أنه في الوقت نفسه, كان للأزمة المالية العالمية تأثير نسبي قلل من نموها بمستوى أقل بكثير مما عليه الحال في المؤسسات والبنوك المالية التقليدية.
ويعتقد أن المؤسسات الاستثمارية المالية الإسلامية لم تتطور بالشكل المطلوب بعدُ, بسبب بعض التحديات التي تواجهها، ومن أهم تلك التحديات التي تواجهها مخاطر الاستثمار في الأسواق المالية التداول؛ لأنه في فترة سابقة كانت المخاطر فيه محدودة ومن المقدور التحكم فيها, غير أن التجربة أثبتت أن الاستثمار في الأسواق المالية بعد ذلك أخذ يتسم بمخاطر عالية، بما في ذلك الاستثمار في العقار سواء أكان ذلك في السوق العقارية في دبي أم في البحرين.
ولذلك فإن الدعوات تتجه إلى تطوير المنتجات الاستثمارية خارج نطاق العقار والأسواق المالية؛ حيث إن الصعوبة تتضح في تشكيل المنتج الملائم أو المتوافق شرعا, خاصة الاستثمار المعروف لدى المستثمر, بخلاف الاستثمار غير المعروف لديه؛ حيث يكون في هذه الحالة أكثر تعقيدا وغير مفهوم لديه, بعكس الاستثمار العقاري, وهذا ما كان عليه الحال في المنطقة قبل عشر سنوات مضت. وهنا يأتي دور التدريب والتوعية والمعرفة في مجال الاستثمار في الأسواق المالية الإسلامية لتوصيل مفهومها إلى المستثمر أو المستهلك.
وهناك نموذجان في الدول الإسلامية, أولهما يسيطر عليه نظام البنك المركزي، وفي مثل هذه الحالة تكون المعايير قادرة على إلزام البنوك الإسلامية في البلد المعين بالتقيد بمعايير البنك المركزي الإسلامية لأهمية توحيد الهيئات الشرعية عبر الصناديق المركزية بمعايير واضحة ومحددة, وهذا لا يوجد إلا في ٣ دول فقط هي: السودان وماليزيا وباكستان.
وفي تقديري، فإن تطبيق نظام البنك المركزي الواحد ضروري, مع العمل على دمج المعايير المحاسبية الشرعية مع مثيلاتها الدولية, بجانب الاهتمام بكيفية معالجة التحديات التي تواجه هذا النظام من خلال الاستعاضة بتوظيف المواهب الفردية في تطويره أيضا.
أما النموذج الثاني, وهو أن يكون لكل بنك إسلامي هيئة شرعية خاصة به لا تتقيد بنظم الهيئة الشرعية للبنوك الأخرى في البلاد المعينة, حيث لا يوجد بنك مركزي يطرح نظاما موحدا تتقيد بها, فهذا النموذج هو السائد في غالبية الدول العربية والإسلامية, غير أنه غالبا ما يولد تضاربا في الآراء الشرعية وغياب الموضوعية في بعض الأحيان.
لذلك أرى أهمية إعادة النظر في هياكل الإفتاء الشرعي, مما يعني ضرورة تطوير نظم عمل وآليات الإفتاء الشرعي بما يناسب تطور النظام الإداري كالتدقيق والسيطرة الداخليين لتحسين وضمان عملية الموافقة الشرعية, بأن تعتمد نظام الرقابة المركزية، والذي يكون في الأصل تابعا للبنوك, حتى تكون هناك جهة واحدة تقوم بالتحليل وتصحيح المنتج الإسلامي المعين, وتتمثل في وجود نظام ضبط وسيطرة على المنتجات المصرفية والإسلامية وفق التوافق الشرعي لها.
ومن التحديات التي تواجه المؤسسات المالية الإسلامية: قدرة وكيفية انفتاحها على المؤسسات المالية الغربية, لإطلاعهم وإقناعهم بقدرة المنتجات الإسلامية على مواكبة المنتجات الإسلامية لمتطلبات العصر, كما أنه منوط بها استنهاض المصرفية الإسلامية بالشكل الذي يكسبها الثقة والجدية والكفاءة العالية.
كذلك, ضرورة الخروج بالتمويل الإسلامي من حيز تمويل المشاريع الصغيرة والدول الصغيرة, إلى حيز المشاريع العالمية العملاقة, حتى يترك أثرا واضحا ومقروءا للعالم كله, ليكون محل تقدير من قبل المؤسسات ذات الوزن الثقيل والتي يمكنها خوض هذه التجربة والاقتداء بها.
كذلك من التحديات: وجود موظفين يعملون في البنوك التقليدية يغطون خدمة المصرفية الإسلامية في منافذها الإسلامية, وهذا قد يوجد خللا عند التعامل في المنتجات الإسلامية، كما أن بعض المصارف الإسلامية لا تلقي بالا لضرورة تدريب وتأهيل موظفيها، مما تنتج عنه إشكالية في المنتج أحيانا.
وهناك دراسة أصدرها مركز «ديلويت» تؤكد ما ذهبت إليه في هذا الصدد؛ إذ تفيد بأن ٦٦% من القائمين على مؤسسات التمويل والصيرفة الإسلامية يعتقدون أن التمويل والصيرفة الإسلاميين هما دون مستوى التنظيم والإشراف الواجب توافرهما في هذا القطاع.
ولا بد من العمل على معرفة كيفية تأصيل استراتيجية الابتكار في المنتجات الاستثمارية, بحيث يكون هناك تطوير منتجات مبتكرة على أساس الشريعة, بالإضافة إلى مراجعة استراتيجيات توزيع وتعيين الاستثمار وإدارة مخاطر الاستثمار.
كما أنه من الملاحظ أن معظم المؤسسات المالية تعتمد على الاستثمار المحلي؛ إذ إن هناك قطاعين مهمين, أولهما: الأسواق المالية، وثانيهما: القطاع العقاري, مما يعني ضرورة العمل على تنويع المنتجات بما يشمل الاستثمار في دول أخرى ويتمدد جغرافيا, بينما تجب إدارة المخاطر وفق سياسات واضحة وشفافة في حالة الاستثمار الخارجي.
وثمة شيء آخر مهم جدا, هو الاستثمار في المواهب، وتنمية المهارات القيادية والتفوق المهني, وضرورة تعزيز ثقافة التميز المهني في مجال التمويل الإسلامي, مع التركيز على برامج تنمية القيادات والتدريب والتعليم المهني المستمر؛ حيث إنه من الأهمية تطوير المهارات والقيادات في صناعة التمويل الإسلامي، وذلك عن طريق التدريب المهني المستمر وتدريب المستثمرين وتوعيتهم, بما يؤول لهم من فوائد مع تخصيص جزء من الأرباح لأية فجوة تحدث بشكل طارئ أو حتى غير طارئ.
ونوه داوود إلى أن المعايير الدولية تختلف إلى حد ما مع المعايير الإسلامية الشرعية، مع وجود توافق في نواحٍ متعددة؛ لذلك أرى أنه لا بد من اعتماد مبادرة لتقليص مغايرات المعايير المحاسبية بهدف التوصل إلى التقاء معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية مع المعايير الدولية للتقارير المالية؛ ذلك لأنه برأيي أمر مهم للغاية ما دام هناك شبه إجماع من كبار القائمين على مجال الصيرفة الإسلامية في العالم على اعتبار أن مؤسسات التمويل والصيرفة الإسلامية لا تزال متأخرة نسبيا في مجال تطبيق أنظمة إدارة المخاطر.
كما لا بد من ملاحظة أن المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية ينقصها نظام إدارة مخاطر كفء, يتماشى مع المعايير العالمية, مما يعني ضرورة اتباع معايير عالمية تمكن تلك المؤسسات من إدارة مخاطر التشغيل في كياناتها الإسلامية المتعددة.
وهنا تبرز حاجة ماسة لترسيخ مفهوم الحوكمة في العمليات الإدارية, ومن ثم اتباع أفضل الممارسات واعتماد المعايير المقبولة دوليا في حوكمة المؤسسات, بشكل يضمن حقوق المساهمين بما لا يلحق الضرر بحقوق المستثمرين وأصحاب الودائع.
ولا يعتقد داوود أن هناك حساسية بين البنوك التقليدية والبنوك الإسلامية, بل العكس, فقد تفهمت البنوك التقليدية طبيعة عمل التمويل الإسلامي وفق توجيهات هيئة شرعية ترتكز على هيئة إفتاء تتخصص في مسألة التمويل الإسلامي والمصرفية الإسلامية. مبينا أن هناك إقبالا من مختلف الشرائح على المنتجات الإسلامية, وعلى البنوك التقليدية للاستفادة من أسباب هذا الإقبال.
وللأسف الشديد, هناك بعض البنوك التي تمارس مصرفية غير إسلامية تسميها بالمصرفية الإسلامية، وهذه عادة ناتجة عن بعض العاملين غير المؤهلين في هذا المجال في تلك البنوك, مما يترتب عليه الإساءة إلى المنتجات الإسلامية من خلال إخراجها بشكل لا يتوافق مع الشريعة الإسلامية في كثير من جوانبها.
لذلك فإن الاتجاه العام يتجه نحو الالتزام بنموذج البنك المركزي لكل بلد معين حتى تلزم البنوك الإسلامية الأخرى بنظام التشريع الواحد الموحد, والذي ينتهي بمنتج يظهر في شكله النهائي المتوافق مع الشريعة الإسلامية, حتى يتم تفادي تضارب الفتاوى والرؤى التشريعية المختلفة.
وأرى في تجربة صالح كامل في أن تتم تسمية المنتجات الإسلامية والتمويل الإسلامي بالمنتجات الأخلاقية والتمويل الإسلامي حتى لا تنسب الأخطاء التي تصدر من بعض الجهات، التي تحاول تطبيق المعايير الإسلامية، بشكل فيه خروج عن الشريعة إلى الإسلام كدين، ويكون الخطأ حينها منسوبا للبشر, خاصة أن تطوير الكوادر البشرية شبه غائب في هذا القطاع من خلال الاعتماد على رجال المصارف التقليديين لإدارة هذا القطاع, رغم أهمية هذا القطاع وامتلاك العديد من الدول الإسلامية لأكبر الصناديق السياسية في العالم.
وهذا يعني أنه إذا فشلت تجربة إسلامية معينة لا تحسب على أنها فشل في التركيبة الشرعية فيها, فتلصق جهلا بالإسلام؛ لأنه من المعروف أن بعض المتعاملين مع المنتجات والمصرفية الإسلامية عملوا في بنوك تقليدية, فيبدو كأنما هناك إساءة أو خداع يمارس باسم الإسلام ضد العميل المعين.
وقال داوود أنه بالفعل حققت المنتجات الإسلامية والمصرفية الإسلامية نجاحات كبيرة، وخرجت من الأزمة المالية بأقل الخسائر، وهذا يعود إلى أن للبنوك الإسلامية حساسية عالية في التعامل مع المخاطر العالية؛ فهي لا تتعامل مع المشتقات، بمعنى أنها تلجأ إلى الاستثمار في المنتجات والمجالات التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية مثل بيع المال بالمال, كما أنها لا تعطي الحق في بيع من لا تملك بيعه, سواء أكان ذلك متعلقا بالمشتقات أم له علاقة بالاقتصاد.
هذا حفَّز كثيرا من البنوك والمؤسسات المالية التقليدية, في كثير من البلاد الغربية، بما في ذلك أستراليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من البلاد الغربية, أن تحاول معالجة منتجاتها التقليدية وفق ما تعالج به المنتجات الإسلامية.
وما يؤكد ذلك أن المؤسسات المالية الإسلامية استرعت انتباه المسؤولين في تلك البلاد, فزيارة وزير المالية الأسترالي للإمارات، مؤخرا, كانت محطة للوقوف على تجربة المصرفية الإسلامية فيها, فوعد إثر ذلك أن يخفض الضرائب, وأبدى رغبة جامحة في معرفة تفاصيل العمل في التمويل المصرفي, وهذا توجه بدأت به بريطانيا والصين وغيرهما من بلاد العالم الأخرى؛ حيث بدأت في التركيز على الصكوك كنوع من التنويع في مجال الاستثمارات.
وتعتبر حاليا نسبة أصول قطاع الصيرفة الإسلامية ضئيلة ولا تشكل سوى ١% من مجمل الأصول في العالم, إلا أنه متوقع لها النمو سريعا، خاصة بناء على ما تشير إليه التقارير بارتفاع عدد المسلمين في العالم, وهو ما سيزيد من أعداد المتعاملين بالمنتجات الإسلامية.
وهناك دراسة تفيد بأنه سيصبح نصف سكان العالم في ٢٠٥٠ من المسلمين, مما يعني زيادة الاهتمام والقبول للمصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي, وهذا بدوره سيزيد من حجم الأصول, وتزايد الحاجة للتوسع في المصرفية الإسلامية. والواقع يدلل على ذلك؛ حيث إنه زاد عدد الدول التي تتعاطى مع المصرفية الإسلامية من ٣٠ دولة قبل ٣٠ سنة إلى ٨٠ دولة في طريقها للزيادة.
ومن المؤكد أن وجود المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة بكم كبير أثر تأثيرا إيجابيا كبيرا على تسويق المنتجات الإسلامية والتعاطي معها من قبل غير المسلمين ومن ثم تسويقها وإبانة قدرتها على تجاوز التحديات التي تواجه النظام المالي العالمي, شريطة أن تكون تلك المنتجات على قدر عالٍ من الكفاءة والجدوى الاقتصادية والتي تمكنها من إثبات ذلك بالدليل.
المصدر : صحيفة الشرق الاوسط