لا شكّ أَنَّه في كثيرٍ من الأحيان تختلف مقاييسنا في الدُّنيا الفانية عن مقاييس الآخرة الباقية، ففي هذه الدُّنيا نحكم بموازيننا المادية على التفاضل بين الأمور بلحاظ كمّيّتها وعددها، وعليه فلا يمكن أنْ يكون الواحد غالباً للعشرة، فإذا سمعنا بمقولةٍ تقتضي غلبة الواحد على العشرة سرعان ما نتعجّب ونتساءل عن سرّ ذلك.
روى الشَّيْخ الصدوق رحمه الله بسند معتبر عن صادق آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، قال: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام يَقُولُ وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ فَقُلْتُ لَهُ وَكَيْفَ هَذَا فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَ﴾ فَالْحَسَنَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً وَالسَّيِّئَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةً فَنَعُوذُ بِالله مِمَّنْ يَرْتَكِبُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ وَلَا تَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَغْلِبَ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ"١.
خصائص هذه الموعظة:
نقف في هذا الحديث الصحيح عند خصائص ثلاث:
الأُولى: أَنَّ الإِمام الصادق عليه السلام نقل هذه الموعظة بقوله: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام يَقُولُ"، وهذا التعبير يستعمل عادةً لإفادة التّكرار، فالقول الَّذِي كان يقوله عليُّ بنُ الحسين عليه السلام لم يصدر منه لمرّةٍ واحدةٍ وانتهى، بل كان يكرّره مراراً، ومن الواضح أَنَّ تكرار الكلام في مقام الوعظ والإرشاد دليلٌ واضحٌ على أهمّيته، لأنّ الإنسان إِنَّما يكرّر ما يراه مهمّاً، خصوصاً إذا كان هذا التكرار من قِبَلِ إمامٍ معصوم، لكلِّ كلمةٍ عنده وزنٌ وحساب.
الثانية: أَنَّ موعظة الإِمام السّجاد تصدّرت بكلمة: (وَيْلٌ)، وهي ـ كما نلاحظ ـ نكرة، وليست بمعرفة، وقد ذكر علماء النّحو أَنَّه لا يجوز أنْ يبتدأ المتكلّم جملته الاسمية بنكرة، ولكنّهم جوّزوا في مثل هذا المقام إمّا لصيرورة هذه الكلمة علماً على وادٍ في جهنّم، وإمّا لإفادتها الدعاء، فعلى الأوّل يكون المعنى أَنَّ مَنْ غلبت آحاده أعشاره يكون جزاؤه وادٍ في جهنّم يستقرّ فيه لتلقّي الغضب الإلهي والعذاب الرباني.
وعلى الثاني يكون المعنى أَنَّ مَنْ كان كذلك فالإمام عليه السلام يدعو الله عليه بالويل والثبور الَّذِي يؤدّي أيضاً إِلَى الاستقرار في جهنّم أعاذنا الله منها.
وأمّا أهل المعرفة الَّذِين يهتمون بالمعاني والمقامات، ويدخلون إِلَى روح الإنسان لوعظه، فربما يكون لهم رأيٌ آخر، وهو أَنَّ الإِمام عليه السلام بدأ بهذه الكلمة لتكون بمثابة الصاعقة التي تنزل على رأس الغافل لكي توقظه من غفوته، فعندما ينتبه من سكرة الغفلة وتأتيه الموعظة تتوجّه نفسه إليها، ويتأثّر بها.
الثالثة: أَنَّ الموعظة التي تلفّظ بها الإِمام السجاد عليه السلام بقوله: "وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ"، كانت مدعاةً لتعجّب السامع والراوي المباشر للحديث منها، فدعاه هذا التعجُّب إِلَى السؤال والاستفسار، فجاءه الجواب مسْتَدَلاً عليه بآيةٍ قرآنية.
وهذا الأسلوب ـ أيضاً ـ يستعمل في الأمور المهمّة والخطيرة، لغرض تركيزها في ذهن السامع والمخاطب. فعندما يأتيك كلامٌ يدعوك إِلَى البحث والتساؤل، وعندما تجد جوابه مع برهانٍ عليه، يستقرّ في نفسك، ويؤثّر فيك أيّما تأثير.
وهكذا عوّدنا الإِمام السجاد عليه السلام الَّذِي اغترف من نمير البلاغة والفصاحة، كيف، وجدّه أمير المؤمنين عليه السلام إمام البيان وسيّد الكلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع كونه من أَهل بيتٍ زُقُّوا العلم زقاً كما اعترف بذلك القريب والبعيد.
سبب تعجُّب الراوي وتساؤله:
لا شكّ أَنَّه في كثيرٍ من الأحيان تختلف مقاييسنا في الدُّنيا الفانية عن مقاييس الآخرة الباقية، ففي هذه الدُّنيا نحكم بموازيننا المادية على التفاضل بين الأمور بلحاظ كمّيّتها وعددها، وعليه فلا يمكن أنْ يكون الواحد غالباً للعشرة، فإذا سمعنا بمقولةٍ تقتضي غلبة الواحد على العشرة سرعان ما نتعجّب ونتساءل عن سرّ ذلك.
ولكن في حساب ربّ العباد الَّذِي يقول في كتابه: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ (الزمر:٤٧)، تكون الموازين مختلفة، وقد لا يتوقّعها الإنسان المجبول على الحسابات المادية.
لأجل ذلك احتاج المقام إِلَى إقامة برهان يزول معه تعجُّب الراوي الَّذِي يمثّل كلّ واحدٍ منّا، وكان البرهان القاطع أَنَّ الميزان الربّانيّ لا يعتمد على الكمِّيّة، بل إِنَّ لنوعية العمل دخالة في رجحان كفّةٍ على أخرى.
ميزان الحساب في يوم القيامة:
من موعظة الإِمام عليه السلام يتّضح لنا أَنَّ الحساب في يوم القيامة يكون بمقابلة الحسنات بالسيّئات، فمن غلبت حسناته نجا، ومن غلبت سيئاته هلك وغوى. فكأنّ الحساب بميزانٍ له كفّتان، توضع في إحداهما الحسنات، وفي الأخرى السيّئات، وعند ذلك لا يخلو الأمر من حالات ثلاث:
الأُولى: أنْ تغلب كفّة الحسنات على كفّة السيئات.
الثانية: أنْ تغلب كفّة السيئات على كفّة الحسنات.
الثالثة: أنْ تتساوى الكفّتان.
مع العلم أَنَّ الله تبارك وتعالى لَطُفَ بعباده، فجعل لإحدى الكفّتين كيفيّتةً تزيد على كمّية الكفّة الأخرى.
فالحسنة الواحدة التي تكون بميزان الكّمِّية والمقدار تساوي واحداً، تعادل في ميزان المحاسبة عشر سيّئاتٍ.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، حيث نرى أَنَّ الباري عزّ وجلّ خصّنا بميزةٍ ونعمةٍ كبرى لم تكن موجودة عند الأمم السابقة، ونجد في بعض الأحاديث تفصيلَ هذا النعمة، فقد روى الطَّبْرِسِيُّ فِي الاحتجاج، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ‘ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، قَالَ: "قَالَ الله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَكَانَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ حَسَنَتُهُمْ بِحَسَنَةٍ وَسَيِّئَتُهُمْ بِسَيِّئَةٍ وَهِيَ مِنَ الْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرَفَعْتُهَا عَنْ أُمَّتِكَ وَجَعَلْتُ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةٍ وَالسَّيِّئَةَ بِوَاحِدَةٍ وَكَانَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ إِذَا نَوَى أَحَدُهُمْ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَم تُكْتَب لَهُ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَإِنَّ أُمَّتَكَ إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشَرَةٌ وَهِيَ مِنَ الْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرَفَعْتُهَا عَنْ أُمَّتِكَ وَكَانَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَإِنَّ أُمَّتَكَ إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِسَيِّئَةٍ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَهَذِهِ مِنْ الْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرَفَعْتُهَا عَنْ أُمَّتِكَ"٢.
وعلى كلّ حال، لا شكّ في وضوح مصير أرباب الحالتين الأُوليين، فإنّ مصير كلّ واحدٍ منهما تحدّدها الكفّة الراحجة، قال تعالى:﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ (الأعراف:٨-٩)، وقال أيضاً: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ (القارعة:٦-١١).
وإنّما الكلام في صاحب الحالة الثالثة، فربما يفهم من الرواية المروية عن الإِمام السجاد عليه السلام أَنَّ المدار في النجاة على عدم غلبة السيّئات على الحسنات، وفي حالة تساوي الكفّتين يصدق أَنَّ السيّئات لم تغلب على الحسنات.
وعلى تقدير صحّة هذا المعنى لا يخرج صاحب هذه الحالة عن الخسران والغبن، فإنّ النجاة لها مراتب، فقد يكون الإنسان مع الأنبياء والأولياء والشهداء والصدّيقين وهذه هي المرتبة العليا، وقد يكون في أدنى المراتب مع أولئك الطبقة الَّذِين يُرجى لهم النجاة، ولا شكّ أَنَّ الحصول على المرتبة الثانية وإنْ كان يعتبر نجاةً إذا لاحظناه مع النار والعذاب، ولكنّه في الوقت نفسه خسارة إذا لاحظناه مع المراتب التي هي أعلى منه وأرفع.
وكي لا يقع البعض في توهّم مفاده: أنّه طالما المدار على رجحان الحسنات على السيئات، فيمكن للإنسان أن ينجو إذا كان عنده سيئات ولكن رجحت حسناته عليها، ينبغي الإشارة إلى أنّ الإنسان سيحاسب على جميع السيئات التي اقترفها وبقيت في كتاب أعماله إلى يوم الحساب...
سبب جنوح الإنسان نحو السيّئات:
بعد أنْ يتعرّف الإنسان على هذا اللطف الإلهي، ويعاين هذه النعمة الربانية، كيف نراه مع ذلك يقدم على ارتكاب السيّئات وهجران الحسنات؟!!
الجواب عن ذلك يكمن في نوعيّة إيماننا بالله تعالى...
فتارةً نؤمن به على طريقةٍ نتعامل معه عزّ وجلّ على أساس أَنَّه أهون الناظرين، فلا نشعر برقابته علينا، بل نجد البعض يستحي من أنْ يقترف السيئات أمام أدنى المخلوقات، ولا يستحي في جرأته على سيّده ومولاه.
وأخرى نؤمن به على طريقة أمير المؤمنين عليه السلام فنشعر برقابة ربّنا في كلِّ الأوقات، وفي الخبر عن مولانا الصادق عليه السلام قال: "قَالَ: جَاءَ حِبْرٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ حِينَ عَبَدْتَهُ قَالَ: فَقَالَ: وَيْلَكَ مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَهُ قَالَ وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ قَالَ وَيْلَكَ لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ"٣.
فالإيمان على الطريقة الأُولى إيمانٌ حاصلٌ عن طريق البراهين التي تعتمد على المفاهيم، بينما الإيمان على الطريقة الثانية حاصلٌ عن طريق المشاهدة والحضور.
ولتقريب الفكرة إِلَى الأذهان نضرب المثال التالي:
لو أَنَّ مولوداً حُبس من اليوم الأوّل من ولادته، إِلَى أنْ أصبح واعياً ومميّزاً لحقائق الأُمور، فأردنا أنْ نعرّفه على طعم الحامض مثلاً، فيمكن لنا أن نعرّفه على ذلك بإحدى طريقتين:
الأُولى: أنْ نجعله يتعرّف على طعم الحامض من خلال تعريفه له بمفاهيم تقرّبه إِلَى الذهن، فيقال له: إِنَّ الحموضة طعمٌ يتذوّقه اللسان، ويشعر معه بسيلان اللعاب.
الثانية: أنْ نأتي له بفاكهة الليمون ونعصر له منها، ونجعله يتذوق طعم الحموضة.
لا شكّ أَنَّه سوف يتعرّف على طعم الحموضة بشكل أفضل بحسب الطريقة الثانية.
والإنسان إذا تعرّف على خالقه بحسب الطريقة الأولى، فليس من الضرورة أنْ تكون هذه المعرفة حاجزاً يردعه عن ارتكاب المعاصي والآثام، بينما لو تعرّف على بارئه من خلال الحضور والشهود القلبي، فإنّه لن يغفل عنه، ويكون إيمانه به مقروناً دائماً بالإحساس بالرقابة، فلا يصدر منه الذنب.
وعلى هذا الأساس نفهم قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:١٠٦)، فإنّ الإيمان الَّذِي يجتمع مع الشرك الَّذِي هو من أعاظم المعاصي ليس هو إِلَّا الإيمان بحسب الطريقة الأُولى، أعني: الإيمان عن طريق المفاهيم الذهنية الَّذِي لا يدخل إِلَى شغاف القلب، وقد لا يشعر معه المؤمن بحلاوة الإيمان.
نسألك يا ربّنا أنْ ترزقنا الإحساس بالرقابة، حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ، فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَتَصِيرَ أَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ.
بحث مختار من كتاب محاسم الكلام