على الرّغم من إمتلاك الأمّة الإسلاميّة أحد أهمّ مقوّمات القوّة ـ ما لا تملكه أيّ من الأمم الأخرى ـ وهو الوحدة؛ نجدها تعيش أصعب مرحلة في تاريخها نتيجة إنقسام أبنائها وتشتّت موقفهم؛ ويعزو كثير من علماء هذه الأمّة هذا الإنقسام والتّشتّت إلى أنّ من يعمل للفتنة هم رجال دين ممن باعوا أنفسهم وآخرتهم للسّلطان والحاكم؛
بهذه العبارة وصّف رئيس مجلس قيادة حركة التّوحيد الإسلاميّ، وعضو جبهة العمل الإسلاميّ الشّيخ هاشم منقارة واقع الأمّة في الوقت الّذي يترتّب عليها مواجهة آفة العصر المتمثّلة في ظاهرة التّكفير ومجموعاتها الإرهابيّة الّتي تدمّر الحجر والبشر؛ الأمر الّذي إستدعى حركة علمائيّة ناشطة في العاصمة الّلبنانيذ بيروت لإنشاء الأطر المناسبة بما يحقّق تجميع الطّاقات في مواجهة الإرهاب.
ومن هنا إلتقت "تنا"- مكتب بيروت الشّيخ منقارة للإطّلاع منه على طبيعة الخطوات الّتي يقوم بها علماء دين، سنّة وشيعة ومسيحيين ودروز في لبنان؛ وقد عاهدوا الله فيما بينهم خلال تلك الّلقاءات على مواجهة الفتنة بكلّ ما أُوتوا من قوّة ، على أمل تكريس الإلفة والوحدة بين النّاس، وصولًا الى القضاء على وباء العصر .
س: قامت جمعيّة العمل الإسلاميّ بتحرّك تزامن وإجتماع عقدته جمعيّات وجهات علمائيّة في البقاع الغربيّ وصور في إطار التّنسيق لمواجهة ظاهرة التّكفير؛ وخلص المجتمعون إلى توقيع وثيقة عاهدوا فيها الله على التّصدّي للفتنة، و الدّعوة إلى الوحدة والتّقريب بين المذاهب الاسلاميّة، ما هي أسباب هذه الخطوة؟ وهل سستكمل في باقي المناطق؟
ج: بدايةً أودّ أن أشير الى أنّ أمر جلل أصاب أمّتنا، أمّة الاسلام والتوحيد والدّعوة، قال الله تعالى في كتابه العزيز
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء (٩٢و يقول ايضا: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ الأنعام (١٥٩)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ آل عمران (١٠٣) -
لقد بيّن المولى في هذه الآيات وما نملك من أدوات الوحدة؛ و لو كنّ على مستوى من التّوحيد والتّآخي، وليس التّنافر والتّباين، وإخراج بعضنا البعض من الدّين والإسلام بما يسمّى التّكفير لما وصلنا إلى ما نحن عليه.
نحن نعيش الآن ظرفًا من أصعب ما مرّ على التّاريخ الإسلاميّ, حتّى أصعب وأشدّ من غزو التتر لبلاد المسلمين. فنحن تناسينا أنّنا أمّةً واحدةً لها كتابٌ واحدٌ ورسولٌ واحد وقبلة واحدة؛ فهل من المعقول أن نغرق في مسائل فرعيّة في الدّين، ونتجاهل مصائب هذه الأمّة ومشاكلها الّتي تزداد يومًا بعد يوم تحت عنوان التّكفير.
بتنا الآن في زمن شبيهة بزمن ما بعد مقتل الإمام علي عليه السّلام؛ فقد جاء رجل يسأل عبدالله بن عمر عن حكم دم البعوضة اذا أصاب الثّوب هل هو نجس؟ فجاوبه: قتلتم ريحانة رسول الله وتسألون عن دم البعوضة؟ هناك خيانة حقيقيّة للأمّة، فنحن نضرب ونقتل بعضًا من أجل مسائل تحتمل أكثر من وجه؛ وتقبل أكثر من تفسير؛ وهي أمور أمور إجتهاديّة و ليست مسائل عقائديّة.
هناك آيات محكمات تحثّ و تدعو إلى الوحدة فلا بدّ أن نتدارك الوضع الّذي نحن فيه.
أنا أرى وجوب مراجعة الخطابات من جديد على مستوى علماء الأمّة وقضيّة وحدتها الّتي لا يذكرها العالم؛ وهي تكون تحت مبدأ " لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " الأنفال ٦٣ ، لا يمكن أن يؤلّف الله بين قلوبهم إلّا أن يرضى عنهم؛ وكيف يرضى و الأمّة تقاتل بعضها و تحاربه في أرضه؟
أنا ما أرى من بعض علماء السنّة و الشّيعة شيء يذهل العقول؛ وأظنّ معها أنّه لا يمكن أن تتوحّد الأمّة بعد كلّ هذه العصبيّات؛ و هذا يجب أن يراعى الآن.
س:نحن نعيش الآن في فتنة سببها جماعات تحمل إسم الإسلام صدفةً، فلماذا لا يكون الخطاب واضحًا؟ ولمَ لا تُسمّى الأمور بأسمائها؟
ج: إذا كنا نريد التّكلّم بهذا الموضوع فهناك عناوين كثيرة يجب أن نشير إليها، فيجب أن ندرس الموضوع بدقّة، وندرس أهدافه، وكيف نتعاطى معه، ونحاربه كي نصحّح مساره، ونحقّق مشروع أمّة واحدة؛ وهذا يتمّ بمساعدة العلماء الرّبانيين ، الدّعاة إلى الله بمؤازرة الإعلاميّين.
س: لم يسبق للأمّة الاسلاميّة منذ أيّام الرّسول إلى الآن أن مرّ عليها مثل هذه السّابقة من قبل، والهدف هو الهاء الشّعوب عن فلسطين، جاءوا بأناس زنادقة، وزجّوهم بين المسلمين لتفريقهم، جاءوا للقتال إمّا هرباً من حكم في بلادهم، وإمّا مقابل مبلغ من المال، فهدفهم ليس أمرًا دينيًّا، ومع ذلك يحاربون ويذبحون باسم الله، ما تفسيرك لذلك؟.
ج: إنّها مؤامرة، ولا يجب تخصيص الخطاب فقط بالزّنادقة؛ هناك أيضًا عدد من المشايخ و المفتين متخرّجين من جامعات... إذا كنت أريد التكلّم بمشروع أمّة يجب التّكلّم بموضوعيّة. إنني أرى مناظر قبيحة، وأحكامًا تنفّذ على أنّها حكم الله، فكيف يكون حكم الله قبيحًا؟ والقصاص أصلاً جاء ليؤدّب، وهذا الحكم يجب أن يكون من كتاب الله.
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الروم (٤١)
يجب على العلماء أن يخرجوا عن دور الأمراء المستبدّين برأيهم، فالكلّ يرى مدى تأثير الحاكم على العالم، وكيف يستطيع أن يجيّر المرجعيّة الدينيّة إلى صالحه؛ فالعالم بايع الحاكم بعلمه؛ وهو بالمقابل بايعه بحكمه؛ ونرى هذا الموضوع جارٍ إلى الآن في السّعوديّة، فلو خرج الامام المهدي (عج) سيقفون بوجهه لأنه سيغيّر حكمهم.
يجب إعادة النّظر وعقد إجتماعات حقيقيّة، و لعمل جاهدين لإظهار صورة الإسلام الحقيقيّة؛ وتمزيق الصّورة المزيّفة الّتي جاء بها التّكفيريّون.
س: أين جرأة العلماء ليقفوا ويقولوا بأنّ الفتنة هي وهابيّة؟ وليس إسلاميّة إسلاميّة، ومن الّذي قال أنّ الوهابيّة هم السنّة؟ و لماذا السّنّة يدعون الوهابيّة تتكلّم عنهم و ترمي بهم بالمشاكل والفتن؟
ج: لقد وضعت يدك على الجّرح؛ ليس السّنّة هم الوهابيّة، ولا الصّوفيّون، ولا الحنبليّون، ولا الجعفريّون، ولا الإماميّون، فنحن يجمعنا عنوان الإسلام. هناك مدارس تدرّس التّفريق بين المذاهب الإسلاميّة، وتربّيهم على العداوة والشّحناء والحقد ليس حبّاً بالدّين، بل هدفهم التّفرقة وشرخ الأمّة.
الوهّابيّة تنشد بالمذهب الحنبلي لكنها أخذته بالعصبيّة وإلغاء الطّرف الآخر، وهذا أمرٌ شنيع. فقال الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله "مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وقال أيضاً : "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا" وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
فهذه المعاني إذا لم يلتزم بها العلماء فمن يلتزم بها؟ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ هود (١١٨) يجب أن لا يفرّقنا خلاف مهما كان. فأنا عندما أدعو الأمّة إلى التّوحّد؛ لا أعني التّوحّد بالشّكل المثالي بل بالشّموليّ، فنحن يجب أن نختلف؛ هناك خلاف لكن لا يجب أن يكون شحناء بيننا.
تعيش البلاد الإسلاميّة عمومًا، و السّاحة السّنيّة خصوصًا، فرق قويّة، وتتنازعهم السّلاطين؛ أمّا السّاحة الشّيعيّة فهي منضبطة ومنظّمة بين المرجعيّات بشكلها العام، ومرجعيّاتها الحاكميّة بشكل خاصّ؛ فالقاعدة الشّيعيّة تحت ظلّ الوليّ الفقيه منتظمة أكثر في حمل المساعي إلى وحدة الأمّة.
س: عملت إيران وبلا كلل على هذا الملف....
الشّيخ منقرة مقاطعًا: المشكلة هي أنّ الطّرف الثّاني غالباً لا يستجيب؛ ومع هذا يجب أن لا نقطع الأمل؛ فهناك علماء أحرار بفكرهم وإعتقادهم فيجب التّواصل والعمل معهم لنحقّق مشروع أمّة واحدة، ولا يجب أن يقتصر العمل على المؤتمرات، وإصدار بيانات إستنكار فقط، بل يجب نشرها بين النّاس لتوعيتهم.
س: لماذا لا يأخذ الأزهر موقفاً واضحاً؟ فالقرضاوي هو سبب هذا الشّرخ، لماذا لا يرفع علماء الدين الصّوت عالياً ويضغطون على الأزهر لأخذ موقف؟ و لماذا صوتهم غير مسموع؟
ج: هذا موقف سياسيّ أكثر مما هو دينيّ، فهناك علماء في الأزهر نراهم على شاشة التلفاز ينادون للوحدة، لكن برأيي الخاص الأزهر ملتزم سياسة الدّولة ، الأزهر يعترف بالمذاهب الخمس، لكنه يخاف أن يعلنه بسبب ما يجري في بلادنا العربيّة، فأقول له يا شيخ " أنت قويّ بقوّة الله فمما تخاف و من أي شيء؟ من السّعوديّة، أو من وقف الدّعم المالي أم من الدّول العربيّة؟ قل قول الحق ولا تخش في الله لومة لائم؛ وألق عصا الإسلام كما ألقى سيّدنا موسى عصاه بوجه الفراعنة.
أنا لا أقول لك أن تكون مع الشّيعة أو غيرهم لكن كن مع الحق!" إجمع العلماء من العالم كلّه ـ من باكستان والقيروان والسّعوديّة ـ وأعلنها إسلاميًّا، وتحمّل دعواتها، وأظهر الحقّ، وأخرج عن الحاكم؛ موقف شريف يسجّله التّاريخ لك أفضل بكثير من أن تسقط ولو حافظت على موقعك.
أدعو الأزهر بشكل خاصّ إلى طرح المسائل بالتّعاون مع كافّة المؤتمرات التّقريبيّة، وإعلان خروجه عن الحاكم ليقرّب القلوب، ويدفع الفتن؛ والمفتيّون مسؤولون أمام الله عن كلّ ما يجري.
يجب أن نقف بوجه هؤلاء حديثي الأسنان سفهاء الأحلام الّذين تعدّوا على دين الله و نظهر الوجه الحقيقي للاسلام و يجب على علماء أهل السّنّة أن يبادروا و لو غضب عليهم الأمراء.
س: ما هي آثار الّلقاء الّذي أعدّت له جمعيّة العمل الإسلاميّ؟
ج: نحن نقوم بواجبنا؛ لكنني إلى الآن لا أرى تغييرًا حقيقيًّا؛ و لا شيئًا من التّأثير، خصوصاً في طرابلس؛ بل ما أراه هو أناس قسيت قلوبهم وعميت بصائرهم، فأصبحوا لا يقبلون أيّ فكر يخالفهم، يجب أن تدوم هذه المؤتمرات والّلقاءات؛ فالصّخر لكي يتغيّر بحاجة إلى النّقر.
حاوره: بلال المذبوح