ما بعد الفلوجة ليس كما قبلها. «العاصمة الروحية» لتنظيم «داعش»، ظلّلتها خطوط حمرٌ أميركية ــ خليجية منعت تحريرها إلا عبر بوابة «التحالف الدولي»، وربطاً بجدول أعمال تقسيمي لبلاد الرافدين عنوانه الإقليم السني، في موازاة إقليم كردي وآخر شيعي. لذلك، أكثر من أي منطقة أخرى في العراق، يجسّد تحرير الفلوجة إسقاط هذا المشروع، من دون أن يعني ذلك يأس المتآمرين.
محمد بدير
ما بعد الفلوجة ليس كما قبلها. «العاصمة الروحية» لتنظيم «داعش»، ظلّلتها خطوط حمرٌ أميركية ــ خليجية منعت تحريرها إلا عبر بوابة «التحالف الدولي»، وربطاً بجدول أعمال تقسيمي لبلاد الرافدين عنوانه الإقليم السني، في موازاة إقليم كردي وآخر شيعي. لذلك، أكثر من أي منطقة أخرى في العراق، يجسّد تحرير الفلوجة إسقاط هذا المشروع، من دون أن يعني ذلك يأس المتآمرين. الوجهة الآن هي الموصل: «هرولة» أميركية نحو «مصادرة» تحريرها المفترض من «الحشد الشعبي»، في سياق تبرير عودة آلاف المستشارين العسكريين إلى البلد الذي طُردوا منه قبل سنوات.
على قساوتها البالغة، كانت تفجيرات الكرادة وبلد (وبعدهما الراشدية وغيرها) متوقعة في ضوء الهزيمة الكبرى التي لحقت بـ«داعش» في الفلوجة.
سياق المواجهة القائمة مع التنظيم الإرهابي في العراق منذ عامين يفيد بأن «داعش» لجأ إلى الانتقام من الهزائم التي تلحق به في كل معركة تمكن فيها «الحشد الشعبي» والقوات الأمنية العراقية من تحرير إحدى المناطق من سيطرته عبر إطلاق موجة من العمليات الانتحارية وسط أماكن مدنية مكتظة حاصداً أرواح العشرات من الأبرياء. الحال أن وقع هزيمة الفلوجة كان استثنائياً - استراتيجياً وسياسياً وميدانياً- وربما لذلك جاء الانتقام استثنائياً في همجيته.
في الميدان، يتحدث عارفون عن الصعوبات التي انطوت عليها «منطقة عمليات» الفلوجة واشتمالها لمزيج من التعقيدات التكتيكية المتشابكة: المسطحات المائية الكثيرة، فالمساحات الحرشية الكثيفة (في أحزمة المدينة)، وأخيراً المربعات العمرانية العشوائية والنسقية داخل المدينة نفسها. ذلك فضلاً عن شبكة التحصينات والاستحكامات الشائكة والواسعة التي كان «داعش» قد نشرها في المدينة ومحيطها وشكلت خطوطاً دفاعية ذات حرفية عالية في إعاقة أي تقدم.
وفي النطاق الأوسع، لا يمكن فهم أبعاد هزيمة الفلوجة من دون فهم أهمية المدينة بالنسبة لـ«داعش» ولمن هم في موقع التوظيف الإقليمي والدولي له. فالمدينة تمثل، دون مبالغة، العاصمة الروحية للتنظيم، وهي كانت المنطقة الأولى التي سقطت في يده في شباط 2014، أي قبل أربعة أشهر من اجتياحه المنسق لمحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى والأنبار ووصوله إلى تخوم بغداد العاصمة. وهي كانت قطب الرحى في حراكه الميداني ونشاطه التنسيقي واللوجستي والثقافي ما بين أطراف «أرض الخلافة»، بعد أن اتسعت لتشمل الموصل والرقة.
أما بالنسبة لعرّابي التنظيم الإقليميين والدوليين، فالفلوجة هي مهد «الثورة العراقية» التي انطلقت من ساحاتها متخذة شكل الاعتصامات والتظاهرات، في سياق مشروع تقسيمي للعراق، قبل أن تكشف لاحقاً عن وجهها الحقيقي: المسلح، الدموي والإقصائي ــ الإبادي. وعلى أساس ذلك، كانت المدينة، بوصفها مركز الثقل في محافظة الأنبار، إلى جانب كلٍّ من تكريت (عاصمة محافظة صلاح الدين) والموصل (عاصمة محافظة نينوى) محصنة بخطوط حمراء أميركية وخليجية تحول دون تحريرها إلّا ربطاً بجدول أعمال إما تقسيمي (دولة أو إقليم سني) أو استتباعي نيوكولونيالي (معاهدات استراتيجية مع الحكومة العراقية تعيد الاحتلال الأميركي بصيغ مقنعة ومقوننة).
وبرغم كسر التابو في تكريت، من خلال إقدام «الحشد» والقوات العراقية على تحريرها (آذار 2015) رغماً عن الفيتو الأميركي ــ الخليجي، بقيت الفلوجة مظلّلة بفيتو كهذا على اعتبار أن تحريرها - المشروط بجدول الأعمال الأميركي الخليجي - هو من حصّة التحالف الدولي. وهكذا توجهت جهود «الحشد» بعد تكريت - بسبب تحفظ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، على أولوية تحرير الفلوجة في حينه - نحو محافظة صلاح الدين مجدداً فخاض عمليتين كبيرتين حرّر فيهما كلّاً من منطقة بيجي (تشرين أول 2015) وجزيرة الثرثار (آذار 2016) قبل أن تتجه بوصلة التحرير مرة أخرى نحو الفلوجة.
على أن قرار استعادة الفلوجة من «داعش» لم ينضج لدى العبادي دون مخاضات عسيرة، جعلت من القرار نوعاً من الضرورة السياسية التي جرى تظهيرها على شكل فضيلة. فالرجل رحّل تحرير الفلوجة عاماً كاملاً برغم أنها تقع على تخوم بغداد وتشكل تهديداً مباشراً عليها لا يقارن، من حيث الخطورة، بوجود «داعش» في بيجي أو جزيرة الثرثار الواقعتين على مسافة نحو 200 كلم شمال العاصمة.
وقد تصدى العبادي - تماشياً مع الموقف الأميركي الخليجي- لضغوط مستمرة مارسها عليه «الحشد» لإعطاء تحرير الفلوجة الأولوية العملياتية، خصوصاً أن خطط تحريرها كانت جاهزة منذ أكثر من عام. إلا أن تطورين أساسيين دفعا برئيس الوزراء العراقي إلى التراجع والاستجابة لضغوط «الحشد»، هما التفجيرات التي عصفت ببغداد شهر نيسان الماضي ونُسِبَ مصدرها إلى الفلوجة، والأزمة السياسية الداخلية التي انتهت إلى اقتحام المنطقة الخضراء والمطالبة باستقالة السلطة الحاكمة. تطوران صعّدا النقمة الشعبية على الحكومة وأحوجا العبادي إلى محور حدثي آخر يخطف الاهتمام العام ويعزز رصيده الشعبي، فكان قرار تحرير الفلوجة. لكن رغم ذلك، لم يُسقِط العبادي جميع تحفظاته المُملاة أميركياً وحاول إمرار بعضها في طيات القرار، فكان أن اشترط على «الحشد» عدم دخول الفلوجة واقتصار منطقة عملياته على أحزمتها من كل الجهات، وهو ما التزم به «الحشد»، لكن مع الاحتفاظ لنفسه بحق التدخل لمساندة الجيش والقوى الأمنية الرسمية اللذين أنيطت بهما مهمة تطهير المدينة نفسها إن هما احتاجا إلى ذلك، وذلك ما أعلنه أبو مهدي المهندس من على تخوم الفلوجة بعد فراغ قواته من تحرير حزامها كاملاً.
إلا أن امتناع «الحشد» عن دخول الفلوجة (خلال العمليات)، لم يُلغِ الحساسية المفرطة التي خلّفها تحريرها لدى رعاة «داعش» الإقليميين والدوليين، وعلى رأسهم السعودية وتركيا. حساسية تجلّت - بحسب مراقبين- بردود فعل انطوت على ما يشبه فقدان التوازن في ساحات التأثير المباشر الخاصة بها، مثل اليمن وسوريا والبحرين. وفي هذا الإطار لا يفصل هؤلاء المراقبون بين حدث تحرير الفلوجة وخطواتٍ موازية زمنياً شهدتها تلك الساحات، مثل إجراء سحب الجنسية من الشيخ عيسى قاسم، أو التصعيد الذي شهدته اليمن من قبل العدوان السعودي خصوصاً على جبهات تعز ولحج ومأرب وصنعاء، وكذلك التصعيد الذي شهدته جبهة حلب في سوريا.
أيّاً يكن، يبقى أن لتحرير الفلوجة آثارٌ ونتائج تجعل ما بعد تحريرها ليس كما قبلها. فعلى المستوى الميداني، توّجت عمليات الفلوجة السياق التصاعدي لتمرّس القوات العراقية، وخصوصاً «الحشد الشعبي»، على كل أنواع القتال (المديني، الصحراوي، الحرشي، الخ) بحيث بات يمكن القول إنه لم يعد يستعصي عليه أيٌّ صنفٍ من المواجهات ضد هذا العدو. الأهم على هذا الصعيد، ليس أن القوات العراقية، وفي مقدمتها «الحشد»، قد استوعبت وخبرت كل التكتيكات القتالية لـ«داعش» وطورت أساليبها الخاصة في مواجهتها، بل في أن العراقيين أَسقطوا من أنفسهم فوبيا «داعش» التي أريد لها أن تكون السلاح الأساسي في الاجتياح الوحشي للتنظيم الإرهابي.
أما سياسياً واستراتيجياً، فلم يعد مبالغةً القولُ إن المشروع الكبير والخطير الذي أريد لـ«داعش» أن تكون رافعته في العراق قد انتهى. تكفي نظرة واحدة إلى «وضعية السيطرة» الجغرافية على الخريطة العراقية ليخلص المرء إلى الاستنتاج الحاسم بأن مصير «داعش» قد بات محسوماً بالمعنى المبدئي، وأنّ المسألة ليست إلا مسألة وقت لاستكمال تحرير بقية المناطق التي لا تزال تخضع لسيطرته. مناطق صارت محصورة في مدينة الموصل ومحيطها بمحافظة نينوى، وقضاءي الشرقاط وحويجة في محافظتي صلاح الدين وكركوك، وشريط ضيق في صحراء الأنبار يمتد من بلدتي عانة وراوة (ما بعد مدينة حديثة) وصولاً إلى الحدود السورية. وتشهد الخريطة بوضعيتها هذه على الانحسار الكبير جداً التي تمكن «الحشد الشعبي» والقوات النظامية العراقية من فرضه على التمدد الداعشي خلال عامين فقط خاضا فيهما إحدى عشرة عملية كبرى تكللت جميعها بنجاحات حاسمة، وتحرر بنتيجتها أكثر من ثلاثين ألف كلم مربع.
وضمن هذا السياق بالتحديد، يأتي إسقاط الخطوط الحمراء الأميركية والخليجية من أمام إرادة التحرير العراقية التي أكثر ما تجسدت في «الحشد» بفعل طغيان البعد التطوعي الشعبي المقاوِم في هويته، خلافاً للقوات النظامية الخاضعة للحكومة وحساباتها المتشابكة. وضمن هذا السياق أيضاً يمكن فهم «الهرولة» الأميركية باتجاه الموصل تحت جناح القوات العراقية النظامية، وهو ما تجسد مؤخراً بالوصول إلى قاعدة القيارة واتخاذها مستقراً لإدارة وتنسيق عمليات تحرير كبرى المدن الشمالية وإرسال أكثر من 500 جندي للتموضع فيها. فالخلفية الأكيدة لهذه الهرولة، بعد تريّثات واشتراطات وتعويقات تواطئية على مدى العامين الماضيين، هي المسارعة إلى «مصادرة» ملف تحرير الموصل والاستئثار به من دون «الحشد»، بوصفه الذريعة الوحيدة المتبقية لتعليل وتبرير عودة الحضور الأميركي العسكري في العراق؛ حضور بات يقترب حالياً من سقف الخمسة آلاف جندي (للتذكير: المطلب الأميركي في إطار التفاوض على المعاهدة الاستراتيجية مع الحكومة العراقية قبل الانسحاب عام 2009 كان يتحدث عن بقاء 10000 جندي).
وعلى هذا الأساس ليس من مصلحة الولايات المتحدة ولا هي تريد لأحدٍ – داخل العراق أو خارجه - أن يسأل أو يتساءل: إذا كانت الجهود المحلية الخالصة (مع دعم إيراني محدود جداً) تمكنت من تحرير معظم الأراضي العراقية التي احتلتها «داعش»، فلماذا يتطلب الأمر حضوراً أميركياً في معركة الموصل، وهي معركة ليس مفترضاً أن يكون فيها شيء استثنائي يميّزها من الناحية العسكرية عن بقية معارك التحرير التي نفذتها القوى العراقية.
الورقة الوحيدة التي يسعى الأميركيون –عبر أدواتهم- إلى لعبها في هذا الإطار هي الاستهداف المنهجي لإفقاد «الحشد» «الأهلية الوطنية» لتحرير الموصل (كبرى المدن السنية العراقية) من خلال شيطنته طائفياً. علماً أن واقع الحال، والسوابق الميدانية التي سجّلها «الحشد الشعبي»، بأغلبيتها الساحقة، تجزم بأن الحساسية التي أبداها قادته ومقاتلوه تجاه المناطق السنية أثناء عمليات التحرير تتجاوز بأضعاف ما يبديه طيران التحالف الدولي في غاراته.
السؤال الأساسي إزاء هذا الواقع يتعلق بموقف «الحشد»، كقوة وطنية عراقية، أثبت خلال عامين فقط من التأسيس والنمو كل الكفاءات المطلوبة لمواجهة «داعش» وإنجاز التحرير دون منّة من أحد أو ارتهانٍ لأحد. هل سيترك الموصل لتتحرر على الطريقة الأميركية، وضمن سياق الأهداف الأميركية المشبوهة، أم أنه سيفرض نفسه في الميدان رغماً عن كل شيء؟! المؤشرات الأولية المتوفرة تفيد بأن «الحشد» لن يترك الساحة للآخرين، خصوصاً أن القاصي والداني يشهد له بأنه القوة المحلية الوحيدة في الإقليم التي تمكنت من إلحاق الهزيمة بـ«داعش» ــ حيث التحم معها ــ بغير «شراكة دولية» (إقرأ: الأكراد). نعم، يجاريه في ذلك حوثيو اليمن ومقاومو لبنان.
داخل مدينة الرمادي
في مقارنة بين عملية مدينة تكريت (التي كان لـ"الحشد" دور رئيسي في تحريرها)، وبين عملية مدينة الرمادي التي حرّرتها القوات النظامية العراقية بإشراف «استشاري» أميركي مباشر وتحت غطاء «تحالف واشنطن» الجوي، أن يظهر حجم الدمار الذي خلّفه «المساعد الغربي». كذلك، تتحدث الإحصاءات والإفادات الموضوعية عما لا يزيد عن 300 وحدة سكنية (أمامية بمعظمها) تعرضت للدمار في تحرير تكريت، فيما تحدثت منسقة الأمم المتحدة للعمليات الإنسانية في العراق، ليز غراند، عن «ذهولها» لحجم الدمار في الرمادي الذي قالت إنه «أسوأ من أي مكان آخر في العراق». وقد أشارت تقارير حكومية في حينه إلى «نسبة دمار تبلغ 80 % في المدينة»، من ضمنها، على سبيل المثال، 260 مدرسة، 400 طريق، أكثر من 3000 منزل، و64 جسراً، المستشفى ومحطة القطارات الرئيسيان. أما المصادر المحلية، فقد تحدثت آنذاك عن تضرر البنية التحتية الخدماتية في المدينة بنسبة 100%.