يتحدث الشيخ فادي رضا ضمن سلسلة الدروس التي تنشرها وكالة أنباء التقريب - مكتب بيروت في شهر رمضان المبارك عن أهمية الدعاء الذي يربط الإنسان بربه ، مستشهداً بالعديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عنه ، كما يتعرض لثمرات هذا الدعاء منها تهذيب النفوس، وتحسين الطباع، وتنمية النزعات الخيرة. ليأتي بعدها ويتكلم عن أهمية الدعاء من منظور أهل البيت (ع) بأنه لا يقتصر فقط على التضرع الى الله بل الى أمور أخرى سياسية واجتماعية . وهذا نص الحديث :
الدعاء، سمو في الروح، وإشراق في النفس، يربط الانسان بربه خالق الكون، وواهب الحياة، من بيده مجريات الاحداث وهو بكل شئ محيط.
إن علاقة الانسان بربه، علاقة ذاتية، ومتأصلة في نفس الانسان، فهو يفزع إليه، إذا دهمته كارثة من كوارث الدهر، أو ألمت به محنة من محن الايام.. إنه يدعو ربه ضارعا منكسرا، لا يجد أحدا يلجأ إليه، ولا يكشف عنه الضر والشقاء سوى الله تعالى اللطيف بعباده .
وقد تحدث القرآن الكريم، عن هذه الظاهرة، في كثير من آياته، قال تعالى: (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضرمسه) وقال تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه، ثم إذا إذاقهم منه رحمة، إذا فريق منهم بربهم يشركون) (٢)
إن الالتجاء إلى الله تعالى، والفزع إليه، في وقت المحنة والازمات، أمر ذاتي للانسان، مهما كانت اتجاهاته وميوله، وقد قرأت فيبعض الكتب، أو الصحف، أن شخصا
(١) سورة يونس آية ١٢. (٢) سورة الروم - آية ٣٣. [ * ]
كان في طائرة، وفيها جماعة من الماركسيين وغيرهم، ممن لا دين لهم، فاصاب الطائرة عطب، وهي في الجو، ففزعوا جميعا إلى الله تعالى، ببكاء لينقذهم من هذه الكارثة،استجاب الله دعاءهم، ونجاهم مما هم فيه، وعقب الشخص قائلا: إني لا أصدق بعد ذلك،أن هناك من يجحد الله تعالى ولا يؤمن به، فإنه إن جحده بلسانه، فان قلبه مطمئن به.
ثمرات الدعاء
إن من ثمرات الدعاء، ومعطياته، إزالة ما ران على القلوب، من غشاوات وجفاء،ورفع المرء إلى البشرية المثالية، والانسانية الكريمة، إنه - من دون شك – يهذب النفوس، ويحسن الطباع، وينمي النزعات الخيرة، ويبعث على الاقتداء بآداب المتيقن والصالحين، الذين هم سادات المجتمع وقادته، ويحذر من شرار الخلق، الذين يؤثرون الباطل على الحق، ويفضلون الشر على الخير، وهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،
وأي ثمرة يظفر بها الانسان أهم وأغلى من هذه الثمرة ؟. أما الدعاء إلى الله،والابتهال إليه، فانه من أبرز القيم، الرفيعة الماثلة عند الانبياء عليهم السلام،فقد كان ابتهالهم إلى الله، ومناجاتهم له من أهم المتع عندهم، ولنستمع إلى خليل الله إبراهيم وإبنه إسماعيل وهما يرفعان أسس البيت الحرام، فكانا مع كل لبنة
يضعانها في بناء البيت المعظم، يشفعانها بالدعاء إلى رب البيت قائلين: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.) (١). ويدعوان أيضا قائلين: (ربنا واجعلنا مسلمين لك،ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا
(١) سورة البقرة آية ١٢٧.مناسكنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.) (١).
إن دعاء إبراهيم، ودعاء ولده
إسماعيل إنما هو دعوة إلى التكامل الانساني ودعوة إلى التحرر، من النزعات الشريرة، ودعوة للظفر بالخير، بجميع صورة ومفاهيمه. لذا نجد هذا الاهتمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام، بالادعية إهتماما بالغا، لانها بلسم للنفوس الحائرة في متاهات هذاالكون، كما أنها في نفس الوقت، خير ضمان لردع النفوس، عن غيها وطيشها. وبلغ من اهتمام أئمة الهدى عليهم السلام، بهذا التراث الروحي، أنهم خلفوا ثروة هائلة، من الادعية النفيسةفقد ذكر السيد الجليل، نادرة زمانه، السيد ابن طاووس، ان خزانة مكتبته تحتوي على ثماني مائة كتاب من الادعية، أثرت عن الائمة الطاهرين. ومن الطبيعي، أن هذا الزخم من الادعية، ينم عن معرفتهم الكاملة بالله تعالى، فقد أبصروه بقلوبهم المشرفة، وعقولهم النيرة.. تدبروا في آيات الله، وأمعنوا النظر في عجائب
هذا الكون، وتأملوا في خلق هذا الانسان، فآمنوا بالله إيمانا لا يخامره أدنى شك،وكان من مظاهر إيمانهم الوثيق، أنهم إذا قاموا للصلاة بين يدي الله تعالى، ترتعدفرائصهم، وتتغير الوانهم، وقد قيل للامام الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وآله،وريحانته في ذلك، فأجاب سلام الله عليه: " حق على من وقف بين يدي رب العرش، ان ترتعد فرائصه، ويصفر لونه (٣).
(١) سورة البقرة آية ١٢٨. (٢) كشف المحجة لثمرة المهجة. (٣) حياة الامام الحسن ١ /
٣٢٧.
لقد اتجهوا بقلوبهم، وعواطفهم نحو الله، الذي يعلم دقائق النفوس، وخواطر القلوب،فعبدوه، واخلصوا في عبادته وطاعته، كأعظم ما يكون الاخلاص. وكان أول من فتح باب الادعية، من الائمة الطاهرين، سيد العترة الطاهرة، الامام أمير المؤمنين عليه السلام، فقد حفلت كتب الادعية، بالشئ الكثير من أدعيته، كدعاء كميل، ودعاء الصباح وغيرهما من الادعية، التي تمثل جوهر الايمان، وحقيقة العبودية المطلقة لله تعالى،
وهكذا كانت أدعية ولده الامام، السبط الشهيد الحسين عليه السلام، فإن أدعيته في عرفات، وفي كربلاء، تعتبر صرحا من صروح الايمان بالله تعالى، يتزود بها الداعي، ويتسلح بها الذاكر، ويتبصر بها المؤمن، وأما أدعية ولده الامام زين العابدين عليه السلام، التي سميت بالصحيفة السجادية، فهي انجيل آل محمد صلى الله عليه وآله، وهي من أجل الثروات الروحية في الاسلامناجم الفكر ومن ذخائر التراث الانساني.
لقد حفلت سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، بالابتهال والتضرع إليه فلا تقرأ سيرة أحد منهم، إلا وتجد صفحات مشرقة من أدعيتهم، ومناجاتهم لله تعالى، الامر الذي يدل - بوضوح - على عميق إتصالهم بالله،
وإنقطاعهم إليه. إن أدعية أئمة أهل البيت عليهم السلام نفحة من رحمات الله،تهدي الحائر، وتضئ الطريق، وتوضح القصد إلى الله، وقد امتازت عن بقية أدعية الصالحين بما يلي
أولا: - إنما تمثل انقطاعهم الكامل، واتصالهم الوثيقبالله تعالى، استمعوا إلى ما يقوله الحسين عليه السلام، في بعض أدعيته مخاطبا الله:" ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك ؟. " أرأيتم هذا الايمان الذي تجاوز حدودالزمان والمكان ؟ لقد تفاعل مع عواطف أبي الاحرار ومشاعره، حتى صار من عناصره ومقوماته
. ثانيا: - إنها لم تقتصر على التضرع إلى الله تعالى، فقد احتوت على أموربالغة الاهمية كان منها: أ - التوحيد، والنبوة، والامامة. ب - الاخلاق. ج -السياسة. د - الاجتماع. ه - الاقتصاد. وأدعيتهم، مليئة بهذه الامور، كما دعت إلى النشاط الفكري، والعمل الجاد، في مختلف جوانب الحياة. ثالثا: - إن أدعيتهم، تمتاز بأساليبها الرائعة، فقد بلغت الذروة، في بلاغتها، وفصاحتها، فليس في أي بند من بنودها، أو فقرة من فقراتها، جملة أو كلمة، يمجها الطبع، وينفر منها الذوق، فقدنظمت في أرقي أسلاك البلاغة والفصاحة، وتعد من مناجم الادب العربي.
رابعا: - إنها تدعو إلى صفاء النفوس، من أدران الحياة، المليئة باللهو والمغريات، وتحليتهابالآداب والفضائل.. هذا مجمل ما أمتازت به أدعية الائمة الطاهرين عليهم السلام منالخصائص. - ٧ - والشئ المحقق الذي لا يخالجه شك، أنه لا يمكن بأي حال من الاحوال، أن تتحقق الاهداف النبيلة، التي يصبوا إليها الانسان، من الحرية، والكرامة، وقد اهتم بها علماء المسلمين وغيرهم، لانها من والامن، والاخاء، إلا إذا ساد الايمان بالله تعالى بين أمم العالم، وشعوب الارض وارتبط الانسان بخالقه، وآمن بأنه مسؤول أمام الله
عما يعمله، وعما يقترفه من إثم أو ذنب، في حق نفسه، أو في حق مجتمعه، كما أنه من المؤكد
أنه لا يجدي شيئا، ماتعمله هيئة الامم المتحدة، بمنظماتها المختلفة، وما يجاهد في سبيله فلاسفة العصر،وقادة الفكر والسياسة، في العالم، من العمل على تقدم الانسان، وتطوير حياته،وإنقاذه من ويلات الحروب، ودمارها، وإزالة الحواجز، التي أحدثها اختلاف الجنسيات والقوميات، واختلاف الالوان والمذاهب الاقتصادية، من الرأسمالية والشيوعية، فإنه بالرغم مما بذلته من جهود مكثفة، في سبيل الاصلاح الاجتماعي، فانها لم تستطع تحقيق ذلك، وبقيت مقرراتها حبرا على ورق.. إن الذي يغير مجرى تأريخ البشرية إلى الافضل،ويفتح لها آفاقا مشرقة، من العزة والكرامة، إنما هو الايمان بالله تعالى لا غيره،من الوسائل المادية، ومما لا شك فيه، أنه سيظل الانسان يطارده الخوف والفزع، كلما بعد عن الله تعالى .
الشيخ فادي رضا
إمام و خطيب مجمع الامام الحسين عليه السلام _ (بلدة كونين - الجنوب).