الاسلام ينظر الى تحقيق العدالة الاجتماعية وخاصة التوازن الاقتصادي بين طبقات المجتمع امر فطري ومن اهداف الانبياء الكبرى , ولا يتحقق الا اذا تحقق التكافل الاقتصادي والتوازن في مستوى المعيشة .
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) :
اية الله محمد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين وصحبه الميامين وبعد: للعدالة الاجتماعية مجالات عديدة: منها المجال الإقتصادي، والمجال الحقوق، والمجال الأمني، والمجال الأخلاقي والتربوي وغيرها. الا انه عندما تطلق باللغة الاجتماعية المتداولة فان الإطلاق ينصرف أكثر فأكثر الى المجالين الأولين (الاقتصادي والحقوقي) ومن هنا – ولعدم توفر الفرصة لدراسة كل الجوانب- فقد اقتصرنا على الجانب الأول آملين أن نعطي نظرة سريعة مستندة الى نصوص نهج البلاغة، رغبةً في استجلاء الصورة الاسلامية المُثلى. وقبل ان نعرض موجزاً عن التصور الاقتصادي الأمثل وتطبيق الإمام علي عليه السلام نستعرض بعض النصوص التي أكد فيها على العدل بشكل عام: يقول عليه السلام: "ان من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، ... قد ألزم نفسه العدل؛ فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به... قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه. 1 ويقول في كتابه الى مالك: وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعية.. ويقول في كتابه الى الأسود بن قطبة قائد الجيش في حلوان فارس: فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء؛ فانه ليس في الجور عوض من العدل. 2 ويقول عليه السلام: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً أو أجر في الأغلال مصفّدا، احبُّ إليّ من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد. 3 وفي نفس الخطبة يقول: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة اسلبُها جُلب شعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمُها، مالعلي ولنعيم يفنى ولذةٍ لا تبقى. ومن جميل كلماته قوله عليه السلام: ... ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. 4 وكذلك: ... إن الله فرض على ائمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضَعَفةِ الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرُه. 5
موجز في التصورالإقتصادي الأمثل للإسلام: إن الإسلام دين واقعي فطري، ولذا فهو لا يعمل على اغفال الحقائق الخارجية ومنها الحقيقة الفطرية، كما يسعى بكل الأساليب للارتفاع بمستوى الواقع الى الشكل الأمثل. وعلى هذا فقد لاحظ الإسلام – في تصوره للوضع الإقتصادي السليم- واقع الإنسان ودوافعه، وواقع المساحة التي يعيشها، ومن ثم خطط لإسعاد المجتمع في هذا المجال ضمن تخطيطه العام الأوسع.
وإذ لم نكن بصدد إعطاء النظرية الإسلامية فلابد من الإشارة الى خطوطها الرئيسية: وما نعتقده ان الإسلام عيّن المشكلة أولاً ثم راح يسعى للحل الجذري. وهذه المشكلة تتلخص في أمرين (الظلم، والكفر بأنعم الله). ولو ارتفعنا فقد حلت المشكلة تماماً. فهذا القرآن الكريم بعد ان يذكر نعم الله، يعقّب على ذلك بقوله تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الإنسان لظلوم كفار) (ابراهيم/٣٤) ومن هنا فاننا نجد الإسلام يصب كل جهوده لرفع هذين الجانبين من المشكلة فيعمل على تحقيق ما يلي:
اولاً: تنمية الانتاج والاستفادة القصوى من النعم الموفرة. وثانياً: تحقيق العدالة الاجتماعية والقسط، وقد أكد هذا كثيراً في مختلف نصوصه، ومنها جعل القسط أحد أهداف الأنبياء الكبرى. وهو يرى – هنا- ان القسط لا يتحقق إلاّ إذا تحقق مبدآن هما:
أ- التكافل الإقتصادي ب- التوازن في مستوى المعيشة وهما أمران يشترك الشعب والحكومة في القيام بأعبائهما على اختلاف بين المسؤوليات. وليتحقق التوازن الاقتصادي في مستوى المعيشة يجب العمل على الارتفاع بالطبقة الفقيرة الى حد (الغنى)، وهو الحد الذي يوفر للإنسان حاجاته الطبيعية. وقد جاءت في هذا نصوص شريفة؛ كما يعمل على منع الإسراف والهبوط بالمستوى الذي تعيشه الطبقة المترفة والمسرفة الى الحد الطبيعي، ولا يبقى بين مستويات المعيشة إلاّ تفاوت معقول ومقبول يضمن قربها من جهة وبقاء الدافع المادي المحرك للانتاج الأكثر من جهة أخرى.
واننا لنجد الخطوات الاقتصادية التي قام بها الإمام أمير المؤمنين تسير كلها في هذا الاتجاه. فلنتتبعها إذن تتبعاً سريعاً لنجد الروعة التي طرحها الإسلام وطبقها الإمام في دولته الإسلامية. ونستطيع ان نقسم هذه الخطوات الى قسمين:
الخطوات التربوية النفسية العقائدية. والخطوات القانونية التشريعية. وكلها تصب في الأهداف الماضية كما سنلاحظ. ولكن قبل بيان هذين القسمين يجب ان نلاحظ ان بعضهما قد يميل الى جانب تنمية الإنتاج، والآخر الى العدالة في التوزيع، ولكن لما كان الحقل الانتاجي والحقل التوزيعي مترابطين بشكل رائع فقد آثرنا ان نقسمهما الى خطوات انتاجية وأخرى توزيعية. اما على الصعيد النفسي: فيمكننا ان نختار من تعلميات الإمام الأمور التالية:
١- العمل على تعميق العقيدة في النفوس بحيث يتحول الوجود الانساني الى وجود موحِّد مطيع لله تعالى مضحٍّ في سبيله بكل ما يملك. ونهج البلاغة مليء بمثل هذه التربية العقائدية. ومن الواضح ان العقيدة إذا تعمقت انبثقت منها مفاهيم اجتماعية رائعة لها تأثيرها الأكبر في مسير الحياة الاجتماعية، وتلك من مثل مفاهيم: (خلافة الانسان لله) و (التحويل المالي للانسان من قبل الله) و (الأخوة الاسلامية) و (الربح والخسارة في التصور الإسلامي) وغيرها.
كما ان هذه الحقيقة والمفاهيم تترك آثارها في صياغة العواطف الإسلامية نحو المتقين والأخوة المؤمنين مما تمهد أكبر التمهيد لتطبيق التصور الإسلامي المذكور، والاندفاع نحو الإنفاق، وهكذا يتم الربط بين الزهد والإنفاق. يقول عليه السلام لعلاء بن زياد الحارثي وقد رأى سعة داره: "ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخر كنت أحوج؟ وبلى ان شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف وتصلُ فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فاذا أنت قد بلغت بها الآخرة؟ ٢- ونهج البلاغة مليء أيضاً بالتعليمات التي تحقق للانسان نظرة طريقية للجوانب المادية في هذه الحياة فـ "من أبصر بها بصَّرته، ومن أبصر إليها أعمته". 6 ٣- التأكيد على ذم الحياة المترفة التي لا تشعر بالآم المعوزين، وهكذا ذمَّ الإسراف والمسرفين وبيّن انحرافهم عن الصراط الإنساني.
يقول الإمام علي عليه السلام: "أقبلُوا على جيفّة قد افتضَحُوا بأكلها واصطلَحوا على حُبّها، ومن عَشِق شيئاً أعشى بَصَرهُ، وأمرضَ قلبَهُ، فهو ينظر بعين غير صحيحة قد خرقت الشهوات عقلَهُ، وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه، فهو عبدٌ لها ولمن في يديه شيء منها،..." وهكذا يستمر هذا الوصف الى ان يشرف بهم على سكرات الموت فيقول: "فهو يعض يده ندامةً على ما أصخرَ له عند الموت من أمره، ويزهدُ فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه!" الى ان يقول عليه السلام: "فصار جيفةً بين أهله، قد أوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، ولا يُسعدُ باكياً، ولا يُجيب داعياً". 7 ويقول في خطبة رائعة أخرى: "سلطانها دولٌ (أي الدنيا) وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبرٌ، وغِذاؤها سمامٌ، وأسبابها رمامٌ، حيُّها بعرض موت، وصحيحُها بعرض سُقم، مُلكُها مسلوب، وعزيزُها مغلوب، وموفورها منكوب"- الى أن يقول عليه السلام:- "أفهذه تُؤثرون، أم إليها تطمئنون، أم عليها تحرصون؟" 8
ولتحقيق السمو في آمالهم يقول: "ولو تعلمون ما أعلمُ مما طوي عنكم غيبُهُ، إذاً لخرجتم الى الصُّعداتِ تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسِكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها". "أما رأيتم الذين يأملون بعيداً، ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً، كيف أصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين وأزواجهم لقوم آخرين". "ألا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة! وما يصنع بالمال من عمّا قليل يُسلَبُه وتبقى عليه تبعته وحسابه".
ويتحدث عن الرسول صلى الله عليه وآله فيقول: "ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: "يا فلانه- لإحدى أزواجه- غيّبيه عنّي، فإنّي إذا نظرتُ إليه ذكرتُ الدنيا وزخارفَها". 9
من كتاب له الى زياد: "فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبّرين، وتطمع – وأنت متمرّغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة – أن يوجب لك ثواب المتصدّقين؟ وإنما المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدّم". ٤- التذكير الدائم بأن المال مادة الشهوات، وأنه سبب لانحراف الإنسان إن لم يُبذل في سبيل الله. فقد أمر واليه "أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات فإن النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم الله". وقال عليه السلام : "المال مادة الشهوات". "ما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني". ٥- تعميق مفهوم العمل في سبيل الله ونسيان الذات في هذا الصدد، وإذا تعمّق هذا المفهوم حلّت مشكلة التعارض بين المصالح الاجتماعية، وكان التمهيد الأروع لتحقيق القسط. ومن أروع النصوص تطبيقاً للتوحيد بين المصالح الذاتية والاجتماعية قوله: "فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك، فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك الى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج اليه فاغتنمه وحمّله إيّاه، وأكثِر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك، واعلم أن أمامك عقبة كؤوداً..." 10 ٦- التأكيد على لزوم العمل وتحصيل الرزق وعدم الذلّة عند الحاجة. يقول عليه السلام: "قد تكفّل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عملُه". ٧- تركيز الإحساس بآلام الآخرين وخصوصاً في مجال تحسيس الحكام بالتفكير الدائم بضُعفاء شعوبهم، فيقول: "وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله". ويقول عليه السلام: "فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب ابتغاء الثواب، فإن فوزاً بهذه الخصال شرفَ مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة –إن شاء الله-". 11 ٨- إعطاء صورة عن المثل الأعلى، وهي تتمثل تاريخياً بالأنبياء عليهم السلام وبه عليه السلام كقائد يمارس القيادة الفعلية في ذلك المجتمع على أساس نهج الأنبياء. يصفهم فيقول عنهم: (وكانوا قوماً مستضعفين، قد اختبرهُمُ الله بالمخمصةِ وابتلاهم بالمجهدةِ، وامتحنهُم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرضى والسخط بالمال والوَلدِ جَهلا بمواقع الفتنة، والاختبار في موضع الغنى والاقتدار. فقد قال سبحانه وتعالى: "أيحسبون ان ما نُمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم). 12 ويقدم بنفسه النموذج العملي الصادق: حيث يقول: "فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرت من غنائمها وَفراً، ولا اعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من ارضها شبراً". 13
وأيمُ اللهِ- يميناً استثني فيها بمشيئة الله- لأروِّضَنَّ نفسي رياضة تهش مها الى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدَعَنَّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دُمُوعها، اتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك.؟ وتشبع الرَّبيضَةُ من عُشبها فتربض، ويأكل عليٌّ من زادِه فيهجع؟ قرَّت اذاً عينُه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالهيمة الهاملة. ٩- اعطاء بعض الصور المتكاملة عن مجتمع المتقين واتصافه بكل عناصر التقدم المادي بالاضافة للتقدم المعنوي. عن التنمية الاقتصادية يقول عليه السلام: "واعلموا ان المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، واكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حَظِي به المترفون". 14
وفي التأكيد على العمل الاقتصادي يقول عليه السلام: "ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فانهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجُلابها من المطارح والمباعد". ١٠- وبالتالي التأكيد على ربط الانتاج بالتوزيع، وذلك كما جاء في كتاب الإمام الى حبيبه محمد بن أبي بكر وعامله على مصر. واما على الصعيد القانوني: فاننا نلمح التطبيق الكامل للتعاليم الإسلامية في دولته ونذكر من الخطوات التي تمت في هذا السبيل: ١- قول الإمام لواليه على مصر ان التجار هم مواد المنافع وهذا يعني ان التجار يجب أن تتخذ وجهة اقتصادية وتبتعد عن أعيب الانحراف بالمال عن وظيفته الرئيسية فيقول عليه السلام: "ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فانهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجُلابها من المطارح والمباعد". 15
٢- واعلانه عن الاتجاه الاسلامي لمنح نتيجة العمل على المادة الابتدائية أو شبهها (كما يؤخذ في الحرب) للعامل نفسه ولهذه القاعدة تأثيرها الى حد ما حتى في المجال الآخر (اي العمل على غيرالمادة الابتدائية) فيقول عليه السلام لأحد أصحابه وقد جاءه يطلب مالاً: "ان هذا المال ليس لي ولا لك، وانما هو فيء للمسلمين، وجلبُ اسيافهم، فان شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، وإلاّ فجناةُ أيديهم لا تكون لغير أفواههم". 16
٣- توفير أقصى حد من الأمن الاجتماعي الذي يساعد للغاية على تحقيق الأهداف الاسلامية في المجال الاقتصادي. ويتم ذلك عبر تطبيق نظام العقوبات الصارم بحق عمليات الاغتيال الاقتصادي والسرقة وقطع الطريق والربا و الاحتكار والكنز والقمار وإهدار الثورات، وقد راح يعلنُ انه سيسترجع اموال الأمة حتى ولو تزوجت به النساء. فيقول عليه السلام- عن بعض الأموال التي رأى أنها اخذت بغير حق- : "والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء، ومُلِك به الإماء لرددته، فانه في العدل سَعَة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق". 17
وبالنسبة للاحتكار يقول لمالك: "فامنع من الإحتكار، فان رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حُكرةً بعد نهيك اياه فنكّل به وعاقبه في غير إسراف". 18
والملاحظ هنا ايضاً ان المنع من الإحتكار هو نوع من أنواع السيطرة المركزية على الاقتصاد، ومن هنا فهو يطرح التسعير الحكومي. ٤- ومن المبادئ العملية التي طرحها الإمام اتباعاً للإسلام مسألة التأكيد الحكومي وتوجيه السياسة الاقتصادية نحو الطبقة الفقيرة أو كما عبر الإمام (الطبقة السفلى) ومن الواضح ما لهذا التأكيد من دور في تحقيق التوازن، وبالتالي تحقيق العدالة الاقتصادية فيقول لمالك: "ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤسي، والزّمني، فان في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للاقصى منه مثل الذي للأدنى... فان هؤلاء من بين الرعية أحوج الى الانصاف من غيرهم...". ٥- طرح مسالة التسوية في العطاء في الأموال العامة التي يشترك فيها المسلمون على السواء، وكانت هذه خطوة ثورية أزعجت الكثير من ذوي التكبر والاشراف فراحوا يتوسلون بمختلف الوسائل ليعدل عن هذه السياسة ولكنه كان يجيبهم بأمثال هذه الأجوبة: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويتُ بينهم فكيف وانما المال مال الله، الا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف". 19
٦- العمل على منع تركّز الثروة باساليب مختلفة: منها: ما مرّ من منع الإحتكار والكنز، والتسعيرة الحكومية، ومنها الإصرار على جمع الضرائب الزكوية الثابتة، ومنها فرض الضرائب (غير الزكوية المتعارفة) على الاجناس. فقد ورد عنه عليه السلام في رواية صحيحة انه وضع على الخيل العتاق الرعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً. ومنها التشجيع المتواصل على الإنفاق بالحسن المستحب. هذا الى ما في تطبيق باقي القوانين الإسلامية –كالارث- من دور في تفتيت المال ومنع تركز الثروة. كانت هذه بعض الخطوات الاقتصادية الاسلامية الضخمة التي خطاها على الصعيد القانوني لتحقيق الأهداف الكبرى التي اخذ على الأمة عهداً أن تصبر على تحقيقها. وهذه هي الصور الاسلامية للمجتمع الإسلامي السليم، ولكن ماهو الواقع؟ ان الواقع الاقتصادي القائم اليوم يختلف تمام الاختلاف عنها. فانك لتجد اختلال التوازن الى حد ضخم جداً، فيصل الدخل المتوسط لدى بعض المسلمين الى الصفر في حين يصل الداخل المتوسط في محل آخر الى ١٨٠٠٠ دولار، وتجد تحول مبدأ التكافل العام الى مجرد مساعدات صغيرة تمنح لتحقيق اغراض سياسية بحتة... اما التنمية الانتاجية فهي اما معدومة أو انك تجدها تنمية كاذبة بقيام معامل المونتاج المتعتمدة على الكفر العالمي تماماً والتي تفقد صفتها المستقلة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فهي تصب في جيوب مجموعة من المترفين الكبار المستغلين. وهكذا نجد الترف والإسراف في جهة، والجوع والحرمان في جهة اخرى، ونجد كل منطقة تتعامل مع المنطقة الإسلامية الأخرى كعميل اجنبي لا فرق بينه وبين أي عميل آخر. وهكذا يصدق قوله عليه السلام في تعبير رائع عن الصورة القائمة "اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدّل نعمة الله كفرً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً... افبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات...". 20 وفي ختام هذا الحديث نود أن نقدر للثورة الإسلامية الكبرى في ايران –بقيادة الإمام الزاهد العالم الشجاع الخميني الكبير – ما قامت به من خطوات رائعة في سبيل اعادة الصورة الاسلامية الأوفر، وتحقيق الأهداف الكبرى الأخرى، ونحن نشير الى ذلك باختصار: ١- العمل على تنمية الانتاج وشكر أنعم الله باكتشاف الذخائر المتوفرة ولكن في اطار نفي السيطرة الاجنبية وحذف ما يقرب من اربعين ألف خبير كانوا يمتصون دماءنا دون رحمة ويمهّدون للاستعمار السياسي والثقافي. ٢- العمل على تحقيق القسط الاجتماعي عبر تنفيذ مبادئ على جميع المنابع وتحقيق سيطرة قوية على المنابع الأمم مع الفسح المشروط للملكية الخاصة لكي تعمل عملها في إطار تنمية الانتاج ودون أن تؤثر على اختلاف التوازن أو تنكص عن أداء مهمة التكافل. ٣- العمل الحثيث على تركيز المقومات النفسية التي اشرنا إليها حتى لنكاد نجزم انها اليوم اكبر تأثيراً من أي اجراء قانوني. ٤- تطبيق الأحكام الإسلامية الثابتة واحداً بعد الآخر مما يترك اكبر الآثار في هذا المجال. ٥- التأكيد على الطبقة المحرومة وبذل اقصى المساعي للارتفاع بها. ٦- العمل على منع تركّز الثروة، والافادة من باقي الاشعاعات الاسلامية. ان ثورتنا الاسلامية لتفتخر انها اتبعت رسول الله صلى الله عليه وآله خير اتّباع وطبقت تعاليمه الإلهية التي فهمها تلميذه أمير المؤمنين عليه السلام وطبّقها في عهده الزاهر.