" البوعزيزي لم يكن يسعى إلى تخليص المجتمع التونسي من الحكم الظالم، بقدر ما كان مجرد تعبير على طريقته عن مستوى من القهر"
حرق النفس : إنتحار غيري أم تضحية بالذات ؟
" البوعزيزية" على ميزان العلم و الدين
خاص "تنا " – مكتب بيروت
26 Jan 2012 ساعة 16:23
" البوعزيزي لم يكن يسعى إلى تخليص المجتمع التونسي من الحكم الظالم، بقدر ما كان مجرد تعبير على طريقته عن مستوى من القهر"
برداً و سلاماً كانت النار على سيدنا إبراهيم (ع) ، العقاب بالإحراق عادة ليست بحديثة . طقس "الساتي " الهندوسي، كانت تقوم فيه الزوجة المتوفى زوجها طوعًا أو كرهًا بحرق نفسها مع جثة زوجها " فقد كان من المعيب اجتماعيا أن تعيش الأرملة بعد وفاة زوجها" . ثم إتخذت قرارات في العصر الحديث جعلت من متابعة الساتي أمرًا غير قانونيًا .
ارتبطت "ظاهرة العقاب بالإحراق في الكثير من الثقافات بطقوس تطهيرية، لما للنار من حضور في الطقوس كعامل مطهر ومنقي". فحرق الساحرات كان يتم في أوروبا بالعصور الوسطى على اعتبار انهن مصدر أغلب الشر .
إلا أنه في الآونة الأخيرة سادت ظاهرة جديدة تعارف على تسميتها بـ" البوعزيزية" تيمناً بالشاب التونسي محمد البوعزيزي، الذي أقدم على إضرام النار في نفسه،فإعتقد البعض أنه بإشعاله لنفسه أشعل شرارة ثورات اجتاحت العالم العربي، وبغض النظر عن صحة هذا الكلام، تحولت ظاهرة الإحتجاج الفردية هذه إلى ظاهرة جماعية تمثلت من خلال إقدام عدد من الشباب على حرق أنفسهم تعبيراً عن غضبهم وانتقامهم من وضعهم الاجتماعي .
وبعد أكثر من عام ، شهد المغرب، حالات مماثلة عندما قام خمسة شبان بإحراق أنفسهم، ليضافوا إلى حصيلة شهر أقدم خلاله آخرون، في الأردن، والبحرين وتونس، على ذات الخطوة. ماهي وجهة نظر الدين و علم الإجتماع في هذه الظاهرة ؟ كيف يمكن تفسير تضاعف هذه الظاهرة عددياً وإتساع رقعتها جغرافياً وهل لبنان بمنأى عن هذه الظاهرة ؟ هذا ما سيوضحه التحقيق التالي ضمن مقاربة دينية إجتماعية قابلت فيها وكالة أنباء التقريب "تنا" (مكتب بيروت) كل من سماحة السيد علي فضل الله والدكتورة المختصة في علم الإجتماع السيدة سحر مصطفى .
"نظرة الأفراد إلى الجسد وطريقة تصرفهم معه" هو أحد الأسباب التي تدفع الشخص إلى الإقدام على هذا الأمر، بحسب ما أوضحت لنا الدكتورة مصطفى . مبينتاً أن "البعض يعتبر أن الجلد هو معبر احتكاكهم مع الخارج لذا يحتجون على ظلم الآخرين من خلال إحراق هذا الجلد" .
وتكمل الدكتورة المختصة في علم الإجتماع شرحها لدوافع القيام بهذا التصرف قائلة "البعض يفسر هذه الظاهرة بان الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم يعيشون جحيما في الدنيا انه لا ضير عليهم أن يرموا أنفسهم في النار طوعا". وتتابع أن "مقاربة موضوع الانتحار بكل أشكاله مع دوركهايم أعطى العديد من التفسيرات الاجتماعية لهذه الظاهرة التي ظلت حتى القرن التاسع عشر يجري التعاطي معها على أنها ضرب من الجنون أو ضمن الأمراض النفسية فقط " .
ومن الدافع ، إلى النظرة لهذا التصرف التي إختلفت بين متعاطف و مستنكر . فثمة من يرى فيه تضحية بالذات أو إحدى وسائل تعذيب النفس، وآخر يصفه بالانتحار الغيري فيما نظر إليه آخرون كظاهرة معبرة عن الإحباط الممنهج واليأس .
"من ناحية المبدأ، لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه إلا إذا كانت هناك مصلحة كبيرة تتوقَّف على قتل نفسه، وكان هذا هو السَّبيل للوصول إلى هذه المصلحة العامَّة والضَّروريَّة ". هذا ما يؤكده لنا سماحة السيد فضل الله .
أما البديل عن هذا التفاعل في إطار الرفض غير الممنهج والمخطط الذي لا يحمل رؤية تغيير حقيقية، يكون من خلال "الرفض والاحتجاج الذي يحمل مشاريع بديلة، القائم على العقل وليس على مجرد تفاعل عاطفي" بحسب ما تؤكد الإختصاصية في مجال علم الإجتماع وتعطي مثال اقل عنفا وكان له اثر في التاريخ " الإضراب عن الطعام" .
أما سماحة السيد فضل الله لا يرى "أنّ هذا هو الأسلوب الوحيد الّذي تُثار من خلاله معاناة المجتمع، أو تدفعه لكي يتحرّك ويواجه الواقع المنحرف، فهناك وسائل أخرى، مثل الإضرابات والمسيرات، وعبر وسائل الإعلام ومنابر حقوق الإنسان". مشدداً على أن "للحياة احترامها الكبير في التّشريع الإسلاميّ، ولا بدّ من عدم تعريضها للخطر أو للموت مع توفّر وسائل أخرى فيها التّأثير، وكثيرة هي الثّورات والاحتجاجات الّتي انطلقت وأدّت دورها وحصلت من ورائها نتائج لم تكن فيها هذه الظّاهرة ".
و لا ترى الدكتورة مصطفى أن لبنان بمنأى عن هذه الظاهرة التي وان حصلت في لبنان "ستكون طبعا لها طابع مختلف ورمزية مختلفة، ترتبط بتعقيدات المجتمع اللبناني حيث لا وجود لهيكلية سلطة واضحة، فتتعدد المرجعيات لفئات مختلفة من المجتمع " . لافتة إلى أننا "في عصر تطغى فيه جاذبية الأفكار الغريبة و المشهدية، خصوصا في ظل تراجع القيم الروحية وبحث الأفراد عن ادوار في المجتمعات تخلد ذكرهم، ووجود قدر كبير من الوحشية الرأسمالية التي تزيد الهوة في المجتمعات وتهمش فئات كبيرة من المجتمع" .
وما بين الإقدام على حرق النفس يأساً و الإقدام على حرقها إيثاراً و حثاً للمجتمع على النهوض بوجه الظلم فرق كبير ، هنا تنفي الدكتورة في علم الإجتماع أن يكون " البوعزيزي يسعى إلى تخليص المجتمع التونسي من الحكم الظالم، بقدر ما كان مجرد تعبير على طريقته عن مستوى من القهر". مشيرة إلى أن التاريخ حافل "بطرق استنهاض للأمم ناجحة ومثمرة ولم يكن حرق النفس احد أشكالها " .
من جهة أخرى ، يميز سماحة السيد فضل الله بين العمليّات الاستشهاديّة التي هي إحدى أساليب مواجهة العدوّ، والتي لا يرلا فيها مبدأً بل في حال الضّرورة والاستثناء. مؤكداً على ضرورة أن تكون من وراء ذلك "مصلحة ضروريّة كبرى، وبعد دراسة من قِبَل الجهات الشّرعيّة المختصّة والخبراء المختصّين في المجال العسكريّ والأمنيّ". وبين حرق النّفس، "التي يراد منها إثارة الوجدان العام وإعلان الاحتجاج". بحسب ما يشير السيد فضل الله ، فيما ترى الدكتورة مصطفى أنه عقاب للنفس و المجتمع وتقول في هذا الإطار "في هكذا فعل يكون قصد الذي يقوم بحرق نفسه، وخصوصا أن الأغلب يقوم بهذا الفعل في الساحات العامة وعلى مرأى ومسمع من الناس، هو الاحتجاج والتعبير عن رفض الحالة التي يصل إليها من ضعف وظلم وإحساسه بأنه لا وجود له وانه غير مرئي من قبل الجماعة فيقوم بتحويل نفسه إلى رماد في مشهد مأساوي صادم للجماعة" .
إعداد : بتول زين الدين - مكتب بيروت
رقم: 80717