"في يوم مشرق من ربيع عام ١٩٣٢ استقبلت بعلبك العلامة الكبير الشيخ حبيب آل ابراهيم، قادماً اليها من العراق، ليستقر فيها، ناشراً آيات العلم والنور والتقوى!...
كتاب
كتاب المهاجر العاملي الشيخ حبيب آل ابراهيم – سيرته، اعماله، مؤلفاته، شعره"
سيرة الشيخ حبيب آل ابراهيم لجعفر المهاجر العاملي
25 Jul 2010 ساعة 21:51
"في يوم مشرق من ربيع عام ١٩٣٢ استقبلت بعلبك العلامة الكبير الشيخ حبيب آل ابراهيم، قادماً اليها من العراق، ليستقر فيها، ناشراً آيات العلم والنور والتقوى!...
وكالة أنباء التقريب (تنا ):
"في يوم مشرق من ربيع عام ١٩٣٢ استقبلت بعلبك العلامة الكبير الشيخ حبيب آل ابراهيم، قادماً اليها من العراق، ليستقر فيها، ناشراً آيات العلم والنور والتقوى!...
وفي يوم آخر من شتاء عام ١٩٦٥، يوم كئيب مكفهر، زحفت بعلبك: كبارها وصغارها، رجالا ونساء، اطفالا وشيوخا، سائرة في موكب يكاد لا ينتهي، تشيّع جثمان الشيخ حبيب، وتودعه الوداع الاخير، اذ يغادرها في الرحلة الكبرى... الى العراق ايضاً".
كتب المرحوم والدي هذه الكلمات كمقدمة لملخص عن سيرة "جيل من العلم والايمان والجهاد" الشيخ حبيب في آذار عام ١٩٦٥، بعد فترة وجيزة على رحيله، وبقيت عالقة في ذهننا، ثابتة ثبات ذكرى الشيخ الجليل، الذي أطلق اسمه على الحي الذي عاش فيه بمدينة بعلبك، من دون "مرسوم حكومي" يحدد هذه المسألة ويكرسها. كان الناس هم الذين أطلقوا التسمية، في ما يُعتبر شكلا من اشكال الوفاء لرجل دين قلّ مثيله، عاش بين اهل المدينة، وهو المولود اصلا في بلدة جنويية عام ١٨٨٦، ومن ثم غادرها الى العالم الآخر بعد اقامته ٣٣ عاما في انحائها، تاركا ارثا وذكرى لا تنساهما الاجيال.
يأتي كتاب الشيخ الدكتور جعفر المهاجر المعنون "المهاجر العاملي الشيخ حبيب آل ابراهيم – سيرته، اعماله، مؤلفاته، شعره" كي يضيء مفاصل اساسية من سيرة كبير "ينبغي ان يُعرف وان يكون سنّة حسنة، وان لا يضيع في دروب الزمان"، وذلك من خلال إطلالة المؤلف، لا بل غوصه في مختلف جوانب تلك السيرة، توخياً لتحقيق الاهداف المعلنة اعلاه التي تشكل كلاً متماسكاً. لكننا نشاء، ولمعرفة منا بما قد تؤول اليه ذكرى السابقين واعمالهم وانجازاتهم، ان نركز على العبارة الاخيرة: الضياع في دروب الزمان، اذ يبدو هذا الضياع قدرا محتوما يصيب في وطننا اعمال بعض الكبار، فتختفي اخبارهم وتضحياتهم بين غياهب الحياة اليومية ومشكلاتها اللامتناهية. واذا كان من استثناءات، هنا وهناك، يُذكر على اساسها الراحلون وتستعاد انجازاتهم، فهذا الامر يغيب، بالمصادفة او بغيرها، عن بعلبك التي لا يُذكَر رجالاتها الا في مناسبات يباعد الزمن بين مواعيدها، ويفترض القيام بها جهودا فردية، لا يبذلها الا قلائل.
ذكر هذه الحقيقة يبيّن الجهد الذي بذله الشيخ جعفر المهاجر، وتطلب، من دون شك، وقتاً طويلا تمت خلاله الاستعانة بجملة من الوثائق والمعلومات، كي تأتي السيرة على اكبر قدر من الشمول والدقة و"ان تكون عناصرها مركبة بأكبر قدر من الحياد تسمح به النفس البشرية"، مع ما يستدعيه ذاك الشمول من اضاءة على اعمال الشيخ حبيب التي توزعت بين ميادين عديدة استنادا الى كونه فقيها مبلّغا، وبوصفه، ايضاً، فقيها عاملا على دفع شعبه الى النهوض والتحرر من عوامل التخلف واسبابه.
كتابة سيرة من هذا النوع ليست مسألة سهلة، وخصوصا حين تتداخل في سياقها حوادث ومعطيات ومؤثرات موضوعية تتعلق بالفترة التاريخية التي عاش خلالها الشيخ حبيب آل ابراهيم. يشبّه المؤلف كتابة السيرة بتشييد عمارة لا خلاف على نوعية الحجارة المستعملة في بنائها واهميتها، لكن النتيجة النهائية لا تُلحظ ولا تكتسب دورها الوظيفي – الجمالي الا تبعاً للكيفية التي يتم على اساسها تركيب تلك الحجارة ورصفها، وهذا من شأنه ان يضمن ثبات البنية من ناحية، ويؤمّن لتلك الحجارة – المواد، من ناحية اخرى، مكانتها الصائبة ضمن الشكل العام. لكن ذلك كله سيكون معطوفا على هاجس سيسكن الكاتب من الصفحة الاولى حتى الاخيرة، وهو هاجس الحياد. فالشيخ جعفر المهاجر هو حفيد الشيخ حبيب، ويعلم تماما ان غياب عامل الحياد، او انحساره، سيُفقد العمل قيمته التوثيقية، او قد يؤدي الى تحريف بعض الوقائع خدمة لمصلحة معينة.
لكن الكاتب ينجح في توظيف صلة القربى الحميمة تلك من وجهها الايجابي، الذي يصب في مصلحة العمل. اذ هو يمتلك، دون سواه، مجموعة من الوثائق والمعلومات الشخصية لم يكن في امكان شخص آخر توفيرها، او الحصول عليها بالقدر نفسه من السهولة، النسبية في طبيعة الحال. واذا كان هناك من حافز، او عامل، مساعد، فهو اهتمام الكاتب بشؤون التاريخ في شكل عام، معقودا على خلفيته الدينية والثقافية، وعدم اهماله لما اوكل اليه من وثائق. اذ نعلم ان كماً كبيراً من الوثائق والدلائل والكتابات، وحتى الصور الفوتوغرافية، ضاع واختفى اثره بعدما اوكل امره الى اقرب الأقربين، في حال عدم تقدير هؤلاء لقيمة ما أوكل اليهم بحفظه، وقلة اهتمامهم بالموضوع، وانصرافهم الى أمور أخرى.
شيّد الشيخ جعفر المهاجر "بناءه" معتمداً أسساً منهجية واضحة تنم عن معرفة بكيفية التعاطي مع موضوع السيرة. تجلت هذه المعرفة في طريقة تركيب العناصر، وتحديد الفصول التي وصل عددها الى ستة، كان لا بد أن تحتل السيرة الاولية مقدمتها لتحكي قصة حياة الشيخ حبيب من الولادة حتى الوفاة، والاستشهاد خلالها بمقاطع من مذكرات كان الشيخ كتبها في مراحل معينة، وانقطع عنها في مراحل أخرى. السلاسة المميزة لهذا الفصل، تجعل قراءته سهلة وممتعة، وإذ تمت الاشارة فيه الى مفاصل اساسية في حياة الشيخ حبيب، فإن الخوض في تفاصيلها، وتلافياً لقطع تسلسل الاحداث، تأجل الى الفصول اللاحقة كي لا تأتي تلك التفاصيل مجتزأة أو ناقصة. أحاطت فصول أربعة أخرى بمجمل منجزات الشيخ حبيب، بدءاً بأعماله في حقل التبليغ والارشاد، مروراً بأعماله في الميدان النهضوي والميدان العام، وصولاً الى مصنفاته والى شعره المنظوم خلال فترات حياته المختلفة، ويختتم الكتاب بملحق يضم صوراً ووثائق مأخوذة من ارشيف المؤلف.
توزعت مجريات سيرة الشيخ حبيب بين لبنان والعراق وسوريا، وكانت أعماله في الميادين المذكورة أعلاه موزعة، في طبيعة الحال، بين البلدان الثلاثة، مع الفرق في طبيعة هذا العمل، لا من حيث الجوهر بل من حيث ارتباطه بظروف تاريخية واجتماعية محددة. ففي العراق، مثلاً، لعب دوراً اساسياً في التصدي للحملات التبشيرية البروتستانتية، التي كانت دينية في ظاهرها وسياسية في باطنها، خلال أعوام ١٩٢٧-١٩٣٢. وفي مدن الساحل السوري عمل على إنشاء مدارس، وعلى توثيق الصلة بين جبل عامل وجبل العلويين، أما مدينة بعلبك فقد نذر لها الجزء الاكبر من حياته، كما يُخيّل لنا، لأنه الجزء الأقرب الينا بحكم انتمائنا الى المدينة، وبحكم رؤيتنا الدائمة لكتابه المتسلسل "الاسلام في معارفه وفنونه" في مكتبتنا، وايضاً بحكم ما سمعناه عن المدارس التي أسسها في المدينة وجوارها.
لكن ما ورد ليس سوى غيض من فيض، فالتفاصيل التي نجدها في كتاب الشيخ جعفر أكثر من تُذكر على صفحات قليلة، وأن يُحاط بها ولو من بُعد. لقد تطلب إنجاز الكتاب عملاً مضنياً، لكنه على ما يقول المؤلف: "أتاح لي أن اكتشف كبيراً، كنت أزعم لنفسي انني أعرفه، بما له عليّ من حق الأب والمربي والراعي. لكنني أثناء عملي في هذا الكتاب كنت كلما غصت في تفاصيل سيرته وأعماله، وجدت أنني بحاجة الى استنفار كل ما لديَّ من قدرة على الكشف والاكتشاف". يضيف: "كلما كانت شخصية صاحب السيرة أعمق نفاذاً في مسام زمنه، وأبعد أثراً في ما عمل عليه، كانت مهمة الكاتب وهو يتتبع خطاه أكثر صعوبة. ولكن سعادته بالكشف أعظم وأحلى".
ما من شك في أن الكشف والاكتشاف جاءا في مصلحة شمولية السيرة وغنى المتن، يضاف الى ذلك جمالية الاسلوب وبلاغته، ما يجعل قراءة العمل ممتعة، وتصب، أولاً وأخيراً، في مصلحة القارئ والحقيقة التاريخية في آن واحد.
المصدر : بيروت – محمد الحسيني
رقم: 21607